للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: سليمان الجادوي


حال المسلمين والمصلحين
أو هل إلى الرقي من سبيل [١]
لقد أسفر حديث مضى لنا، وكان لهذا الحديث صدرًا عن حقيقتين لا مراء
فيهما، بل مقدمتين لأقضية سنفيض الكلام فيهما، هما شعور عموم المسلمين بما
حاق بهم من سيئات ما كسبوا واختلافهم في الرأي، أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ولقد
حدا بنا الحديث إلى الإفاضة في ولع المسلمين بالخلاف، حتى في أحرج المواقف
وأضيق الأوقات، وكذلك حقت عليهم الكلمة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك،
فإنهم يعلمون أن الرقي على ضربين: مادي وأدبي، وأن الرقي المادي نتيجة
السعي والأخذ بما أخذ به الأقوام، ولا يعصم من شروره إلا التحرز بحرز الآداب
الدينية التي أرشد لها الكتاب المبين. فهل بعد هذا لأحد هذين النوعين توقف على
الآخر أو بالحري: هل يكون نصيب كل منهما من الاهتمام في الوقت الحاضر
على السواء أو أن أحدهما الأحرى بالتقديم.
ألا لا يجادل أحد في أن الأفعال مهما كانت قيمتها، لا تصدر إلا عن وجدان
نفسي تابع للتربية العامة والتلقين بالتعليم، وإن التعليم ليجمع بين المختلفين في
أساليب التربية، فيجعلهم أشبه ببعضهم في كل شبيه، ولما كان المسلمون قد
أصابهم من سيئات الشقاق والتدابر ما أصابهم، وهم اليوم أحوج ما يكونون إلى
باعث يبعثهم على سلوك سبل الارتقاء الحق متحدين، فهل لذلك من واسطة غير
توحيد التعليم، وبذلك يتضح جليًا توقف أحد النوعين على الآخر وإن سلوك طرق
الرقي المادي قبل الوصول إلى غاية في الرقي الأدبي عسير إن كان ممكنًا،
وبعكس النتيجة إن لم يكن عقيمًا.
بقي النظر في هذه القضية وهي توحيد التعليم بين المسلمين، هل للنفس في
تحقيقها من طمع؟ وهل أسبابها مهيأة؟ وهل يقوم دون الوصول إليها من عائق
عتيد؟
لا أتوقف في الجواب عن جميع تلك الأسئلة بالإيجاب، وشرحها بيت القصيد،
ذلك بأن الله ورسوله يأمران جميع المسلمين بالائتلاف والاتفاق، وبحذرانهم
مزالق الفرقة، وقد جمع الله المسلمين في اليوم وما قبله على كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم، فهم وهم بضع وسبعون فرقة تدين بما ذكر، وتطأطئ
الرؤوس إذعانًا، وهذان هما جماع الخير ومنبع الرشد، وإذا وصل الفكر إلى هذا
الحد يرقص طربًا؛ إذ يرى فواق الناقة أبعد من رقي المسلمين، ولكن تجاوزه هذا
الحد يحدث له رد فعل، يخور معه عزمه، فيسقط في اليأس واهيًا حيث يقف أمامه
عائق عتيد، وذلك هو كثرة الأعداء وقوتهم الفائقة الحد وتيقظهم لكل بادرة، ينتج
عنها صلاح المسلمين.
إن المسلمين في سائر الأقطار قد تقاسمهم غيرهم، فهم بين استقلال مستبد أو
استيلاء غريب، وكل من هذين ضنين بما غنم منهم، فلا يغفل عن أقل شيء
يضعف ضغطه عليهم، حتى يستأصل شأفته، ولا يدع سببًا أوقعهم في يده، حتى
يحرص على استدامته حرصه على سيادته، وما المستبد إلا حافظ أمين على تلك
الغنيمة التي وقعت بين يديه، حتى يستلمها من يده الغريب، وهي على تربية
العبيد.
وهذه الحكومات بين مستبدة وغريبة، قد اتخذت لها أعوانًا قلدتهم أوسمة العلم
ونياشين المعارف، وأبرزتهم للعامة حتى يكونوا مقام التقليد، فكان هؤلاء حربًا
للمسلمين، ومانعًا من ائتلافهم، ومشنعًا على كل من جاهر بهذا القصد بأنه ملحد
عدو للمسلمين، فلا تلبث الحكومات أن تؤيدهم؛ لأنهم يؤدون لها أجل خدمة، ولا
تلبث العامة أن تزدري بما ألقي إليها؛ لأنه ضد إرادة سادتهم من أولي الأمر وأهل
الدين، وهكذا تذهب صيحات المرشدين ونصائح المصلحين دون صدى، ويذهب
جهدهم سدى، وما خصهم إلا من عرفت. وربما بحث الناظر عن سبب وقوف
هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح؛ لمكانهم من
الدين، فأقول: إن لذلك سببين: أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب، وأن الذي
أجلسهم على الوثير، وألبسهم من الحرير، ورفع منزلتهم، وجلعهم يعيشون عيش
المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم، ولعلهم
برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق، والشظف الذي كان يكابده
السلف، وذلك ما يرجفون لذكراه، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب، فرأيت
منه من الأفكار ما سرك، وتمنيت أن يكون ذا منصب، حتى يكون للإصلاح خير
ظهير، هذا أضعف السببين. وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم
الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة، ما داموا علماء رسميين، فغالطوا أنفسهم كما
غالطهم أولو الأمر، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم.
أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا، ولكن هو وصف لمن اتصفوا
بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة
يمنحها الولاة للذوات، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل
تحصيلها، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء
أحرارًا في الاستنباط والفهوم، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد، ولكن ملوك
الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني، اضطروا
إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها، فتجعله للدين أصلاً،
ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو
البضاعة المزجاة في العلوم، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى
أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا
رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه. ولم يخل قرن من الأيام الخالية
من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال، وما هو إلا أن
يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله، فيجردون عليه جيشًا من
أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني
عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت
صوته، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين، وهم
يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث
الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين، وهو خوف رجوع أولي الأمر، والعامة إلى
أولئك النابغين، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق، ويظهر جليًا عليهم
القصور، فأرهفوا الحد استعدادًا لتلك الطوارئ، ونصبوا الإسلام على أسنة أقلامهم،
وقالوا: أما التقليد لكل ما ترون أولاً فليس إلا إلحاد وزيغ وضلال دون أن يكلفوا
أنفسهم مشقة الاستدالال، ولئن سألتهم عما يقصدون عن إشهار تلك الحرب العوان
ليقولن: إنا حماة الدين، وإنه ليوجب علينا تغيير كل منكر رأيناه، ما لهم لا يغيرون
ما بين بأيدهم من المنكرات، بل بالعكس تراهم قائمين عليهم وبها يأمرون.
ألم تر أنهم يبصرون الشموس كالأساطين، والمصابيح الأولوف تسرج، ونور
السراج الوهاج يضيئ ما بين اللابتين. ألم تر أنهم يبصرون المباخر الفضية
توضع في مجالس أحاديث الرسول - صلوات الله عليه - وهو ينهى عنها وهم
بها راضون، ولكن هذه المنكرات الصريحة لا تسوءهم مثلما يسوءهم من ينادي بأن
الخلاف بين فرق المسلمين يمكن تسويته، وأنهم لو أحسنوا المناظرة لما اختلفوا، وأن
تنديد بعض هذه الفرق ببعض في غير محله، ولا ينبغي الإقرار عليه. من قام بهاته
الدعوة وقرع بها أسماعهم وهي كما رأيت أقصى ما يتمنى المسلمون، لا يكون
جزاءه منهم (أي من هؤلاء العلماء) سوى رميه بالاعتزال بل بالمروق والزيغ
والإلحاد، والاستدلال على ذلك لديهم هين؛ إذ لا يتجاوز حكاية منامية رآه فيها مسود
الوجه متغير الحال، كما بلي جمال الدين الأفغاني (بسميه) وكما بلي به الشيخ محمد
عبده وبمجنون بيروت، وكما بلي من قبله الغزالي بمن لا يصلح أن يكون شراكًا
لنعله، فرموا بالزندقة والإلحاد والكفر والاعتزال (لأن في عرفهم أن الاعتزال
منصفة) ويطلقون كل هاته الألفاظ على شخص واحد مع علمهم باختلاف معانيها،
ولكن حيث كان الباعث على قذفها الغيظ والعداء، لا يرون حرجًا في جمعها في
كنانة واحد؛ إذ جعبة الغضب أوسع من جعبة الحق، ويجرئهم على ذلك مركزهم
الذي يجعل كلامهم مقبولاً، ويأمنون به مناقشة الحساب.
ألا لقد سار القلم شوطًا بعيدًا في هذا الميدان، حتى أشفق الفكر على القارئ
السآمة والتشتيت، وما كان القصد سوى التعريف بأن السبب الذي يقف في وجه
رقي المسلمين هو قوة أعداء ذلك الرقي، وبيان أن أهل الأمر هم أصحاب الفائدة
من تقهقر الأمة، وهم الذين أوقفوا لسعيهم حدودًا ولأفكارهم جنودًا ممن ذكرنا، فهم
المؤاخذون الأصليون. وإن جندهم من أولئك ليعملون على قدرعقولهم، لم يصلوا
إلى مرتبة تعرفهم بالحق، حتى يكونوا إذا لم يأخذوا به مؤاخذين، بل ذلك مبلغهم
من العلم والحياة الدنيا جل ما يطلبون، وإن منهم لفريقًا يكتمون الحق وهم يعملون،
وما أولئك إلا القليل.
ذلك العائق الذي شرحناه هو الذي حجز بين المسلمين وبين ما يبتغون، فهل
من مطمع في زواله؟ وهل إلى الرقي من سبيل؟
... ... ... ... ... ... ... ... ... سليمان الجادوي
(المنار) قلما رأيت في الجرائد كتابة في حال المسلمين أو في المسائل
الاجتماعية موزونة بميزان العقل، وصادرة عن روية واستقلال في الفكر كهذا
المقال، وإني أجيب الكاتب الفاضل بأن السبيل إلى رقي المسلمين واحدة؛ وهي أن
يكثر فيهم المصلحون من أهل العلم والبصيرة والتقوى، فيقوى حزبهم على حزب
الدجالين الجامدين، الذين حالوا بين المسلمين وبين الترقي في دينهم ودنياهم معًا،
ولا بد لهذا من سعي خاص، حتى لا يطول أمد الوصول إليه، وهو كائن بإذن الله
طالت المدة أم قصرت، ولا يهولنك كثرة أتباع الدجالين، فما ذلك تأثير دجلهم
الحادث، وإنما هي بقايا الداء الموروث، وقد يموت أكبر طاغوت منهم، فلا يشعر
الذين على رأيه بأنهم فقدوا شيئًا؛ فكثرتهم إلى قلة، وقلة المصلحين وأتباعهم إلى
كثرة، والعاقبة للمتقين.