للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حل مشكلة اليمن وسائر جزيرة العرب

إن أقصى أمانينا أن تكون الدولة العلية أقوى دول الأرض بأسًا، ومملكتها
أوسع الممالك عمرانًا، وشعوبها أشد الشعوب اتحادًا، ولا شيء أعز علينا من دولتنا
إلا ديننا، ولا قوام لديننا إلا بلغته، فلهذا كثر الكلام في مثل سورية من بلاد
الحضارة العربية بالمسألة العربية، وقد صدق ذلك الكاتب التركي الذي كتب إلى
جريدة طنين؛ أنه ليس في سورية مسألة ترك وعرب إنما فيها مسألة عربية وتركية
فأهم ما يطلبه العرب أهل الحضارة من الدولة هو المحافظة على اللغة العربية
وترقيتها؛ بجعلها إجبارية في جميع مدارسها الرسمية، وتسهيل طريق تعليمها في
المدارس الدينية والأهلية.
وأما من تغلب عليهم البداوة من العرب؛ كأهل اليمن ونجد وخليج فارس
وبوادي العراق وما بين النهرين، فنتمنى أن يدخلوا في الاتحاد العثماني كافةً،
وترتقي بلادهم في ظل الدولة، ولكننا نعتقد أن هذا الاتحاد يستحيل أن يكون بالقوة
العسكرية القاهرة، كما يرتأي المغرورون بالعاصمة، وإن إبادتهم أسهل من
إخضاعهم بالقوة لشعب لا يعدونه منهم، ولا يحترم حالهم الروحية والاجتماعية،
وإنما يسهل إخضاعهم بالإسلام والحكمة، فلهذا اقترحت على الحكومة الدستورية
مساعدة جمعية من فضلاء الأمة على تأسيس مدرسة لتخريج المرشدين الذين
يسهلون لها هذا السبيل في جزيرة العرب وبلاد الأكراد والأرنؤود.
إن جزيرة العرب لم تر الدولة العلية حاكمة فيها إلا في بعض البلاد الساحلية
وليس لها عند القوم هنالك أثر حسن ولا ذكر صالح في شىء من الأشياء، وإنما
يوجد في اليمن والعراق آثار الخراب والدمار، وتواريخ الغدر وسفك الدماء ونهب
الأموال، ويعرف عنهم هذا جيرانهم، وهم لا يفرقون بين نوع الحكم الاستبدادي
الماضي والحكم الدستوري الذي وقفت الدولة ببابه الآن، فلا ينتظرون منها إلا مثل
الأيام التي خلت من قبل، ومع هذا كله فإنني أعتقد أنه يمكن وضع قانون لإصلاح
جزيرة العرب، يكون من أوائل مواده: أن هذه البلاد كلها تابعة للدولة العلية، وليس
لأحد من أمرائها ولا زعمائها حق في معاملة دولة من الدول الأجنبية معاملة ما لا
تأذن لها بها قوانين الدولة، وأن تدفع للدولة أموالاً أميرية، وأن تقر الدولة إمام
اليمن على إمامته في طائفته، وكذا كل أمير وزعيم على إمارته بأن يكون هو
المنفذ للنظام الداخلي فيها، وأن يترك لهم سلاحهم، ويحتم عليهم حفظ الأمن في هذه
البلاد، وتكافل الأمراء والزعماء على منع الغزو، ومساعدة الدولة على نشر التعليم
وتحضير الأعراب، وتتبع ذلك الجندية.
إذا وفقت الدولة لمثل هذا العمل، فإنها تملك جزيرة العرب ملكًا حقيقيًّا من
غير سفك دماء أبنائها، ولا إضاعة الملايين من الليرات التي تأخذها من أوربا
بالربا الفاحش والذل، وتفتح لنفسها بابًا واسعًا من الثروة، وإن أبت إلا التعجيل
بإزالة نفوذ كل ذي نفوذ بالقوة العسكرية، فإنني أخشى أن يكون الخطر عليها من
هذه السياسة من أشد الأخطار؛ لأنها تكون سياسة سفك دماء، وتدمير بلاد،
وتمزيق القوة العسكرية في بلاد لا يمكنها البقاء فيها، وما وراء ذلك إلا العذاب
الواصب، أو استيلاء الأجانب.