للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقالة العلم الثالثة

بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن
الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة
إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد ٢١ المحرم المقالة الآتية
بنصها، وهي:
(مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي)
نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من
رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون
علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من
القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا.
يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب
الديني والجامعة الإسلامية.
طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها
مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط
والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق.
طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا
كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة
الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية.
وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه
ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل
استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل
مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في
ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا
الحاجة إليهم؟
إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة
لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى
أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي
لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها
أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد
أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم
الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من
عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته.
لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين
الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك
الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن
لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول
الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام
كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء.
أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه
البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها.
أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام،
وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم
الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها،
وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟
وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها
ندمًا على ما فرط منها.
اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا
للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما
صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا
وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم
أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم
قليلاً.
إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل
الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد
شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها،
وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه
ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من
المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا
تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم
لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه
المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء.
هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب
لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء
المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية،
وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها
الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا
عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون.
(الرد على هذه المقالة)
بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد ٢١ المحرم عدة أمور نذكرها مع
التعقيب عليها:
(١) إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط،
ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور
من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب
الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل
ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من
الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم
التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو
جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته
ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له
أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس
خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن
يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في
المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك
لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا.
(٢) تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني،
وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه
الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك
بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع
ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو
دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا
المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟
(٣) تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه
المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان،
وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم
المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن
يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون
في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا
الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً
بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة
إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة
للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ،
ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح
والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل،
وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له
ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة.
ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن
قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ
كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: ١٠) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم.
رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة
هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها
الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة
العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز.
خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في
الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية
على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون
هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي
دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛
لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل
قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين،
بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني
العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات
أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء
المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين،
وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة
الحكومات.
وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر
المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين
بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال.
وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد
دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة،
ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه
بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو
السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإسلام وغيره من رجال الآستانة بأنني لا
أشتغل بالعمل هناك، إلا إذا كان بعيدًا عن السياسة ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن له
صبغة رسمية.
(٤) تسألنا جريدة العلم هل سلكنا ما سلكه أهل الصليب أيام كانوا مثلنا
اليوم جهلاء ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء، ونجيبها نعم.. إننا
أردنا ذلك، ولكن مصاب المسلمين بوجود مثل ذلك الكاتب محررًا أو رئيس تحرير
في جريدة تنتمي إلى حزب يعتقد أنه يؤديها ولو بالباطل؛ هو الذي حال بيننا وبين
ما نشتهي من السكون والسكوت، فماذا نفعل إذا كان الذي أثار بيننا الجلبة
والضوضاء هو أقدر أهل بلادنا على الجلبة والضوضاء لأنه هجيراه في حياته،
ومورد رزقه وعنوان جاهه.
(٥) ينصح لنا ذلك الكاتب المفتات بأن نبدأ بالجهال من أبناء ديننا،
فنعلمهم ونرشدهم ثم نثني بغيرهم إن وجدنا من أوقاتنا ومجهوداتنا متسعًا، كتب هذا
بعد أن قرأ في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إليه مع كتبًا خاص، فلم ينشرها وبعد أن
نشرها المؤيد، ونشر موضوع المدرسة منها غير المؤيد؛ كالأخبار والأهالي،
وعلم الألوف من الناس كما علم هو أن هذا هو غرضنا، وليس هذا ببدع من إرشاد
جريدة العلم، فقد كنت منذ عهد قريب تقترح من إصلاح قانون الأزهر ما هو
منصوص في ذلك القانون؛ لأن رئيس تحرير هذه الجريدة جعل نفسه بغروره
مرشدًا للحكومة والأمة، وإن كان ما يأمر به تارة من تحصيل الحاصل، وتارة من
الممتنع شرعًا أو عقلاً أو قانوناً أو عادة، وماذا يهمه أن تمتع بلذة الأمر والنهي،
أن يكون إرشاده من العبث واللغو.
(٦) أمرنا رئيس تحرير العلم عملاً بشنشنته؛ بأن ندخل ما نشاء في مواد
المدرسة في الأزهر، ونعد طائفة من طلابه للإرشاد والدعوة، ونبأنا أن نقيم معهدًا
خاصًّا لما أردناه! ! وهو يجهل أو لا يجهل (الله أعلم) أن امتثال أمره ليس في
أيدينا، ولا مما يدخل في استطاعتنا، إن الداعي إلى هذا المشروع هو العاجز
الضعيف صاحب المنار، وقد عيره هو بالضعف والعجز في جريدة العلم مرارًا،
وما فعل ذلك إلا إعجابًا وغرورًا بحوله وقوته، واعتزازه بحزبه، ولكنه نسي مع
ذلك انه هو قد عجز على قوته وعظمته عن تعبير شيء من مواد قانون الدراسة في
الأزهر، فكيف يقدر على ذلك هذا العاجز الضعيف الذي لا حزب له ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا كان أمره لا يطاع فكذلك نهيه فليترك هذه الرياسة
العامة، في هذه المسألة الخاصة، أو ليكتف بالإرجاف والتشهير، إن كان مُصرًّا
على مقاومة هذا العمل الشريف.
(٧) ناقض العلم نفسه كعادته، فأذن في آخر مقالته للعقلاء المخلصين منا
بالأعمال لتي تحتملها السياسة، وأن يقيموا ما شاءوا من المدارس (على شريطة أن
لا يجروا شيئًا بأسمائها الضخمة وعناوينها الفخمة عليها من البلاء والشقاء) ،
ونهاهم (أن يجلبوا على العالم الإسلامي بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل
به) ! ! ! وغرضه من هذا الأمر - إن أطيع فيه - أن يتلذذ بنفوذه في إبطال
المشروع أو عنوانه الدال عليه، وما رأينا في غرائب هذا الكاتب وبعده عن
المعقول أبعد عن الصواب من توهمه أو إيهامه أن البلاء والشقاء سينزلان بالعالم
الإسلامي بسبب كلمة الدعوة والإرشاد، وإن الأوربيين مثله يحفلون بالألفاظ دون
المعاني والحقائق. وأما المشتغلون بتنفيذ هذا المشروع فيريدون أن يكون ظاهرهم
كباطنهم وقولهم كفعلهم، يعلمون أنهم لا يقدرون على غش الأوربيين وخداعهم إن
أرادوا ذلك - وهم لا يريدونه كغيرهم - ولذلك يصرحون بأنهم يربون طائفة من
الطلاب ويعلمونهم ما يقدرون به على الدعوة والإرشاد والتعليم، يرسلونهم إلى أحوج
البلاد الإسلامية إليهم، ثم إلى البلاد الوثنية، ثم إلى غيرها كما بينا في المقالة الثانية
من تقديم الأهم على المهم بحسب الاستطاعة، وسيسيرون على سنة الله تعالى في
أمثالهم من المصلحين، وقد وعد الله تعالى بإظهار هذا الدين كله ولو كره
الكافرون، وكان وعده مفعولاً في كل حين.
وقصارى الكلام، أن جريدة العلم قد خرجت عن منهج الرشد، وأسرفت في
البعد عن الحق، بالغلو في مقاومة هذا المشروع المفروض، بما لا يقبله إلا من اتبع
كل ناعق فيما يقول، لحرمانه من حرية الفكر، وعطله من حلية استقلال
الرأي، فهاجمته أولاً بالإرجاف السياسي وإيهام الناس أنه سيكون من القوة، بحيث
يسقط دولة للمسلمين ويؤسس دولة للإنكليز، بإيهامهم بعد ثلاثة أيام أنه من
الضعف بحيث يجزم الكاتب، ويحلف بأن الإنكليز سوف يسومون أهله سوء
العذاب! ! ! حار الكاتب في هذا الأمر وحاص، وناقض نفسه عدة مرات، ثم
تنصل من عداوة المشروع ومقاومة أهله، وادعى أنه ناصح ولو كان ناصحًا لنشر
مقالتنا الثانية، وجعل النصيحة بيننا وبينه، على أننا ننصح له كما نصح لنا بأن
يحاسب نفسه فيما يكتب بينه وبين الله، ولا يقفو ما ليس له به علم؛ عملاً بكتاب
الله عز وجل، وليقل خيرًا أو ليصمت؛ عملاً بهدي المصطفى صلى الله عليه
وسلم، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وأن يرجع إلى الحق فذلك خير من
الإصرار على الباطل، كما هي سنة السلف الصالح، فإن قبل النصيحة عاد
من التشنيع والتشهير والتشكيك والتهديد والوعيد إلى بيان محاسن المشروع والحث
عليه والترغيب فيه، ويكون عمل بحديث: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق
الناس بخلق حسن) رواه أحمد والترمذي عن أبي ذر ومعاذ. وحينئذ يجعل
النصيحة بينه وبين القائمين بإحياء هذه الفرائض التي يرجى بها تجديد دعوة
الإسلام - إن شاء الله تعالى - كما هو شأن المخلصين في نصحهم؛ الذين لا
يقصدون به الرياء والدعوى. وإن أخذته العزة بالإثم، ولم يعمل بهذه النصيحة
فحسبه غروره وتغريره، وعاقبة عدوانه ومصيره، وحسبنا الله فهو أغيرعلى
دينه من جميع عبيده المؤمنين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.