للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء

(الإسلام والمسلمون.. رأي المسيو مونتيه ناظر المدرسة الجامعة بجنيف
فيهما)
بدأ المسيو أدموند مونتيه ناظر مدرسة جنيف الجامعة بإلقاء محاضرات ست
في مدرسة فرنسا (كوليج ديفرانس) عن حالة الإسلام الحاضرة والمستقبلة , ذلك في
كل يوم اثنين وخميس في الساعة الثانية والنصف مساء ابتداء من يوم ٧ الجاري،
وينتهي منها يوم ٢٤ الجاري، أما مسائل بحثه فهي:
(صالح المسائل الإسلامية، إحصائيات الإسلام، انتشار الديانة الإسلامية،
التمسك الشديد بالدين الإسلامي، التغييرات التي طرأت عليه، الانشقاق
والاختلافات والمذاهب، عبادة الأولياء المسلمين، أرباب الطرق الإسلامية،
تصوفهم ومحافظتهم على الأصول، تأثيرهم الاجتماعي والسياسي، محاولة إصلاح
الإسلام، البابية والبهائية، مستقبل الأمم الإسلامية، الأميال نحو الحرية
والمجهودات التي تبذل في سبيل التخلص من الأجانب في الإسلام.
ولما كان المسيو أيدموند مونتيه كاهنًا بروتستانتيًا حر الأفكار، كانت أفكاره
وآراؤه في هذا الشأن من الأهمية بحيث لا يستهان بها.
لذلك أرسلت جريدة (السبيكل) إلى جنابه من يسأله عن آرائه في شأن
الموضوعات التي سيجعلها موضوع بحثه، فصرح له بالتصريحات الآتية:
أما آرائي فيها فهي كثيرة جدًّا، وإن السؤال الذي ألقيته عليّ سؤال مركب
كثير الفروع، فاسمح لي أن أحييك عليه بعده أجوبة؛ لأن الإسلام يظهر أمامنا في
مظاهر شتى.
وأول ما يبدو أمام نظر الذي يرقب حركات الإسلام ويهمه وشأنه حاله الحاضرة
فالعالم الإسلامي الذي يشاع عنه خطأ أنه في سبات عميق لا يتحرك، هو في
الحقيقة اليوم في حركة شديدة، فهو عالم يسير ويتقدم، فالترك ومصر وفارس
من جهة، يظهر فيها الشوق إلى الرقي ونور العلم ظهورًا جليًّا، ومن جهة أخرى
ترى في المستعمرات الإنجليزية والفرنسية والمستعمرات الأوربية الأخرى تلك
الحاجة بعينها، تدفع جمهور المؤمنين على طلب الزيادة في التربية والحرية.
ولكن رب قائل يقول لي: ألا تظن أن تركيا التي كانت الثورة فيها على
النسق اللاتيني سببًا في وجود مذهب سياسي جديد، ليست كسائر الجهات التي ليس
فيها إلا مجرد آمال مبهمة في الوصول إلى حالة خير من الحالة الحاضرة من
الوجهة الاجتماعية أو السياسية.
وإنني لا أذهب هذا المذهب، وفي رأيي أن العالم الإسلامي كان كأنه محقون
بسم نافع يفتك به وينتشر في جميع أعضائه، أما هذا السم فهو سم المدنية الحديثة
سم مدنيتنا التي يتحتم على كل أمة أن تعتنقها مهما يكن ماضيها، ومهما تكن
مدنيتها الخاصة بها قديمة كانت أو حديثة، وبمجرد سريان هذا السم في أي جسم
يكون من المستحيل إخراجه منه، فإن فتكه يستمر فيه ولا مناص، ويقتاد هذا
الجسم مع مرور الزمن إلى الانقلاب التام.
أما الموقف الذي سيقف فيه الإسلام حيال مدنيتنا، فينبغي أن ينظر إلى الإسلام
من وجهتين مختلفتين؛ الأولى: أن يُنظر إليه من حيث هو مجموع الأمم الإسلامية
وسكان البلاد منهم، والأجناس المختلفة التي تعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم
والثانية: أن يُنظر إليه من حيث هو دين الإسلام نفسه.
وإنه ليخيل لي أن الأمم الإسلامية يزداد دخولها في حظيرة المدنية الحديثة
شيئًا فشيئًا، وذلك ما يفعله أكثر الأمم الإسلامية. بعضها بقصد والبعض الآخر بلا
قصد؛ لأن الأمر في نظرهم ينحصر في مسألة إما الحياة وإما الممات؛ لأن تيار
المدنية الحديثة لا يُستطاع مقاومته، والذي يريد أن يهرب من وجهه لا بد أن
يكتسحه، والذي يريد أن يقاومه لا بد أن يسحقه. ذلك ما يعتقده كثير من المتنورين
منهم اليوم، وكثير من أبناء وطنهم يتبعون أثرهم بحكم التقليد في سبيل التقدم
الحديث.
أما من الوجهة الدينية؛ فإن الموقف يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فإن
الإسلام بصفته دينًا كانت له غايات شبيهة بغايات النصرانية، وقد وجد فيه
التصوف والمذاهب والميل إلى المحافظة على القديم وإلى التخلص من ربقة القيود
ولا يزال كل ذلك موجودًا فيه إلى الآن، وإذا كانت المسيحية قد ضمنت لها مستقبلاً
في الرقي وفي البقاء غير محدود، فإن شأن الإسلام في ذلك شأن النصراينة تمامًا؛
فإن الإسلام إحدى ديانات التوحيد الكبرى، وإن التوحيد في الديانة لا يمكن أن
يزول، بل تبقى مبادئه بقاء أبديًّا ولو تغير في أعراضه.
إني شديد اعتقاد الخير في الإسلام نفسه بصفته دين توحيد، اعتنقته - على
الخصوص - أمم آسيا وأفريقية والمسلمون على وجه العموم.
ولطالما كانت لي علاقات شخصية مع المسلمين وأكثرهم من أصل عربي أو
بربري مغربي، وإنني لأحفظ لهذه العلاقات جميل الذكرى، وإنني شديد الاحترام
للأتراك والمصريين المتنورين الذين لقيتهم، بل إن لي من بينهم بعض الأصدقاء
المخلصين إخلاصًا تامًا، ولكني أتمسك على الخصوص بالصداقة التي نشأت بيني
وبين المتواضعين الخاشعين من المسلمين، وهم على الخصوص في مراكش؛ فإن
هؤلاء المسلمين الذين يعيشون عيشة في غاية البساطة والغرابة في نظرنا بالنسبة
لطرائق تفكيرنا - قد حافظوا على أجلّ الفضائل التي نحترمها نحن ولا شك، ولكننا
نهمل العمل بها، وإني أريد بذلك فضيلة حسن الضيافة والكرم، وفضيلة الوفاء
التام في الصداقة والأخلاق، وهم يصح أنه يقال عنهم: إنهم الأمثلة الصالحة في
هذه الفضائل، ولقد كان في خدمتي بعض المراكشيين، فأظهروا لي في كثير من
الظروف الحرجة دليلاً على إخلاصهم المتناهي، ولعمري إنني ما نسيتهم قط،
وإني على يقين من أنهم لم ينسوني أيضًا وماذا كنت أنا بالنسبة لهم؟ كنت رجل
غريبًا مسيحيًّا، ولكنني كنت مسيحيًّا غربيًّا وأصبحت صديقًا لهم.
ولي كلمة قبل أن أختم معك هذا الحديث لا يسعني إلا أن أقولها، وهي: إن
روح الإسلام (وأريد روح الديانة الإسلامية) صعب على الغريب عنها أن يقف
على سرها. ولكن الذي يقف على كنهها ويفقهها، يرى أن هذه الروح جميلة جذابة
ومتى فقهها المرء فليس في قدرة أي شيء أن يمحو من فؤاده التأثير الذي تحدثه فيه
وليس في استطاعة المرء أن ينفصل عنها. اهـ من ترجمة المؤيد بتصحيح
قليل.
* * *
(الترك والعرب)
دليل على ما سميناه سوء التفاهم وشهادة كاتب تركي للعرب
كان يجب على جرائد الآستانة أن تحمد سعي الشريف أمير مكة المكرمة في
نجد، ولا سيما إخضاع أكبر أمرائها ورئيس عشائرها الأمير عبد العزيز آل سعود
للدولة العلية، وحمله على الثقة بها، ولكنه لم يسلم من اللوم والمؤاخذة حتى قالت
بعض تلك الجرائد: إن سعيه كان حسنًا ولكنه كان مخطئًا فيه؛ لأنه ليس له صفة
ولا سلطة تجيز له أن يحل ويعقد، وقد كانت جريدة (يكي تصوير أفكار)
خاضت في مثل هذا الإنكار والتجاهل، ثم اقترحت على سليمان بك نظيف - الذي
كان إلى عهد قريب واليًا للبصرة - أن يكتب إليها شيئًا مما وصل إليه اختباره عن
عرب الجزيرة، فكتب إليها مقالاً ترجمته جريدة المفيد، فنقلناه عنها لما فيه من
الإنصاف واستقلال الرأي [١] هو: قال الكاتب:
إن السلطة العثمانية في جنوب العراق وجزيرة العراق لا تتأيد؛ ما لم تتأيد
العدالة وحسن الإدارة، ففي كل وقعة من الوقائع خطر يتطاير شرره.
إن هذه البقاع المباركة بقاع بائسة؛ وقعت عصورًا متطاولة في زوايا الإهمال
من قبل الحكومة إلا في عهد مدحت باشا.
ارتكز فَيْلَقُنَا السادس، ودق وتاده حيث كانت تجوس جيوش بابل وأشور
بسطوتها وهيبتها، فرأيناه اليوم يندحر أمام بعض القبائل البدو أيما اندحار. كانت
(الجزيرة) في الغابر بمثابة أكبر مستغل، يستمد منه العالم بأسره مؤنته، ونراه
اليوم يموت أهله جوعًا، على حين أن الأرض لم تفقد قوة النمو ولا الخصب.
وبعد، فليس ثمت من سبب لهذه المصائب إلا سوء إدارتنا التي اشترك بها
هذا العاجز مدة أحد عشر شهرًا.
كنت أعتقد قبل قدومي البصرة اعتقادًا ولدته في نفسي الأقوال المتضاربة؛
أن الأمة العربية عنصر ينقبض من الجامعة العثمانية، ولكن إقامتي بينها ومحاولتي
كشف النقاب عن الحقائق أثبتت لي أن هذا الاعتقاد وهم محض، فَسُرِرْتُ ما
شاءت حميتي العثمانية، إذا صرفنا النظر عن عائلة واحدة في البصرة مكروهة
منفور منها لا يتجاوز أفرادها عدد الأربعة، فإنا نشعر بحس واحد راسخ في نفوس
عرب الولاية كافة من بدويهم إلى حضريهم ألا وهو حب الجامعة العثمانية.
ولكن ينبغي لنا أن نعترف ونقر بأنا أسأنا المعاملة بجانب عرب البصرة في
جميع الأحايين، وقسمنا أراضيهم إلى مقاطعات تحت اسم أميرية وسنية، ودعونا
المتغلبين إلى أن يمدوا إليها أيديهم الجائرة الظالمة وعززناهم بقوة من الحكومة
ووقارها، حتى بلغنا إلى درجة التحكم بالقوت اليومي الذي كان يتناوله كل عربي
بجده وسعيه.
كل ذلك كان، وكان هذا الشعب الصادق الجليد يتلقى من الحكومة تلكم
الصدمات بصبر وثبات كأنما هي من الأقدار، ولم يك ينبس ببنت شفة.
حادثة (شطرة المنتفك) بسيطة جدًا أي إنها فاجعة بسيطة؛ سببها أن فريقًا
عسكريًّا مأمورًا بالإصلاح، ظن أن سلطته تخوله فسخ إحالة (إبطال عقد التزام
أعشار) مقاطعة برمتها. فإن عشيرة (عبوده) التي هزمت الفريق يوسف باشا
قائد أربعة عشر تابورًا وحاصرته، والتي تركت قوة أمير اللواء محيي الدين باشا
جامدة لا حراك فيها، كانت حتى في أوقات ظفرها تبرق البرقيات إلى الولاية،
تعرض إطاعتها للحكومة، وتبين أنها مضطرة لمحاربة الفريق المسوق بسائق
المطامع الشخصية؛ دفاعًا عن نفسها وذودًا عن شرفها، ولقد أثبت رجال هذه
العشيرة صدق دعواهم بالفعل؛ فإن القوة العسكرية البالغة واحدًا وعشرين تابورًا،
تخلصت من ربقة الحصار الشديد بأمر واحد تلقاه المحاصرون من الحكومة، وليس
ثمت دليل أكبر من هذا الدليل على صدق عثمانية هؤلاء وإطاعتهم للحكومة.
(أهداني قنصل روسيا في البصرة الموسيو (طوخولفا) كتابًا افرنسيًّا
عنوانه (الثورة العربية والدول) أثناء سيري إلى المنتفك، فوجدت صاحبه يملأ
الكتاب بحوادث المنتفك، ويتحرى في جميع أبحاثه أن يعثر على أمارات الانفصال
والاستقلال، فعظم الوهم لدي، ولكن حينما شهدت عائلات المنتفك، أيقنت اليقين
التام أن ذلك الكتاب مجموع نفاق وبهتان، وأنا اليوم على ثقة تامة أنه ليس في
البصرة أزمة سياسية ما، ليست تلك الأصوات التي تمتد أحيانًا إلى العاصمة،
فتنبهها من غفلتها إلا صعقات متصاعدة من أفئدة عضها الجوع بأنيابه، ولو كنا
مكان هؤلاء العرب لأتينا أشد مما يأتونه، وإذا تدبرنا وعقلنا الأمر وانقلبت تلكم
الصرخات إلى سكوت ينم إلى الأبد عن شكر) .
(المنار)
بَيَّنَّا في المقالات التي نشرناها في جرائد الآستانة، ونحن فيها أن العرب كلهم
مخلصون للدولة، لا يخطر في بال أحد منهم أن بينهم وبين إخوانهم الترك أدنى
فرق، وأن اتهام بعض رجال السياسة فيها إياهم، وما تكتبه الجرائد التركية عنهم
وفي العصبية الجنسية وما يسمعه أبناؤهم في مكاتب الدولة يخشى أن يغير قلوبهم
ووعظنا رجال حكومتنا بالحديث الشريف: (وإذا ابتغى الأمير الريبة بالناس
أفسدهم) فلم يغن النصح شيئًا، فعسى أن يقبلوا شهادة هذا الشاهد منهم، ويزيلوا
أسباب التفرق وسوء الظن، ويعلموا أنا كنا لهم ولا نزال من أخلص الناصحين.
* * *
(الاحتلال الأجنبي في إيران)
هذا الأسلوب الأوربي من أساليب الفتح، صار معروفًا عند الباحثين
والمستبصرين من أهل الشرق، ومعناه فتح البلاد بدون أن يخسر الفاتح شيئًا يُذْكَر
من الرجال والمال، فإن طريقه أن يضرب بعض البلاد ببعض، ويحدث فيها الفتن
ثم يدخل جيشه؛ بحجة إطفاء الفتنة وتأمين تجارته وحفظ رعيته في البلاد، ثم
يحكم بعضها ببعض كما ضرب بعضها ببعض، ولا يُعاب الفاتحون بهذا الضرب
من ضروب الفتح والاستعمار، بل يُحمدون بتخفيف الضرر والضرار، وإنما
تعاب الأمم التي تفتح بلادها بجهلها وتفرقها وما فيها من الخلل والضعف الذي مكن
الأجنبي من سلب استقلالها.
كانت روسية وإنجلترا تتنازعان النفوذ في فارس؛ لمجاورة الأولى لها من
جهة الشمال، والثانية من جهة الجنوب، كما تتنازعان النفوذ في البلاد العثمانية،
وقد اتفقتا بعد طول التنازع والعداء، ولكن أعقب اتفاقهما نهوض المملكتين
الإسلاميتين بالدستور: فأما العثمانية فإنها نهضت بجيش قوي منظم، فكان ذلك
مانعًا من التعرض لها بالقوة العسكرية والاحتلال الذي كان ينوي البدء به في
مكدونية، وأما الفارسية فمن سوء الحظ أنه ليس لها جيش قوي منظم، فبادرت
روسية إلى احتلال منطقة نفوذها، وهددتها إنجلترا باحتلال منطقة نفوذها أيضًا،
بادرتا بذلك صلاح حالها، وأخذها بأسباب القوة التي تحول بينهما وبينها.
لقد علم المستبصرون من الإيرانيين وغيرهم أن المراد بهذا الاحتلال
الامتلاك، فاضطربت له قلوب المسلمين في المملكة العثمانية والبلاد الهندية وبلاد
التتر الروسية ومصر وتونس، وزادهم ميلاً إلى الاتفاق والاتحاد، وظهر هذا
الاضطراب بأشد مظاهره في الآستانة وفي بعض بلاد الهند، ولم يظهر في مصر؛
لأن المشتغلين فيها بالسياسة شغلهم حليهم أو شغلوه أن يعار؟ ويتحامون الاتهام
بالميل إلى الجامعة الإسلامية.
يقال: إن الإيرانيين يفضلون أن يقاوموا محتلي بلادهم بالإعراض عن
تجارتهم، وقد أمرهم علماؤهم بذلك جهرًا، فإن لم يفد فبتأليف عصابات
كالعصابات المكدونية المؤلفة من البلغاريين واليونانيين؛ لمقاومة حكومتهم العثمانية
وإنهم يفضلون تخريب البلاد على سلب الأجانب لاستقلالهم. فأما غيرتهم وحميتهم
الملية وشجاعتهم الشخصية، فمما لا ينكر بعد ظهوره للعيان في مقاومة حكومتهم
الماضية المستبدة الملعونة، وأما آفتهم فوجود المنافقين من البابية والمتفرنجين
الذين فسد اعتقادهم بالوساوس الأجنبية، يوضعون خلالهم يبغونهم الفتنة وفيهم
سماعون لهم، وجهل العامة يمهد للمنافقين سبيل التضليل.
وعندي أن ما يصلح هذه البلاد في هذه الحال لا يدركه إلا الأفذاذ من
العقلاء العارفين بالسياسة العامة وبأحوال الأمة الروحية والاجتماعية، وإن العارف
لا يقدر أن ينفعها بمعرفته إلا إذا أقنع أصحاب الفنوذ فيها من العلماء والزعماء،
فهل يسهل تأليف جمعية من العارفين وأصحاب النفوذ؛ تقرر ما يجب أن يعمل
وتنفذه؟
* * *
(المشيخة الإسلامية والقضاء الشرعي في الدولة العلية)
خطاب من جماعة المسلمين العثمانيين إلى شيخ الإسلام ومجلس المبعوثين في
عاصمة الدولة، أيدها الله تعالى بهم وأيدهم بها:
إلى متى يكون حظ القضاء الشرعي دون حظ سائر مصالح الدولة من عنايتكم
وإلى متى تظل المحاكم الشرعية استبدادية؛ لا يقيد القضاة فيها بأحكام معنية
معروفة، يطالب بها الخصماء ووكلاء الدعاوى؛ كمجلة الأحكام العدلية، ولا
بأعضاء يُسْتَشَارُونَ في الأحكام كالمحاكم النظامية، ولا يرسل إليهم مفتشون يطلعون
على أحكامهم، ويتعرفون سيرتهم وأعمالهم في إدارة تلك المحاكم، ولا ينشأ لأجلهم
قلم مراقبة تحفظ فيه سيرتهم الرسمية، ولا مجلس تأديب يحاكمون فيه إذا جاروا
وظلموا، ألا إن هذا الإهمال لهذه المحاكم يفسد نظام البيوت التي تتألف منها الأمة،
ويضيع الأوقاف ويخرب المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، بل
يؤدي إلى الاشتباه في حقية الشريعة السمحة الحكيمة.
من أمثلة الخلل في هذه المحاكم الذي عرفناه بالرؤية والنظر والخير والخبر؛
أن عبد المجيد أفندي هاشم الجعفري كان عين نائبًا لمحكمة نابلس (بلده) ، فهاجت
سيرتُهُ الأهاليَ عليه على شرف بيته، ويقال: إن بعض الوجهاء أمر بضربه
فضرب، ولم يتحملوه إلى آخر مدته، ثم عين نائبًا لصيدا، فأحدث الفتن بين
الأهالي حتى هاجوا عليه وهموا به، فهرب إلى بيروت ليلاً، ثم عين في بلاد
الترك فكانت عاقبته النفي، وبعد الدستور عين نائبًا لطرابلس الشام، فهاجت
سيرته الناس عليه حتى هجم الألوف منهم على المحكمة الشرعية؛ لأجل الفتك به
كما رأينا في الجرائد السورية وقتئذ، وأرسلت الشكاوى البرقية عليه إلى المشيخة،
فأمرت بمحاكمته في بيروت، ولكن المحاكمة انتهت بالصلح رحمة من مفتي
بيروت به، ثم إن لجنة التنسيقات حكمت بأنه لا يجوز توليته في البلاد السورية
وعزلته المشيخة عزلاً.
بعد عزله ذهب إلى الآستانة، وطلب من المشيخة توليته القضاء، فسأله
مجلس الانتخاب عن السبب في الامتناع من ختم إعلام الحكم ببعض الدعاوى،
فأنكر الدعوى ألبتة، وزعم أنه لم ينظر فيها ولا رفعت إليه، فطلب شيخ الإسلام
حسني أفندي من خلفه في طرابلس الشام صورة ضبط تلك الدعوى مصدقًا عليها،
فأرسلت إلى المشيخة، فحاجه بها مجلس الانتخاب، فاعترف بالدعوى واعتذر عن
ختم الإعلام بكلام جمجم فيه ولم يبين، وفر من الآستانة يائسًا، ومجلس الانتخاب
يحفظ هذه عليه قولاً وكتابة.
بعد هذا كله كتب إلينا من يافا وغيرها أنه عين نائبًا لبنغازي، وأنه لا يقبلها
بل يرجو أن يرتقي إلى نيابة قضاء ولاية بيروت؛ لما ورثه من المال الكثير من
أخيه.
فنعيد الذكرى للمشيخة الإسلامية ولمجلس الأمة، ونكرر طلب إصلاح هذه
المحاكم، وعسى أن يوجد في مجلس المبعوثين من تحملهم الغيرة وحب الإصلاح
على الاستيضاح من شيخ الإسلام عن هذا النائب الباقعة أنه صح أنه تقلد القضاء في
عهده الآن.
* * *
(لجنة ترقية الوعظ الديني والخطابة في المساجد)
ألفت لجنة في الأزهر بهذا الاسم رئيسها الشيخ محمد شاكر وكيل المشيخة، ولما
بلغني خبرها وأنا في الآستانة سررت سرورًا عظيمًا، ثم بلغني أن عمل هذه اللجنة
محصورًا في اقتراح إنشاء خطب في بعض المسائل الدينية؛ كالحث على العبادات
والنهي عن المحرمات؛ لأجل أن تنشر في مجلة الملاجئ العباسية وتصل إلى
خطباء المساجد واطلعت على بعض تلك الخطب التي قبلتها اللجنة وأجازت منشئها،
فإذا هي ليست خيرًا من خطب خطيب جامع الست الشامية وخطيب جامع عزبان
ولا مثلها، نعم.. إنها أمثل من خطب خطيب جامع الحين ومن في طبقته من
العوام، وليس هذا هو الإصلاح الذي ننشده من زمن طويل، ولا العمل الذي
يحتاج إلى لجان، وإنما يكون الإصلاح بتعليم طائفة من طلاب الأزهر وغيرهم
الخطابة الدينية على نحو ما شرحناه في كتاب (الحكمة الشرعية) منذ ٢٠ سنة؛
أي تعلمهم ليكونوا أصحاب ملكة يقتدرون بها على الخطابة ارتجالاً في جميع
مهمات الدين، وما يصلح به حال الناس في الدنيا.

* * *
(باب الانتقاد على المنار وصاحبه)
انتقد صاحب جريدة البريد التي تصدر في (ريو دي جانيرو) ما كتبناه في
خطاب علماء الإسلام؛ الذي نشرناه في جريدة الحضارة ونحن في الآستانة، وفي
المنار انتقد منه حثنا العلماء على الاستعانة بالمبعوثين؛ لأجل الوصول إلى حقوقهم
في التعليم والمناصب الشرعية، وعلى الاجتهاد في جعل المبعوثين في الانتخاب
الآتي منهم، وممن يرجى أن يساعدهم على خدمة ملتهم.
انتقد هذا؛ لأنه فهم منه أنني أريد جعل أكثر النواب من صنف العلماء الذي
يجهل أكثرهم حاجات الأمة، وإنني أريد أن يكون في المجلس نواب من غير
المسلمين، وجعل هذا منافيًا للدستور القاضي بالمساواة، قال: (وكأنه استكثر
وجود مسيحي واحد بين نواب العرب، فقام يدعو الأمة المسلمة إلى حرمان
المسيحيين قاطبة كرسيًا واحدًا في مجلس المبعوثين العثمانيين) .
(أساء سمعًا فأساء إجابةً) رويدك أيها الرصيف الكريم، إنني كنت أول
مساعد لانتخاب المسيحي العربي الذي تشير إليه، فقد كنت أيام الانتخاب في
بيروت، ورأيت جماعة من المسلمين أصحاب النفوذ يعارضون في انتخابه؛ لا
لأنه مسيحي بل لأنهم لا يعرفونهم معرفة تفيدهم الثقة به، فقلت لهم: إنني عرفته
بمصر وعاشرته وأثنيت عليه بما أقنعهم وحملهم على انتخابه ومساعدته.
إنني عندما كتبت ما كتبت في تلك المقالة، لم يخطر في بالي المسيحيون ولا
نوابهم، وإنما خطر في بالي وملأ قلبي عند الكتابة ما علمته من حيلولة بعض
الملاحدة من المسلمين الجغرافيين (أي الذين يعدون مسلمين في كتب الجغرافية)
دون خدمة رجال الدين الإسلامي لدينهم، وما علمت أحدًا من النصارى يعارضهم
ولا يقاومهم في ذلك، وأن المبعوثين من النصارى يدافعون عن امتياز طوائفهم
وكنائسهم، أفليس للمسلمين حقوق دينية في الدولة يجب أن يدافع عنها العلماء؟
وسأبين رأيي في المبعوثين من غير المسلمين، وأذكر ما أقنعت به المسلمين
وأزلت به شبهتهم على منافاة وجودهم في مجلس المبعوثين ومجلس الوكلاء؛ لكون
الحكومة إسلامية فقد ضاق عنه هذا الجزء.