للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الذكر بالأسماء المفردة

(س٤) من صاحب الإمضاء بطوخ القراموص
حضرة الفاضل صاحب المنار المنير الأفخم:
اطلعت على ما جاء في جوابكم على سؤال في الطريقة الشاذلية الدرقاوية
المنشور في ج٣ م١٣ ص ١٩٤ من المنار؛ من أن الذكر بالأسماء المفردة لم يرد
في الشرع الأمر به ولا العمل ... إلخ.
وحيث إن هذا المذهب، وإن سبقكم إلى القول به العز بن عبد السلام وابن تيمية
الحنبلي وغيرهما ممن حذا حذوهما؛ مخالف للسنة ولإجماع الصوفية وجمهور
الفقهاء والمحدثين، رأيت أن أرسل إليكم بهذه العجالة؛ لتنشروها في المنار، فإن
الحقيقة بنت البحث وإليكم البيان.
(١) في الجوهر الخاص للعلامة الغمري أن الذكر ما أتى قط مقيدًا بشيء،
فليس في الكتاب ولا السنة اذكروا الله بكذا، بل اذكروا الله مطلقًا من غير تقييد بأمر
زائد على هذا اللفظ.
وفيه أيضًا: هل قول الذاكر: الله الله، يحتاج إلى تأويل خبر أم لا؟ الجواب:
أما من حيث الأكمل فيحتاج إلى خبر ليتم المعنى لا من حيث إنه يسمى ذكرًا فإنه
يسمى ذكرًا بدون ذلك؛ لأن صيغ الذكر وضعت للتعبد بها، ولو من غير تأويل
خبر.
ونقل العلامة العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث: (إنما
الأعمال بالنيات) أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما
يتميز بنفسه فإنه يتصرف بصورته إلى ما وضع له: كالأذكار والأدعية والتلاوة؛
لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.
(٢) مما يدل على الذكر بالاسم المفرد من السنة، ما ورد في الحديث
الشريف عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة
على أحد يقول: الله الله) ، وعن علي كرم الله وجه من حديث طويل، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله
الله) ، وفي رواية حميد عن أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله
الله) ، وفي الأنوار السَّنِيَّة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قال العبد: الله -
خلق اللهُ من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يصعد حتى يغيب في علم الله وهو يقول:
الله الله ... ) إلى آخر الحديث.
(٣) في ذيل الرسالة القشيرية: كان رجل يكثر أن يقول الله الله، فوقع يومًا
على رأسه جذع فانشج رأسه فقطر الدم فاكتتب على الأرض: الله الله. وذكر ابن
العربي أن هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله بأنفاسهم العالم.
وقال اليافعي ذكر الأقطاب: الله الله الله بسكون الهاء وتحقيق الهمزة، كما في
شموس الآفاق. وكان العارف بالله تعالى سيدي أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه،
يقدمه في التلقين على لا إله إلا الله. وقال في رسالة القصد: يقول المريد: الله الله،
وكما تلقنا لقنا وعمل بها واختارها هو وجمع من الصوفية لا يحصون، واختار
الغزالي في كتاب الميزان الإكثار من ذكر الله، وذكر أنه تلقن عن بعض مشايخه: الله
الله، وقال: إنها متضمنة لمعنى الشهادتين، وفصل أخو الإمام الغزالي فقال:
للمبتدئ: لا إله إلا الله، فقال: وهو ذكر ينفي الحظوظ ويبقي الحقوق، ويسرع
ذهاب الأغيار بالأنوار، وللمنتهي هو هو، وصنف في ذلك كتابه. وذكر العلامة
العدوي على كفاية الطالب عند قول الرسالة: وليقل الذابح عند الذبح بسم الله والله
أكبر لا يشترط بسم الله، إلى أن قال: لو قال: الله مقتصرًا على لفظ الجلالة أجزأ
ولو لم يلاحظ له خبرًا؛ لأن الواجب ذكر الله، وفي بعض حواشي الخرشي: لو
لم يلاحظ له خبرًا لكفى، وإما بالصفة كالخالق والرازق فإنه لا يكفي اهـ.
هذا ما حضرني الآن على مشروعية الذكر بالاسم المفرد والعمل به، ولو
أردت أن أورد الشواهد من السنة وأقوال الأئمة على اختلاف درجاتهم ومنازعهم
لطال بنا المقام، وفي هذا القدر كفاية. وعليه ترون أن القول بخلاف ذلك
مردود بما ذكر. والله ولي التوفيق.
... ... ... ... خادم العلم الشريف أحمد محمد الألفي
... ... ... بطوخ
(ج) استدل السائل على مشروعية الذكر بالأسماء المفردة بقول الغمري:
إن الذكر ما أتى قط في الكتاب ولا في السنة مُقَيَّدًا بشيء، وبقوله: إنه لا يحتاج
في صحة كونه ذكرًا إلى تقدير خبر، وقول الحافظ ابن حجر فيما تشترط فيه النية،
ثم ببعض الأحاديث، ثم بأقوال وحكايات عن بعض المتصوفة.
فأما كلمات المتصوفة وحكاياتهم فليست بحجة عند أحد من علماء المسلمين،
حتى تحتاج إلى إثباتها والبحث في دلالتها، ومن السهو أن يعبر السائل الفاضل عن
ذلك بإجماع الصوفية؛ إذ لا يمكنه إثبات هذا الإجماع، وهو ليس بحجة لو ثبت،
ومثل ذلك قوله جمهور الفقهاء والمحدثين، وإنما الفقهاء الذين يعتد بكلامهم فهم
المجتهدون، ولم يذكر كلام أحد منهم ولا من المحدثين في محل النزاع.
وأما قول الغمري فهو لا حجة فيه من حيث هو قوله ولا صحة له في نفسه
بل هو باطل، فقد جاء الذكر في كل من الكتاب والسنة مطلقًا ومقيدًا بذكر آلاء الله
ونعمته؛ كقوله تعالى في سورتي المائدة والأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب: ٩) ، وقوله في سورة الملائكة: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: ٣) ، وقوله في سورة الأعراف:
{فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} (الأعراف: ٦٩) ، وكل ما ورد في الكتاب والسنة
من أنواع الأذكار كالتهليل والتسبيح والتمجيد فهو من الذكر المقيد، والأمر بذكر
الله مطلقًا من غير ذكر الاسم ينصرف غالبًا إلى الذكر النفسي؛ كذكر الآلاء
والنعم أي: تذكرها والتفكر فيها، وحيث يذكر لفظ (الاسم) يراد ذكر اللسان
كقوله تعالي في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: ١١٨)
وقد حققنا هذا المبحث فيما زدناه أخيرًا في تفسير الفاتحة عند شروعنا بطبعها في
الجزء الأول من التفسير، وأما ما نقله عن الحافظ في مبحث النية فليس مما نحن
فيه.
بقي ما ذكره من الأحاديث وهي موضع البحث دون سواها؛ لأن المسألة
صارت من المسائل المختلف فيها بين المسلمين، فمثل العز بن عبد السلام من أكبر
علماء الشافعية وكان يلقب بسلطان العلماء، وابن تيمية من أكبر علماء الحنابلة،
يقولان بعدم مشروعية الذكر بالأسماء المفردة، وناهيك بسعة علمهما بالكتاب
والسنة، وقد شهد العلماء لكل منهما بالاجتهاد المطلق. ويقول غير واحد
كالذين ذكر السائل أسماءهم: إنه مشروع، فيجب أن يرد هذا الخلاف إلى الكتاب
والسنة لا أن يقال: إن كلام عز الدين مردود بكلام الغمري مثلاً.
السنة النبوية هي البيان الأجلى لكتاب الله تعالى، ولم نر في كتب الناقلين لها
من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم المعتبرة؛ أن للنبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه كانوا يذكرون الله تعالى بالأسماء المفردة، كما يفعل أهل الطريق الله الله
الله أو هو هو هو (إن صح أن هذا اسم) ، أو حق حق حق، فهل يعقل أن يترك
النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبادة إذا فهم أنها مرادة لله تعالى من إطلاق الذكر
في بعض الآيات، وأن يتركها أصحابه - رضي الله عنهم - إذا فهموا ذلك أو رأوا
النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ أم يصح أن تكون هذه عبادة قد مضت بها سنتهم
ولم ينقلها أحد من الرواة؟ ثم إننا روينا من أحاديث الأذكار الكثير الطيب؛ كالتوحيد
والتسبيح والتجميد والتكبير والاستغفار، ولم نرو فيها أمرًا بقول الله الله، أو حي
حي باللفظ المفرد.
أما حديث إذا قال العبد الله ... إلخ الذي نقله عن كتاب الأنوار، فهو لا يصح
ولا يحتج به بل هو موضوع، وأما حديث: (لا تقوم الساعة ... إلخ) ، فقد
رويناه عن مسلم في صحيحه من حديث أنس، وكذا عن أحمد في مسنده والحاكم
وابن حبان وغيرهم، وكان ينبغي للسائل عزوه إلى صحيح مسلم، وعبد بن حميد
من شيوخ مسلم، وقد رواه من طريق حماد عن ثابت عن أنس بلفظ (لا تقوم
الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ، ومن طريق معمر عن ثابت عنه بلفظ:
(لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) ، ورواه عبد بن حميد وابن حبان عنه
بلفظ: (على أحد يقول لا إله إلا الله) ، وكذا ابن جرير والخطيب وزادا (ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر) ؛ والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو
بمعنى الثانية أي: لا أحد يذكر الله وحده في إسناد الأمور إليه؛ بل يكون الناس
كلهم ملحدين أو مشركين، وهذا ما صح في الأحاديث عند البخاري ومسلم وغيرهما،
والرواية وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه، واللفظ في العربية لا يكون مرفوعًا
ولا منصوبًا ولا مجرورًا إلا في الكلام المركب، وقد ذكر علماء البلاغة نكت حذف
المسند والمسند إليه من الكلام، والعمدة فيها كلها القرينة المبينة للمراد، وقد وقع
الحذف في القرآن كثيرًا، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: ٢٥) أي خلقهن الله، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي
جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا
لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: ٩١)
أي قل الله أنزله أي: كتاب موسى إن لم يقولوه، ولو علمنا ما كان يحتف بالحديث
من قرائن الأقوال والأحوال لجزمنا بالمحذوف كما نجزم به في الآيتين، ولكننا
نقدره، ولم نطلع على تلك القرائن بما يتفق مع رواية على أحد يقول لا إله إلا الله
وروايات غلبة الشرك والكفر على الناس الذين تقوم عليهم الساعة، فنقول المعنى
لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله فعل كذا، الله قدر كذا، ولا يظهر إرادة النطق
بلفظ الجلالة مفردًا، فإن المشركين والملاحدة يذكرون الاسم الشريف بمناسبات
كثيرة.