للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقريظ المطبوعات الجديدة
(الهيئة والإسلام)
كتاب جديد في استخراج مسائل علم الهيئة الفلكية الذي وصل إليه علماء هذا
العصر من ظواهر الكتاب والسنة وأقوال آل البيت الكرام وعلماء الصحابة
الأعلام عليهم السلام والرضوان، اشتغل بتصنيفه أحد علماء النجف الأعلام
(السيد هبة الله الشهرستاني) ، وقد صدر جزآن منه في أكثر من ثلاثة مئة صفحة
كصفحات رسالة التوحيد، وتفضل المؤلف بإهدائه إلينا ونحن في القسطنطينية مع
كتاب مودة وتنبيه إلى وجه الحاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذا العصر؛ الذي كثر
فيه المشككون في الدين بشبهات منتزعة من علم الهيئة وغيره من العلوم , وقد
حالت الشواغل الكثيرة هناك وهنا دون مطالعة الكتاب التي تمكننا من بيان مزيته،
وتلخيص شيء من فوائده، فرأينا أن نكتفي الآن بذكر بعض مسائله المهمة من
الفهرس وسننقل في جزء آخر نموذجا منه للقراء إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى: حقيقة الفلك توافق النصوص فيها ما عليه المتأخرون وتخالف
ما كان عليه اليونانيون، (المسألة ٢) : شكل الأرض وحاملها، (٣) حركة
الأرض، (٤) تعدد الأراضين، (٥) في أن السيارات تسع، فكيف تكون
الأرضون سبعًا، (٦، ٧) في حقيقة السموات السبع والأرضين وترتيبهما،
(٨) مركزية الشمس لحركة السيارات. (المسألة التاسعة) الصفات الخمس لجرم
الشمس، (١٠) في أوصاف القمر (١١) عدد السيارات (١٢) في سكنى
السيارات، (١٣) المذنبات والشهب، (١٤) في تعدد العوالم، يذكر المؤلف في
كل مسألة أقوال علماء الهيئة، وما ورد بمعناها في الكتاب أو السنة أو كلام الأئمة
أو الصحابة رضي الله عنهم.
***
(منطق المشرقيين)
هو آخر ما ألفه الشيخ الرئيس أبوعلي ابن سينا في فن المنطق، فهو زبدة
التحقيق عنده لهذا العلم، وقد قال فيه: (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا؛
أعني الذين يقومون مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولي هذا الشأن؛ فقد أعطيناهم
في منطق الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجاتهم) وقد طبعه في هذا العام صاحبا
المكتبة السلفية بمصر، وطبعا معه القصيدة المزدوجة في المنطق للشيخ الرئيس
أيضًا. وطبعا في مقدمته ترجمة طويلة للمؤلف، وهو يطلب من مكتبتها ومن مكتبة
المنار بمصر، وثمنه أربعة قروش صحيحة.
***
(منتخبات البارودي)
إن قوى النفس كقوى الحس، تضعف وتقوى، وتمرض وتشفى، وتهبط
وترقى بل تموت وتحيا، وإنما حياتها وارتقاؤها برقة الشعور والوجدان ودقة التوسم
والإدراك.
يدرك حديد البصر من معارف وجه محدثه ولو على بُعْد، ما لا يدركه الكليل
على القرب، ويستشف من توسيم ما يعرض لها من التأثير، ما تنقطع دون أشعة
بصر الحسير، فهذا يعيا عن إدراك دقائق معارف الوجه، وحركات الطرف، فلا
يعرف أمامه إلا شبحًا ماثلاً، وهيكلاً شاخصًا، وذاك يدرك ما وراء المعارف من آثار
الخطاب في نفس المخاطب، فيميز بين ما عرف منه وما أنكر، وما أحب وما كره.
يتوسم فيه فيوحي إليه ذلك ابنساط الأسارير وانقباضها، ولمعانها واقتتامها،
واحمرار البشرة واصفرارها، وتخاوص العينين وجحوظهما، وترنيقهما ورنوهما
وحركتهما وسجوهما، وتصويبهما وتصعيدهما، وسائر ضروب النظر، الحدج
والشزر، والشخوص والشفن، فلكل نظر أثر باعث من نفس الناظر، وأثر حادث
في نفس المنظور إليه، فمن لا يؤثر بنظر عينيه ولا تؤثر فيه نظرات العيون،
فجدير به أن يعد من الأموات لا من الأحياء، أو من مرضى النفوس لا الأصحاء.
في القرآن العزيز آيات كثيرة في تأثير النظر وأحوال البصر، كقوله تعالى:
{وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (القلم: ٥١) وقوله: {فَإِذَا بَرِقَ
البَصَرُ} (القيامة: ٧) ، وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (الأحزاب: ١٩) ، وللشعراء في ذلك رقائق هي المظهر الأعلى لدقائق صناعتهم
كقول الكيواني:
وانظر إلي مرنقا ... حتى أغيب من الشعور
وقول علية بنت المهدي:
ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصرًا عنى إذا نظرا
وقول أبي نواس حكاية:
ويُعمل الطرف نحوي إن مررت به ... حتى ليخجلني من حدة النظر
والشعر في هذا المعنى كثير يدخل في فنون شتى.
وإن من كان سميعًا خبيرًا بأنواع الأصوات، وضروب اللهجات، ودلالة كل
جرس على كيفية خاصة في النفس، وما في لحن القول وفحواه، من إيماء إلى
غير ما يدل عليه مبناه؛ ليسمع مع الكلام ما كان باعثًا عليه من نفس المتكلم، وما
ينثني عليه صدره، وينطوي عليه قلبه، من حب وبغض، ووفاء وغدر، وأمن
وخوف، ورضًى وكره، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: ٣٠) ؛ أي فحواه ومعاريضه، ومن أعجب
الكلام إليّ في استخراج خبايا السرائر من كيفية أداء القول، وجرس اللفظ، قول
امرأة كعب بن الأشرف له عندما دعاه في الليل الذين يريدون قتله، مظهرين
الالتجاء إلى حصنه، وقد نهته عن الخروج إليهم (إنني أسمع صوتًا يقطر
منه الدم) .
إن دقة الإدراك ودقة الشعور والإحساس، هما آيتا ارتقاء النفس في درجات
الكمال الإنساني، ويرى الحكماء أن مظهر هذا الارتقاء يكون في ثلاثة أشياء:
الشعر والتصوير والموسيقى، هي التي يعبرون عنها بالفنون الجميلة، فالتصوير
هو الإشعار بالأشياء برسمها في الألواح والصحف، والشعر هو تصوير الأشياء
بالقول، ومننتهي الكمال فيهما أن لا يفوت صاحبهما شيء من دقائق الصورة
الظاهرة، ولا من دقائق أنواع الشعور الباطنة.
لولا أن كان العرب على حظ عظيم من الارتقاء في الشعر؛ لما انتشر فيهم
الإصلاح الإسلامي بتلك السرعة، ثم رقى بهم في معارض المدنية حتى صاروا
الأستاذة المصلحين لجميع الأمم، ذلك بأن الإبداع في الشعر قد أعلى مداركهم،
وأودع في طباعهم الرقة وقبول التأثير بالمؤثرات الشريفة، فالشعر هو ديوان
حكمتهم، وكتاب تاريخهم، ودفتر آدابهم، وقد ارتقى بلغتهم الواسعة، وارتقت هي
به، حتى إنك لتجد فيها من الدقائق ما يسلس لك زمام التعبير عن كل محسوس
ومعقول، فتربية الخيال الشعري فيها أكبر معين على ترقيتها، وما مرضت آدابنا،
إلا بما طرأ علينا من الجهل بلغتنا وآدابها وأشعارها، حتى صار يعسر على أخطب
الخطباء وأشعر الشعراء أن يحفز همم الجمهور منا إلى دفع خطر نحذره، أو
المبادرة إلى خير عام نرجوه.
أفسدنا لغتنا فأفسدنا نفوسنا، فضعف ذوقها واعتل وجدانها، وضعف تأثيرها
وتأثرها، ولم نستعض عما فقدناه من رقائق الشعر بالبراعة في الموسيقى ولا
التصوير، وإن أقرب الوسائل إلى إصلاح ذوق آخرنا، هي الوسيلة التي صلح بها
ذوق أولنا، ألا وهي الشعر الذي لا ترتقي آداب اللغة وذوق أهلها إلا بارتقائه،
أعني أن يكون كل عربي شاعرًا وإن لم يكن ما يبلغه الكلام منه، إذا أصاب موقع
الوجدان من النفس، والإقناع من العقل.
جعل الأدباء شعراءنا أزواجا ثلاثة: الجاهليين، والمخضرمين الذين أدركوا
الإسلام منهم، والمولدين. ولكل منهم أسلوب وفنون من المعاني تختلف باختلاف
الحالة الاجتماعية التي عاشوا فيها، وقد جمعت الدواوين للمشهورين الذين منهم
حفظت أشعارهم، فوصل إلينا بعضها دون بعض، وأتى علينا حين من الدهر لا
يبالي جماهير المتعلمين منا بالموجود، ولا يبحثون عن المفقود، حتى كانت النهضة
الأدبية العلمية الحاضرة، وطفق الناس ينشرون آثار السلف، كما ينشدون ما جدده
الخلف، حتى أثروا بما لديهم من كسب وميراث، فتكاثرت الظباء على خراش،
وضاقت الأوقات عن النظر في كل ما ينشر، واشتدت الحاجة إلى اختيار أحسن ما
يروى منه ويؤثر.
عندنا شيء من مختار أشعار الجاهليين: كديوان الحماسة لأبي تمام، وقد وفق
الله تعالى نابغة هذا العصر وإمام أهله في الأدب والشعر محمود سامي باشا البارودي
الشهير؛ لجمع ما اختار من أشعار ثلاثين شاعر من فحول المولدين، في الأدب
والمديح والرثاء والصفات والنسيب والهجاء والزهد، ورتبها في كل باب على
حروف المعجم، ووضع لها هوامش في تفسير بعض الغريب والمبهم، فكان ذلك
أربعة أسفار كبار، جديرة بأن تكون ندامى للكبار وأساتذة للصغار.
فأما الشعراء الذين اختار أحاسن أشعارهم، ومثل لنا بدائع خيالاتهم وأفكارهم
فهم فرسان البلاغة السابقون، وفحول الشعر المقرمون، وأساتذته المقدمون؛ كبشار
وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وابن الرومي
وابن المعتز والمتنبي والشريف الرضي والمعري والديلمي والتهامي والخفاجي
والطغرائي.. . إلخ.
وأما ذلك المنتخِب فهو صاحب الأدب الرائع، والذوق السليم، والنقد الصحيح،
الذي جرى مع أولئك الفرسان في كل حلبة، وضرب معهم بكل سهم، وعارضهم
في كل ضرب من ضروب الشعر، وقد طبعت بمطبعة الجريدة بحرف جديد على
ورق جيد، فكان حسن طبعها لائقًا بحسن وضعها، كما تجلى غواني العرائس
بمعارضها، أو كما تتجلى الشجعان بسابغتها وأسلحتها، فكان ذلك مما يبعث النشاط
في قراءتها، وصححها كاتب يد منتخبها (الشيخ ياقوت المرسي) أحد علماء
الأزهر.
فأجدر بهذه المختارات أن تكون ذكرى حبيب، ومدد أديب، ودرسًا لطالب
البلاغة والأدب، وعونًا على إحياء آداب لغة العرب.