للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: أحد قراء المنار


جمعية المبشرين في روسية

أَنشأت مجلة الشورى التي تصدر في أرينبوغ من روسية في عددها السابع
عشر الصادر في سنة ١٩١٠ مقالة عنوانها (نحن والمبشرون) بقلم هادي أفندي
أطلاسف؛ الذي كان عضوًا في مجلس (الدوما) الأول، فاستحسنَّا نقلها لقراء
مجلة المنار الأغر، وتصرفنا فيها تصرفًا قليلاً.
بعدما بيّن حضرته في مقالته معنى التبشير لأبناء جنسه، قال: ما يأتي بعد.
إننا نعرف من الجمعيات جمعية تدعى (جمعية مبشري الكاثوليك) المقصد
الأساسي لها؛ هو التبشير بالنصرانية والاجتهاد في تنصير المجوس والوثنيين
وغيرهم من أصحاب الأديان، وهذه الجمعية المذكورة تجتهد في ذلك الصدد، وتجدّ
فيه منذ أمد غير قريب، فهي قصدت بمطلبها هذا ممالك الهند والصين من القرن
الخامس عشر بل الثالث عشر، وأخذت تنصر من أهالي تَيْنِك المملكتين بقدر ما
تستطيع، فتيسر لها أن تنصر من المجوس ما بلغ عددهم الآلاف بل الملايين، وكما
بينا عدد هؤلاء الذين تنصروا باجتهاد تلك الجمعية، يلزم علينا أيضًا أن نبين ما
صرفته في هذا الصدد؛ أي في تنصيرهم، ولا نكون مخطئين إذا قلنا: إن هذه
الجمعية لم تحظ بذلك الحظ الموفور، إلا بإتعاب نفسها القوية وصرف جهدها،
وبصرف المبالغ الكثيرة التي تعدّ بالملايين من الأصفر الرنان في سبيل ذلك.
وهؤلاء الضيوف الذين جاءونا من غير دعوة (أي المبشرون) ، ما اقتصرت
دعوتهم إلى النصرانية على البلاد التي أهلها من المجوس، بل تصرف جهدها
الجهيد الآن باتخاذ الوسائل؛ لنشر دعوتها في الممالك الإسلامية مثل سورية ومصر
وتركية وإيران.
كان عيسى عليه السلام رؤوفًا رحيمًا بجميع الناس، ووعظ أُمته بقوله هذا:
(لا تقتلوا نفسًا وأحبوا أعداءكم) ، ولكن كيف كانت سيرة هؤلاء الذين يدعون أنهم
ناشرو دينه عليه السلام لو كان حيًّا؟ الحق أن هؤلاء الذين يدعون أنهم ناشرو دين
عيسى عليه السلام، قد سلكوا مسلكًا يخالف تعليمه وهديه أشد المخالفة. منذ أمد
بعيد أُسست في روسية جمعيات كثيرة لأجل التبشير بالنصرانية، وتنصير من لم
يتنصر في هذه البلاد إلى الآن. وكثرت في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون (بل
يصح لنا أن نقول في بلاد المسلمين كقزان وقوقاز وقرغيز وغيرها.
أسسوا تلك الجمعيات بين المسلمين , ولكن كيف كان حظهم منهم؟ هل نالوا
الحظ الموفور مثل ما نالوا من المجوس؟ لا لا إنهم ما نالوا ذلك قط، بل كان
حظهم منهم الأقل في الأقل، مثلاً في سنة ١٨٩٣ صرفت جمعية أكتاي جهدها
المستطاع في هذا الصدد، فنصَّرت ثلاث مائة واثنين وخمسين نسمة. ولكن لم
يتيسر لها أن تنصر في هذا العدد الكبير غير ثمانية أشخاص فقط من المسلمين،
وفي سنة ١٩٠٦ لم يقع أحد في شركهم، وأما في سنة ١٩٠٧ فنصّروا مائة وأربعًا
وستين نسمة منهم ثلاث من المسلمين لا غير.
قلنا: كثرت تلك الجمعيات في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون، فنذكر الآن
من عمل تلك الجمعيات (جمعية مبشري القرغيز) ، وكم تنصر من القرغيز بهمة
تلك الجمعية؟ إنه تيسر لها في سنة ١٩٠٦ أن تنصّر ١٩ منهم، ولكنها لم يتيسر
لها تنصير أحد في سنة ١٩٠٧ من أبناء القرغيز غير اثنين من أرذال الناس (كان
أحد هذين الاثنين مسلمًا قبل تنصّره) .
ولو جعلنا نفقات تلك الجمعية من الدنانير في هذه المدة من أجل ذلك أمام
أعيننا، لوجدناها تبلغ أربعة عشر ألفا من الروابل (كل روبل عشرة قروش مصرية)
ووجدنا أيضًا هذين الشخصين من رَغام القرغيز وأرذالها، قد بلغت قيمة كل
واحد منهما على الجمعية (سبعة آلاف روبل) ، ولوجدنا ربح هذه الجمعية أنقص
من ربح تلك التي تصدت لتنصير المجوس بكثير.
أُسست في غضون هذه الأسابيع فقط في (أيركوتسكي) جمعية تدعى أيضًا
جمعية المبشرين، فأسرعت جريدة (الربيج) (جريدة روسية تصدر في
بطرسبورج) باللوم عليها في مقالتها التي نشرتها في عددها الموفي مئتين، قالت
فيها: إن مبشرينا لا يعرفون ما يجب عليهم؛ لأنهم كُسالى من جهة وجهلاء من
أخرى، ولا يَقدرون أن يؤدوا وظيفتهم التي أخذوها على عاتقهم حق التأدية، ولكني
لا أوافق فكرة جريدة (الربيج) ، بل أريد أن أخالفها، أريد أن أمدح هؤلاء
المبشرين ولا أعيبهم، ولكن مدحي لهم يكون كأضحوكة كما أنهم كذلك، وإني وإن
لم أستحسن أن أمدحهم من حيث إنهم يحاولون دائمًا أن ينصّروا المسلمين،
ويجتهدون في ذلك بالتشمير عن ساعد جدهم، لا أرى بأسًا بمدحهم من جهة أخرى،
فإني أفهم من محاولتهم هذه أنهم بذلك ينبهون أُمة التتر التي طال مُكْثها في سياستها
العميقة وانغماسها في بحر الغفلة سنين طويلة. وكأني بهم أي بالمبشرين يعينون
بعلمهم هذا أمة التتر إعانة تذكر، ويوقظونها إيقاظًا لا يطرأ عليها النوم بعده أبدًا،
والذي لا شك فيه عندي: أن الذين بثوا روح الملية وحسّها وغيرة الدين في روسية
الوسطى؛ أي (في أطراف قزان وسمبر وستارانوف وأرينبورغ إلى آخره)
ليسوا إلا أولئك المبشرين.
والحمية الدينية وغيرتها التي يستفيدها الذي يقرأ ويطالع مؤلفات المبشرين
مطالعة جيدة، مما لا يمكن تحصيلها من مؤلفات (الإيشان) وهم (رؤساء طرق
الصوفية) ، هذا معلوم لكل إنسان، والذي لا أشك في نفعه في بث روح الملية
وحسّها وغيرة الدين للأمة؛ هو المكاتيب المشهورة (لأيمينسكي) الذي كان من أكبر
المبشرين في زمانه، وأعلمهم وأكثرهم دعاء (ولبوبيدونسف) ، وهذا أيضًا كان
كذلك، حتى إنني أعد تلك المكاتيب أنفع وأفيد من مكاتيب الإمام الرباني كرات
عديدة.
الآن تصدر في مدينة مسكوف مجلة تدعى مجلة (فيرنوست) من قِبل المبشر
(واسترغوف) المشهور في مجلس (السناتو) ، ويكتب في هذه المجلة أشياء
كثيرة في شأن المسلمين، وعلى الخصوص المقالات التي تكتب بقلم (واسترغوف)
نفسه وقلم كاتب آخر يدعى (ميدفيدسكي) ، تكون عائدة للملل غير ملة الروس
وفي هذه المجلة مجلة (فيرنوست) من تنبيه الأفكار وإحياء الشعور الإسلامي
لمن يُعْنَى بقراءتهما ومطالعتهما مطالعة جيدة، ما ليس في قراءة مجلة
(دين ومعيشت) التي من شأنها أن تكون دائمًا عقبة كأداة أمام العلوم والمعارف،
ولا أثر لها في المحافظة على الدين ولا المعيشة وإن ادعت ذلك، بل لا يمكن
لأحد تحصيل تلك التيقظات والتنبيهات من مجلة دينية محضة أيضًا.
ولو كان الأمر لي في قراءة المجلات المنبهة للإنسان من سباته العميق كما
أريد، لأمرت كل مشايخ التتر بقراءة مجلة (ففيرنوست) ؛ لكي يعتبروا بما فيها
ويكونوا بعد ذلك أثبت قدمًا في الدين الإسلامي المبين.
نرى في بادئ النظر أن المبشرين أشد الناس ضررًا للمسلمين، وإذا أمعنا
النظر لا نجدهم كذلك، بل نجدهم عكس ما نعتقد فيهم، نجدهم مما لا بد منهم في
تزييد محبة أبناء التتر لملتهم، وتثبيت جرثومة الاتفاق والاتحاد فيما بينهم، نعم،
إنهم ينصرون منا عدة أشخاص، فلينصَّروا!! وهم لا يضروننا بذلك شيئًا بل العكس
يفيدوننا لأن الذين يعتنقون النصرانية بسببهم لا يكونون إلا من الذين لا يعرفون
من الدين والشريعة شيئًا، بل يكونون من الفسقة والجهلة وشياطين الناس ولا من
المسلمين حقيقة ماذا يحصل علينا إن طهروا ملتنا النجيبة التترية وشذبوها من مثل
هؤلاءالرغام الأراذل؟ وإني لا أرى مِنْ تنصّر مثل هؤلاء أقل ضرر للإسلام، بل
أرى أنه ليست فيهم أهمية للإسلام. إن الضرر الذي يطرأ على الإسلام من اجتثاث
تلك الأعضاء الفاسدة فيه وتشذيبه وتنقيته منها، ليس شيئًا يذكر بالنسبة إلى ما
يحصل في الإسلام من المتانة، وفي المسلمين من القوة والغيرة على الدين، وهذه
الفائدة التي تحصل من ذلك مما لا تقاس بشيء، ومن أجل ذلك نحن نعدّ أنفسنا
مجبورين على مدح هؤلاء المبشرين، ونقول فيهم: إنهم منبهو التتر من سباتهم
العميق، بنداء لطيف جدًّا يعادل نداء المؤذن (حي على الفلاح) .