للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المقالة الأولى التي كتبت
ردًّا على جريدة العلم التي يصدرها الحزب الوطني

(مشروع العلم والإرشاد في الآستانة)
(والدعوة والإرشاد بمصر)

] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[١]
ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت
جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها
فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن
يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين
أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من
المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام
القيمة، وآيات السياسة البينة.
فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن
صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه،
لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني
اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات
المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان
حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل.
ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه
الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة
العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت
رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز:
كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة
إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم،
وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس
كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة،
وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة ١٣١٨ مقالتين
عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان) ، وعنوان الثانية: (الدعوة وطريقها وآدابها)
ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب
وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات
النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛
فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر
سنين أو أكثر.
وفي سنة ١٣٢٣ توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت
فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة
اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل
الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول
عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها
تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني
وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء
الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة ١٣٢٤ أي: منذ خمس سنين.
كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب
الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى
محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -
ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين،
واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار.
وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده
محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات
التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى
تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف
الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة.
ثم حدث في سنة ١٣٢٦ الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم
خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب
على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في
الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة
به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة
الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد،
فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف
العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين
مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج،
وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس
المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم
ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على
الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية
الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها.
رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة ١٣٢٧، بعد مكاتبة في
المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في
سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان
البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا
عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين
لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء،
وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية
والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها
القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين.
عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية
الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما
علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج
الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ،
وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي
باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً،
ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة
المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من
تأليف الجمعية.
ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية
وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى
فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير
المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة.
وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع
مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة
الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس
من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة ١٣٢٨، ومنهم شيخ الإسلام
الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح
بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت.
* * *
قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي
إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة
بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام
الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع،
وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في
الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك
فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن
تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ
أقول: (١) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر
عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا
بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة
إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ
الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه.
(٢) لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي
باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد،
بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها
الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج٦م١٣) .
(٣) إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن
يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان
جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية
التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع.
(٤) الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا
المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي
يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس
الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) .
(٥) إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ
الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر
الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة،
وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها،
وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛
لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف
بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها.
(٦) كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من
رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن
المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من
أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من
سعيي للمشروع هناك.
(٧) لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل
اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة ١٩ رمضان سنة
١٣٢٨، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ
الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في
محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل
قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي
ألفت لأجلها، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد، وقال لي أحمد نعيم بك بابان
العضو في مجلس المعارف وفي مجلس إدارة الجمعية: أظن أن الناظر كتب بالفعل
إلى الباب العالي يقترح تعديل القرار.
* * *
هذا نبأ وجيز من تاريخ المسألة، وهو يدحض جميع تلك (الأقاويل)
و (الإشاعات) التي بني عليها كلامه كاتب تلك المقالة في جريدة العلم، ومنه يعلم
كل من له مسكة من الاستقلال في الفهم والرأي أنه لا مجال للظنون والأراجيف في
هذا المشروع العظيم، ولا في سعي هذا العاجز الضعيف إليه، وهل يعقل أن أترك
عملي الكثير بمصر، وأقيم سنة كاملة في الآستانة، وأخسر من المال والوقت ما لا
غنى لي عنه، إلا لشدة إخلاصي في خدمة ديني ودولتي، كما سبق لي منذ قدرت
على خدمتهما.
أما ما قيل (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطي في الاشتغال بالمسألة العربية،
فليعلم ذلك الكاتب أنه من الكذب والبهتان، وهو أغرب من اتهام الحزب الوطني
بخدمة الإنكليز في المسألة المصرية وتمهيده السبيل لامتلاكهم مصر. وذلك أن
كتاباتي في محاربة العصبية الجنسية في الإسلام، وفي أخوة المسلمين العامة،
وفي التأليف بين العرب والترك خاصة، منبثة في ثلاثة عشر مجلدًا ضخمًا من
المنار، وفي أربعة مجلدات من التفسير، ولا أطيل في هذه المسألة البديهية، فإنما
غرضي في هذا المقال بيان ما لا بد منه من أمر مشروع الإرشاد في الآستانة العلية،
ليعلم أنه لا مجال للاشتباه فيه، وأن ما تقرر هنالك لا يغني عن إنشاء مدرسة
للدعوة إلى الإسلام هنا.
وسأبين في مقال آخر جوهر المشروع المتفق على إنشائه هنا، وأنه لا مجال
فيه أيضًا للأراجيف والظنون، وأنه لا يعارضه ولا يناهضه إلا عدو للإسلام
والمسلمين، أو حاسد للعاملين، فاصبر إن الله مع الصابرين.
وما سكتنا عن بيان المشروع في الجرائد؛ لأنه سري أو لأن فيه شيئًا سريًّا، وإنما
هو طور التكوين، فمتى تم تكوينه بيناه للناس أجمعين، ولتعلمن نبأه بعد حين.
((يتبع بمقال تالٍ))