للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقالة الأولى لجريدة العلم
نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها
٢٠٥ الذي صدر في ٨ المحرم، وهذا نصها:
(مدرسة التبشير الإسلامي)
ما وراء الحجاب
إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة،
وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ
المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه
لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة
الدينية.
مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل
والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني
أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد
هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت
الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع
آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو
مفتريات تلصق بالدين!
رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله
تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى
ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا
وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش
بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد
تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون
بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها
وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من
استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من
العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل
ما لا يسعنا إلا استبعاده.
فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء،
وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل
مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو
ذلك من الأغراض الحقيرة.
ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه
من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية،
يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم
الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم
لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في
المواكب والمجالس.
ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها
آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز
يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك
العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة
خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس،
ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن.
ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا
يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم
من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك،
ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية
مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر
جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج
الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو
مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها،
ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا
ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير
وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في
الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر.
هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين
للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش
بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية،
المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا
الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل
مآربهم السافلة الحقيرة.
وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها،
فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية.
وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك
منك ولو كان أجدع.
فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون
منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا.
إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا
الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف،
ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا
نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل
المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ
حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه،
ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ
يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: ٦٥) .اهـ.
***
(المنار)
هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان
حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة
الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل
الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل،
فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض
أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم
التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في
الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما
لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين
بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين
لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته
عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد
أغنانا الله عن مساعدته.
بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير
العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما
يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله
العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها
خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس
التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية.
كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين
للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم
أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز
بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد
إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم.
((يتبع بمقال تالٍ))