للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسلمون والقبط
(النبذة الثانية)
عجبنا من الحركة القبطية الأخيرة وحق لنا العجب، وأن نبحث عن العلة
والسبب، شرذمة قليلة في أمّة كبيرة تأكل من ثمراتها زهاء ثلاثين من المئة، وهي
زهاء خمسة أو ستة في المئة، ثم تتصاعد زفراتها، وتتعالى نبآتها وهيعاتها: قد
ظلمنا المسلمون في وطننا، وهضموا حقوقنا لأجل ديننا، وتستنجد جرائد أوربة
وقسوسها ليلزموا الدولة الإنكليزية أن تنصر الفئة القليلة لأنها مسيحية، على الفئة
الكثيرة الإسلامية، أليس خطبها من أهم ما يبحث عنه، ويبين وجه الصواب فيه؟
ليعلم لماذا لم ترض بما كانت تأكله من حقوق غيرها بالهدوء والسلام، حتى اختارت
هذا اللدد في الخصام.
***
(بطرس باشا غالي)
بلى.. كان لهذه الفئة زعيم عظيم يأخذ بحجزها، ويمسكها إذا هبت رياح
الطيش فهمت أن تطير بها، ويحل جميع مشاكلها، ويقودها بالحكمة إلى أمانيها
ومقاصدها، مراعيًا سنن الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر النبذة الأولى من هذا
المقال، فلما اخترم ذلك الزعيم العظيم، لم يكن له خلف في عقله وحكمته، ورويته
وحنكته، فتصدى للزعامة مثل جندي إبراهيم وشنودة وأخنوخ فانوس ممن لا
بضاعة لهم إلا شقشقة اللسان، والقدرة على إثارة الأضغان، وكانت العاصفة بفقد
الزعيم شديدة فطارت بالقوم، ولم تقع بهم على ما يستقرون عليه إلى اليوم.
ذلك الزعيم هو بطرس باشا غالي الذي كان صخرة القبط التي ترتد عنها
قرون الوغول واهية، وتبنى عليها كنيسة مصالحهم فتكون ثابتة راسخة، وكان
أكبر ما أعده من آيات ترقيتهم، معرفتهم قيمة زعيمهم وخضوعهم لزعامته،
وإعلاؤهم لكلمته.
بلغ من دهاء هذا الزعيم القبطي أن جمع بين الضدين، ووضع نفسه موضع
الثقة من السلطتين، فكان - والأمير والعميد راضيان عنه - يقدم ما يشاء غير هياب
ولا وجِل، فإذا أراد أمضى، وإذا قال فعل.
كانت سهام متحمسي الوطنية من المسلمين تسدد إلى المسلمين من نظار
الحكومة وكبار رجالها دونه، على علمهم بعصبيته لطائفته وتقديمه إياهم على
المسلمين، منذ كان وكيلاً لنظارة الحقانية إلى أن صار رئيسًا للنظار.
وهو الذي أمضى وفاق السودان بعد أن امتنع عنه مصطفى باشا فهمي، وقال:
إنه حق الدولة العلية دوننا، وهو الذي رأس محكمة دنشواي؛ لأنه كان نائبًا عن
ناظر الحقانية، ولم يحدث في مصر منذ كان الاحتلال إلى اليوم ما آلم المسلمين
وهيج قلوبهم مثل هذين الأمرين، ولم تكتب أقلامهم أشد مما كتبته فيهما.
وكان من عجائب سيرة بطرس باشا أنه سلم من أسنة أقلامهم، وأسلات
ألسنتهم، فبقي عرضه وافرًا لم يكلم، وشرفه مصونًا لم يثلم، على حين وزراء
المسلمين وكبراؤهم يفرى أديمهم، وتؤكل بالغيبة والغميزة لحومهم.
يحفظ المسلمون على بطرس باشا أمورًا كثيرة في الاهتمام بطائفته وتقديمها،
وقد سألت مرة صديقًا لي من كبراء الإنكليز الذين كانوا موظفين في الحكومة
المصرية؛ أيتعصب بطرس باشا للقبط ويؤثرهم على المسلمين كما يقال؟ قال:
نعم.. قلت: أيفعل ذلك غيره من النظار المسلمين والرؤساء فيقدمون المسلم على
غيره، قال: لا.. ولكن أيهم أحسن؟ ؟
لما كانت واقعة المحاكم الشرعية، وأرادت الحكومة أن تجعل في المحكمة
الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، هاج المسلمون
في مصر، وحملوا على الحكومة حملة منكرة في الجرائد، واجتمع علماء الأزهر
أول مرة للإنكار على الحكومة، وكان من المتحمسين المشهرين بالحكومة من يتهم
الأستاذ الإمام بالرضى بالمشروع وتأييد الحكومة فيه، فسألته عن ذلك، فعلمت منه
أنه سعى في مقاومته سرًّا جهد طاقته؛ لأنه يضر ولا يفيد المطلوب، وقال: إن
الواضع الحقيقي له هو بطرس باشا لا ناظر الحقانية الذي يلعنه الناس، ومن
مقاصد بطرس باشا فيه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور
الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي،
فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية،
حتى لا يبقى للمسلمين في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية. قاوم
الشيخ الباشا في ذلك بمثل سيعه إليه، وكان كل منهما صاحبًا للآخر عارفًا لقيمته.
على ذلك كله، كان بطرس باشا آمنًا في سربه، عزيزًا في قومه، محترمًا
من المسلمين، يزوره حتى كبار علمائهم ورجال الدين فيهم، ولم يعلم أحد ما خبأه
له القدر، حتى حمي الأمر وقضي الأجل.
بينا فيما سبق أن الإفرنج يعنون بفرنجة غيرهم ليجذبوهم إليهم، وأن
الضعيف يقلد القوي فيما يسهل التقليد فيه أولاً ثم في غيره، وأن نغمة الوطنية في
مصر هي من هذا الباب، وأن المتحمسين فيها صاروا لا يفرقون بين الوطنيين
لأجل الدين، حتى كان منهم من يرضى أن يكون أمير البلاد قبطيًّا، وكان من
هؤلاء الوطنيين المتفرنجين شاب عصبي المزاج اسمه إبراهيم الورداني، تعلم في
أوربة، فكان من حظه في التفرنج قراءة أخبار الفوضويين الذين يجعلون أنفسهم
فدية لوطنهم، ولما صار بطرس باشا رئيسًا للنظار، وكان أهم ما حدث في
وزارته مشروع تجديد امتياز قنال السويس، وقامت الجرائد الوطنية تشرح ضرر
المشروع وغبن مصر فيه، وفائدة الشركة منه، اندفع إبراهيم الورداني بما اقتبسه
من تعاليم أوربة وتربيتها لا الأزهر الذي ربما كان لم يدخله قط، ورصد خروج
بطرس باشا من نظارته، وأطلق عليه الرصاص جهرًا فأصابه، ولم يلبث أن
قضى نحبه، ولم يفر الجاني ولا أنكر بل صرح بأنه تعمد قتله؛ لأنه اعتقد أنه
جان على وطنه بوفاق السودان ومحكمة دنشواي المخصوصة من قبل، وأنه يريد
أن يجني عليه الآن بمشروع قنال السويس.
فعل الورداني فعلته، فحكم عليه بالإعدام فأعدم شنقًا، كبر الخطب على القبط
وحق لهم ذلك. ولكن المسلمين لم يقصروا في مشاركتهم في كل شيء من تشنيع
الجناية، وتشييع الجنازة، وتأبين الفقيد ورثائه، بما لم يرثوا ولم يؤبنوا بمثله
وزيرًا مسلمًا من قبله، اشترك في ذلك أمراؤهم وعلماؤهم، وكتابهم وشعرائهم، دع
رجال الحكومة من جميع الطبقات؛ فقد كان الفقيد رئيسًا لهم.
كل ذلك لم يرضِ القبط، بل أرادوا أن يأخذوا مسلمي القطر كافة بذنب
الورداني، فطفقوا يكتبون ويستكتبون بعض المتعصبين من المشاركين لهم في الدين
باتهام المسلمين بالتعصب الديني، وجعل الجناية اعتداء من الدين الاسلامي على
الدين المسيحي وأهله؛ لاعتقادهم أن هذا هو محل الضعف من المسلمين، وموضع
التأثير في تهيج الإنكليز وسائر الاوربيين عليهم؛ لاتفاق الجميع على أن لا يتركوا
للمسلمين شيئًا من المقومات ولا من المشخصات الملية، لما بيناه في فاتحة النبذة
الأولى من الأسباب الاجتماعية.
قابل المسلمون كل هذا العدوان بالحلم، فاستضعفهم القبط وأسرفوا في الطعن
والقدح في جرائدهم، وأوفدوا إلى إنكلترة من ينوب عنهم في إقناع الجرائد
الإنكليزية والنواب الإنكليز ورجال الدين والحكومة في لوندرة؛ بأن القبط مظلومون
مغبونون في مصر لأجل دينهم ووالوا ذلك، وأدمنوه سنة كاملة، احتفلوا في
خاتمتها بذكرى فقيدهم العظيم، وكان يظن أن المسلمين لا يشاركونهم في هذا
الاحتفال بعد تلك الغارة الشعواء في جريدتي الوطن ومصر على الكتب العربية
والآداب العربية والديانة العربية (الاسلامية) ، ولكن المسلمين كذبوا الظن، فهرع
علماؤهم وكبراؤهم الى مدفن الفقيد وكنيسة طائفته، وأبنوه بالنثر والنظم وأطروه
أشد الإطراء، فكان من اللائق المعقول أن تقف القبط عند هذا الحد من الظفر،
وتواتي طلاب الصلح من المسلمين الذين اعتذروا عما كتبه القبط من سوء القول؛
بأنه رأي أفراد منهم لا يؤخذونهم بشذوذهم فيه.
***
(المؤتمر القبطي وتأثيره)
لو كان للقبط زعيم عاقل كذلك الزعيم الذي فقدوه، لما سمح لهم بذلك التقحم
الذي تقحموه، ولو كان لهم زعيم له نصف عقله وحكمته، لأوقفهم عند الحد الذي
انتهى به الحول بعد مصرعه، عملاً بتحديد لبيد لمدة الحزن والرثاء ولكنهم بعد
انتهاء الحول، وبعد تلك المجاملة من المسلمين في الاحتفال التي عدها المتزاحمون
على الزعامه فيهم ضعفًا ومهانة، انبروا إلى تصديق أقوال جرائدهم بالعمل، فألفوا
مؤتمرًا قبطيًّا عامًّا في أسيوط التي سماها بعضهم (عاصمة القبط) ؛ لإثبات الغبن
الذي أصابهم وبيان المطالب القبطية التي يريدون بها مساواة المسلمين، وأولها: أن
تسمح الحكومة للموظفين منهم بترك العمل يوم الأحد، وتسمح للتلاميذ منهم في
مدارسها بترك الدراسة فيه أيضًا؛ لأن دينهم يحرم عليهم العمل فيه، وقد تقدمت
الإشارة إلى غير ذلك من مطالبهم التي يسمونها حقوقًا لهم، وليس من غرضنا شرح
ذلك وبيان حقه من باطله بالتفصيل، وإنما مرادنا بيان هذه المسألة الاجتماعية
بالإجمال.
توالى الوخز والطعن على جسم الشعب الإسلامي مدة سنه كاملة، فلم يكد
يشعر به ولا استيقظ من منامه، فلما سمع صيحة المؤتمر القبطي الشديدة المؤلفة
من أصوات الألوف من الشاكين، هب من نومه مذعورًا، فرأى أن الجسم الصغير
الذي كان يعده عضوًا منه قد انفصل وصار حيًّا بنفسه، ممتازًا بمقومات
ومشخصات خاصه به، سماها (قبطية) ، وسمى ما بقي للجسم الكبير من
المقاومات والمشخصات (إسلامية) ، وهو يريد أن ينتزعها كلها منه، ويجعله تابعًا
له عملاً بقاعدة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: ٢٤٩) فعز عليه
ذلك، واستعد للدفاع عن نفسه.
نعم.. رأى المسلمون أن البلاد بلادهم، والحكومة حكومتهم، والشريعة
شريعتهم، وأن غيرهم لم يكن له في مصر وجود حتى يكون له حقوق يؤبه لها؛
لأن هؤلاء الأغيار كالنقطة السوداء في الثور الأبيض أو النقطة البيضاء في الثور
الأسود. ولكنهم بتساهلهم وإهمالهم قد شاركوا هؤلاء الأغيار في حكومتهم وفي
جميع مصالحهم العامة والخاصة، حتى صارت إدارة أملاكهم وعقاراتهم وأوقافهم
الأهلية كلها بأيدي أولئك الأغيار.
ثم أرادهم أولئك الأغيار على أن لا يذكروا اسم الإسلام والإسلامية في أمور
الحكومة ولا غيرها من المصالح العامة؛ لأن ذلك ينافي المدنية العصرية، فرضوا،
وصاروا يترنمون باسم الوطنية والمصرية، ويقولون: نحن مصريون قبل كل
شيء، ويعدون المسلم غير المصري دخيلاً بينهم.
بل رأوا أنهم قد انجذبوا إلى القبطية، وصاروا يفخرون في جرائدهم وخطبهم
وأشعارهم بفرعون الذي لعنه الله تعالى على لسان موسى وعيسى ومحمد صلوات
الله عليهم أجميعن، وأخبر تعالى أنه استخف قومه فأطاعوه، واستعبدهم واستذلهم،
وكان من أغرب ما وقع في هذا الباب أن شاعرًا مسلمًا نظم قصيدة في عيد السنة
الهجرية، وأنشدها في احتفال عظيم، فافتخر فيها بأنه هو وقومه من آل فرعون،
ولم يفتخر بالنسبة إلى صاحب الهجرة الشريفة، ولا بآله وأصحابه الذين يفتخر بهم
الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فكيف تجمعون أيها
المفتخرون بآل فرعون بين هذا الفخر وبين قول ربكم فيكم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ
عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر:
٤٦) .
بل رأى هؤلاء الذين استيقظوا من المسلمين أن مقومات حياتهم المعنوية التي
هم بها أمة؛ قد تزلزل بعضها وزال بعض، فصارت السلطة التشريعية في بلادهم
بأيدي الأغيار والنفوذ الأدبي في أيديهم، حتى إن مجموع جرائدهم أكبر تأثيرًا في
الأمور العامة من جرائد المسلمين، وكذلك النفوذ السياسي والمالي، فثروة المسلمين
كل يوم في نقصان كما يعلم كل يوم من إعلانات الحجز وبيع الأملاك المرهونة،
رأوا هذا وأمثاله مما لا يحل لإحصائه هنا، فعلموا أن الذي أطمع هذه الشرذمة من
القبط فيهم ليس بالشيء اليسير، وإنما هو انحلال جميع روابطهم، وزلزال أو
زوال جميع مقوماتهم ومشخصاتهم، حتى إنه لم يعد أحد منهم يجسر على أن يقول
حكومة إسلامية أو مصلحة إسلامية، وتذكر العالمون بسنن الاجتماع ما ذكرناه من
القواعد في فاتحة النبذة الماضية، فعلموا أنهم صاروا عرضة للعدم والانقراض، أو
الاندغام في القبط، كما اندغم القبط فيهم من قبل، بل رأوا أن القبط قد غلوا
وأسرفوا في الطمع فيهم، حتى لم يرضوا بما كانوا سائرين إليه من الفناء فيهم باسم
مصريين، وأبوا إلا أن يكون لهم كل شيء بلقب قبط، والأمم تهتم في طور
الضعف بالألقاب والأسماء ما لا تهتم بالمعاني، فقد يمرق المسلم أو النصراني من
دينه بالفعل، ويبقى محافظًا على الاسم، لذلك حكمنا بأن القبط قد غلوا وأسرفوا في
حركتهم الأخيرة، وأنهم لو صبروا لنالوا في غفلة المسلمين وتخاذلهم كل ما يؤملون،
وإن سبب ذلك هو فقد الزعيم وإعواز خلف له، فهذه الحركة لا يعقل أن تكون
مؤدية إلى المطلوب إلا إذا كانت مبنية على وعد قاطع من السلطة الإنكليزية الفعالة،
وهو ما يظنه بعض الناس، وإن قال فيهم العميد وقالوا فيه ما يدل على خلاف
ذلك، وأما مساعدة قسوس الانكليز والأمريكان، فليست كافية إذا استيقظ المسلمون،
وعارضوا بالحكمة والعقل.
***
(مطالب القبط كلها دينية)
يقول بعض المموهين: إن هذه الحركة القبطية ليست دينية، بل هي طائفية
جنسية، يختلبون المسلمين بهذا، والمسلمون يردون عليهم من كلامهم (من فمك
أدينك) فإنهم يقولون: إن السواد الأعظم من المصريين قبط، فما الذي تمتاز به هذه
الخمسة أو الستة من المئة على الباقي وأكثره من القبط، كما يقولون؟ هل هنالك غير
الدين؟ ألم يصرحوا بأنه هو علة حرمانهم مما يطلبون؟ ألم يحرضوا قسوس إنكلترة
وجرائدها، ويطلبوا نجدتها باسم الدين؟ ألم يكن أول مطالبهم ترك أعمال الحكومة في
يوم الأحد عملاً بالدين؟ إلا أنه من سوء الحظ أو حسنه أن كان القبط ليس لهم لغة،
وإذاً لحاربوا المسلمين بلغتهم، وكانوا بحزمهم ومساعدة الإفرنج وغيرهم هم
الغالبين، ولم يكن لأحد عذر في كلمة إسلام أو مسلمين.
إذا كانت القبطية جنسية للقبط المسيحين خاصة، فأجدر بالإسلام أن يكون
جنسية للمسلمين عامة، فإن المسيحية قد فصلت الحكومة من الدين كما يقولون،
وأمرت أن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله، والإسلام ذو شريعة وسياسة، فما
بال الذين يأمرهم دينهم بالخضوع لكل حاكم وإن كان وثنيًّا كقيصر الروم في زمن
المسيح عليه السلام، قد أصيبوا بهذا الشره في السياسة، فلا يتبعون حاكم مصر
المسلم في بطالة يوم الجمعة دون يوم الأحد وما بال المسلمين قد أجابوا دعوة غيرهم،
فرضي حاكمهم ومحكومهم بأمور كثيرة مخالفة للشريعة في حكومتهم؟
إذا كان القبط لا يشتغلون يوم الأحد في حكومة الحاج عباس حلمي المسلم،
فيلتركوها ويستغنوا عنها تنسكًا وتعبدًا، وإلا فالمسلمون أجدر منهم بطلب جعل كل
شيء في هذه الحكومة موافقًا لدينهم؛ لأن الحاكم العام منهم؛ ولأن أكثر الأحكام تقع
عليهم؛ لأنهم أكثر من تسعين في المئة من الأمة، فلهم أن يقولوا: إننا لا نخضع
لحكم يحرم علينا وجداننا الخضوع له، ولماذا ينكر الأغيار عليهم ذلك ويسمونه
تعصبًا، وإنما أولئك الأغيار هم المتعصبون الذين يفتاتون على أمة مسلمة حاكمها
العام مسلم، ولا يسمحون لها أن توفق بين دينها وحكومتها.
يقول بعضهم: إن هذه حكومتنا وحكومة آبائنا وأجدادنا، ويقول بعض آخر:
إن لنا حق مساواة المسلمين فيها، والصواب أن الحكومة ليست حكومتهم وأنه لا
حق لهم فيها ألبته ولا لغيرهم، ولماذا؟ إن هذه البلاد عثمانية سيدها الحقيقي
سلطان المسلمين وخليفتهم، وقد فوض أمر إدارتها إلى محمد علي باشا وذريته على
قاعدة مخصوصة، اعترفت بها دول أوربا الكبرى، وهي كما قال اللورد كرومر لم
تكن محل خلاف ولا نزاع قط، وقد كان يكتب على أوراق الحكومة (الحكومة
المصرية) ، وأخيرًا صار يطبع عليها بالعربية (الحكومة الخديوية) نسبة إلى
شخص الخديوي، وبالانكليزية حروف معناها (في خدمة سموه) ، فهذه الحكومة
إذًا شخصية تابعة لشخص الخديوي، ليس لأحد من رعيته عليه حق فيها،
والمسلمون هم الذين قاموا يطلبون منه أن يمنح البلاد الدستور الذي يجعل للأمة حق
الشركة معه في حكم البلاد، والقبط لم تطلب ذلك، فكل ما ناله القبط من الوظائف
الكثيرة هي فضل وإحسان من أمير مصر المسلم المتساهل ولم يكن مؤديًا لحقوق
واجبة عليه فيه.
وأما المسلمون، فإذا لم يكن لهم حقوق عليه بحسب شكل الحكومة الشخصي
الذي أقرته الدولة الكبرى، فيمكن أن يقال: إن لهم أن يطالبوه بحقوق يوجبها عليه
دينه، فيكون الرجاء في إجابتها منوطًا باعتقاده ووجدانه.
هذا هو الحق الذي يزهق به كل باطل، وسنبين في النبذه الثالثة ما ينبغي أن
يكون عليه الأمر في مصر من السلام والتساهل، والاتفاق بين جميع المقيمين فيها.
***
(النبذة الثالثة)
(الإسلام دين وجنسية)
الإسلام دين وجنسية اجتماعية وسياسية للمسلمين، هذا هو الواقع، وإن
كرهه أقوام يودون أن يكون دينًا فقط لا رابطة بين أهله في الأمور السياسية ولا
الاجتماعية؛ لما لأولئك من المصلحة في ذلك؛ وجنسيته واسعة تشمل المنافقين
الذين يظهرون الإسلام ويسرون الكفر والإلحاد، وتتسع لكل من يرضى بحكمه
الذي هو رابطته السياسية، فجيز استخدامهم في أكثر مصالح حكومته، وقد ارتقى
فيها غير المسلمين إلى منصب الوزارة في دوله العزيزة القوية التي لم يكن في
الأرض من يقف في وجه قوتها كأبي إسحق الصابئ في الدولة العباسية، فمثل
شريعته في ذلك كمثل قوانين دولة النمسة مثلاً، كل منهما جنسية سياسة يخضع لها
شعوب مختلفون في اللغات والمذاهب والأديان، ولكن بينهما فروقًا أهمها أن الفئة
الغالبة في الجنسية الإسلامية السياسية، وهي التي تدين بالإسلام تعتقد أن أصول
شريعتها وبعض فروعها منزلة من عند الله، وبعضها الآخر من اجتهاد الناس.
لا يضر من يشارك المسلمين في الخضوع لشريعتهم أن كانوا يدينون الله بهذا
الخضوع وهو لا يدين لله به، فإن حقوقه على المسلمين المكفولة بها تكون حينئذ
مضمونة بقوة الحكومة في الظاهر وقوة الاعتقاد في النفس، وحقوقهم عليه لا تكون
مضمونة إلا في الظاهر فقط، فالمسلم المتدين لا يأكل حق غيره وإن أمن عقاب
الحكومة، وغير المسلم قد يأكل حق المسلم المحكوم به إذا أمن العقاب؛ لأن وجدانه
لا يعارضه في ذلك، إذا اعتقد أن الحكم لا يجب الخضوع له.
وتمتاز هذه الشريعة على جميع الشرائع والقوانين بأنها تخير من لا يدينون
بها بين التحاكم إلى أهلها إن رضوا بذلك وبين التحاكم إلى أهل دينهم، فهي
باحترامها الحرية لا تكره أحدًا على عقيدتها وأعمالها الدينية، ولا على أحكامها
الشخصية ولا المدنية.
***
(حال المسلمين مع أوربة)
غلب على المسلمين الجهل بحقيقة الإسلام من حيث هو دين، ومن حيث هو
جنسية، حتى رضوا بحكم الجاهلين والمارقين منهم، فارتخت روابطهم كلها،
فسهل على ساسة أوربة الافتيات عليهم، والنفث اللطيف في بقايا العقد التي تربط
بعضهم ببعض، وتنكيث قوى حبلهم من غير جلبة ولا ضوضاء كجلبة المؤتمر
القطي والجرائد القبطية.
ذلك بأنها فتحت أقفال قلوبهم وأفكارههم، وزينت لهم آدابًا غير آدابهم،
وشرائع غير شريعتهم، وجنسيات غير جنسيتهم، وسلطت بعضهم على بعض؛
ليجذبه إلى ذلك من حيث لا يشعر المسلط ولا المسلط عليه. فهذه التعاليم التي تبثها
فيهم تستل من نفوسهم كل شيء إسلامي برفق ولذة، كما تستل الراح عقل شاربها،
ولو سلكت مسلك جرائد القبط وخطباء القبط في التوسل إلى ذلك لما زادت المسلمين
إلا استمساكًا واعتصامًا بكل ما تريد أن يتركوه.
اللوم إغراء، والمنازعة مدعاة المشاحة، والتعصب مثار التعصب، فكيف
تصورت القبط أن تنال بهذه الجلبة على ضعفها، ما تعلم أوربة أنها تعجز أن تناله
بمثل ذلك على قوتها؟ ؟
أما علموا أن من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه، إلا أنني أعتقد
أنهم كانوا على مقربة من كل ما يطلبون، وإن هذه الجلبة ما زادتهم إلا بعدًا عنه،
ولهذا قلت: إنهم لو صبروا واتبعوا منهاج الحكمة وسنن الاجتماع (كما كان يفعل
زعيمهم ونابغتهم) لنالوا من المسلمين بالمسلمين كل ما أرادوا ولكن أبوا إلا أن
يذكروا المسلمين بغبنهم، ويدعوهم إلى الاجتماع والتشاور في أمرهم، بتأليف
مؤتمر يتبينون فيه من هم، وما هي نسبتهم إلى غيرهم، وما كانوا لولا هذه
الحركة القبطية ليقدموا على ذلك.
قال بعض كتاب فرنسة: إن قطرًا إسلاميًّا قد انفصل برمته من مكة وهو
تونس، يعني أن جنسيته الإسلامية قد زالت، لا أن أكثر مسلمي تونس قد خرجوا
من الإسلام، وتركوا الحج إلى البيت الحرام. وأنا أقول: إن الجنسية الإسلامية
بمصر أضعف منها في تونس، وقد بث دعاة الوطنية رأي الجنسية المصرية في
طلاب جميع المدارس المصرية من أميرية وأهلية وأجنبية، وهم الذين سيتولون
جميع الأعمال العامة والوظائف، فكان المنتظر أن تمحو نابتة المسلمين بأيديها ما
بقي في ذلك من صبغة الإسلام، حتى لا يبقى إلا اسم مصري ومصرية: الشارع
المصري، القانون المصري، الحكومة المصرية، المصلحة المصرية ... إلخ.
ولكن القبط أبوا إلا أن يقولوا (قبطي وقبطية) ولم يحسبوا حسابًا لمقابلة المسلمين
لهم على ذلك بقول: إسلامي وإسلامية.
أليس من المعقول أن يقول المسلم المصري: إننا قد تركنا جنسيتنا الإسلامية،
ونحن أكثر من أحد عشر مليونًا؛ لأجل الاتحاد بنصف مليون من القبط لم نستفد
ولن نستفد بالاتحاد شيئًا لم يكن لنا، بل خسرنا وسنخسر كثيرًا مما كان لنا وحدنا،
فكيف رضي المغبون الخاسر، ولم يرض الرابح الظافر؟ أليس من الذل والهوان
أن نرضى بالانتقال من إسلامية إلى (مصرية) ؛ ليكون ذلك مدرجة إلى الانتقال
من (مصرية) إلى (قبطية) ، وإذا كانت هذه الجنسية المصرية التي انتحلناها
تبعدنا عن سائر إخواننا المسلمين وهم يعدون بمئات الملايين، ولا تقربنا من
جيراننا القبط وهم نصف مليون، فكيف تكون جنسية جديدة لنا ولم يتجدد لنا بها
شيء؟ صرنا نعد المسلم الشامي والحجازي دخيلاً فينا، لا نسمح أن يدخل حكومتنا،
أو يشاركنا في مصالحنا لأجل أن يكون القبطي أخًا لنا، له ما لنا وعليه ما علينا،
فأبعدنا ذاك ولم نستطع أن نقرب هذا، فمن نحن إذًا وما هي جنسيتنا؟
كان الأمير محمد إبراهيم قد عني باللغة العربية من دون سائر هذه الأسرة
الخديوية، فدخل عليه بعض أقاربه الأمراء، فرآه ينظر في بعض الكتب العربية
فلامه على ذلك وسأله عن سبب هذه العناية، فأجابه: هل نحن إفرنج وهل يعدنا
الإفرنج منهم؟ قال اللائم: لا.. قال: هل يعدنا الترك منهم؟ قال: لا.. قال:
فهل الأفضل لنا أن لا يكون لنا جنس؟ كلا.. إننا قد صرنا عربًا مصريين،
فالواجب علينا أن نعرف لغة أبناء جنسنا.
هذه هي الحكمة التي نطق بها الأمير محمد إبراهيم فحج بها لائمه. أفلا يسع
القبط ما وسع الأسرة المالكية، فيكونوا عربًا مصريين؟ ويتركوا كلمة قبط في كل
ما يتعلق بالحكومة والمصالح الدنيوية، ويجعلوها خاصة بمجلسهم الملي وشؤونهم
الدينية فيكونوا هم المفلحين، فإن القبطية تصلح أن تكون جنسية دينية لهم إن أحبوا
أن لا يمتزجوا بغيرهم من النصارى المتمصرين، ولكنها لا تصلح جنسية سياسية
دينية معًا ولا سياسية فقط؛ إذ لا يمكن أن يرضى المسلمون أن يعودوا في مصر
قبطًا، ولا في بلاد الأعاجم وثنيين ومجوسًا وبوذيين، فإذا كانوا يطلبون المساواة
حقيقة لا تمويهًا، فليتركوا العصبية القبطية والجنسية القبطية والمطالب القبطية،
فإن كل شيء ينالونه بهذه النسبة وهذا اللقب يدفع المسلمين إلى الرجوع إلى
الجنسية الإسلامية، ويخشى حينئذ أن يخسروا بحق بعض ما ربحوه بغير حق.
لا يغرنكم أن المتعلمين منكم عددهم النسبي أكثر من عدد المسلمين كما
تزعمون، فالعبرة في المقاومة للكثرة الحقيقية لا للكثرة النسبية، والمتعلمون من
المسلمين أكثر من المتعلمين منكم على كل حال، لا يغرنكم أن ثروتكم النسبية
أوسع من ثروة المسلمين كما تقولون، لا لأجل ما قلته في عدد المتعلمين بل لأن
المسلمين إذا تعصبوا عليكم لا تستطيعون أن تزرعوا أرضكم إلا إذا جعلتم أكثر
غلتها لهم؛ لأنكم لا تجدون الزراعين والعاملين فيها إلا منهم، فإذا علمتوهم
التعصب والتكافل، فإنهم يستطيعون أن يفقروكم بالاغتصاب الذي بدأ التفرنج ينفخ
روحه في مصر.
إذا كنتم لا تدركون مغبة هذه الحركة التي قمتم بها، فكيف خفي هذا الأمر
الطبيعي عن أصحاب الجرائد السورية والإفرنجية، وهم أعلم منكم بطبيعة
الاجتماع وأخلاق الأمم، فلم ينهوكم عن هذه الثورة القبطية التي تهدم ما بنوه في
السنين الطوال من محاربة التعصب والانقسام الديني والطائفي في هذه البلاد،
فبفضل جهادهم وطبيعة التفرنج الذي ينصرونه، قد صار كل ما للمسلمين في هذه
البلاد متحركًا بحركة الاستمرار لا بالحركة الطبيعية الحقيقية التي لا يفضلون بها
القبط، بل القبط تفضلهم فيها.
نعم.. كان المسلمون يتحركون بحركة الاستمرار في كل ما هو إسلامي
فأحدثت القبط لهم حركة طبيعية جديدة. ولكن الباعث عليها من الخارج لا من
النفس؛ لذلك ينتظر أن تكون قوة الدفع فيها ضعيفة، وأن لا يطول عليها الأمد،
حتى تعود إلى حركة استمرارية لا قوة فيها ولا تأثير لها إلا إذا تجدد المحرك الدافع،
فمن مصلحة غير المسلمين أن يمنعوا تجدده لينالوا كل ما يؤملون بهدوء وسلام،
وإن كلمة واحدة من لجنة مؤتمر القبط التنفيذية تحل الإشكال، وهي (قررنا أن لا
نطلب من الحكومة شيئًا للقبط، بل ندعها تختار الأكفاء لأعمالها برأيها واجتهادها،
وأن لا يذكر لفظ قبط ولا مسيحيين في المصالح الدنيوية) .
إنني أعتقد أن هذا الحل خير للقبط ولجميع المسيحيين في هذا القطر؛ لأنهم
يكونون هم الرابحين فيه، وأن الأربح للمسلمين أن يحافظوا على جنسيتهم
الإسلامية، ولكنهم يرضون بإيثار غيرهم عليهم بمساواته بهم في بعض المصالح،
ورجحانه عليهم في بعض المرافق، إذا هو ترك لهم بعض الخصائص التي صارت
أعضاء أثرية أو كادت، ولا يضره تركها لهم، وهو يعلم أنها ستزول بالتدريج.
يظن كثير من القبط وغيرهم أن المسلمين لا يستطيعون أن يتحركوا حركة
إسلامية؛ خوفًا من أوربة المسيحية أن تسمح حينئذ للإنكليز بضم مصر إلى
مستعمراتهم، والتعجيل بمحو هذه الصبغة الإسلامية الحائلة التي أوشكت تزول من
نفسها، وأن يتركوا سنة التدريج في إزالتها، وقد يصدق هذا الظن إذا هاج
المسلمون على المسيحيين، فاعتدوا على أموالهم وأو أنفسهم، وهذا ما لا يكون من
مسلمي مصر، فإن كانت القبط تحرك النعرة الإسلامية؛ لظنها أن المسلمين بين
أمرين لا ثالث لهما: إما السكوت فتنال القبط بجبنهم العلو عليهم، وإما الثورة
فتقضي إنكلترة القضاء الأخير على حكمهم، فلتعلم القبط أن هنالك أمرًا ثالثًا أعدل
وأقرب؛ وهو أن يتعصب المسلمون لجنسيتهم الإسلامية كما يتعصب القبط سواء،
بلا ثورة ولا اعتداء، وكيف يكون ذلك؟
يحصون المستخدمين من القبط في دوائرهم ومزارعهم، فيخرجونهم منها
ويستبدلون بهم أبناء جنسهم ودينهم، يقدم رجال الحكومة منهم المسلم على القبطي
بمثل الطريقة التي امتلأت بها مصلحة سكة الحديد ومصلحة البريد وغيرهما بالقبط،
يؤلفون الجمعيات الاقتصادية والاجتماعية لمباراة القبط ومسابقتهم في الزراعة
وغيرها من طرق الكسب، وحمل الفعلة والعمال من المسلمين على الاغتصاب عند
الحاجة، يفعلون هذا وأمثاله من غير ذكر للقبط ولا لغيرهم من المسيحيين إلا بخير،
فماذا تفعل إنكلترة المسيحية وأوربة المسيحية بهم في مثل هذه الحال، وما هي
من المحال، ألا يكون هذا ربحًا للمسلمين وخسارًا على القبط من غير خطر ولا
سوء عاقبة؟ بلى.. فالخير للقبط وغيرهم أن يعلموا بما ارتأيته، ولو خرج
زعيمهم النابغة من قبره الآن لما أشار عليهم بغيره، اللهم إلا أن يكونوا مدفوعين
من الإنكليز إلى ما عملوا، آخذين منهم ميثاقًا غليظًا على إجابتهم إلى ما طلبوا،
وهذا لا يعقل أن يصدر من الحكومة الإنجليزية، وإنما يقال: إن بعض القسيسين
والسياسين وعدوهم لينفذن لهم ذلك، فإن ظهر له أثر عملي اضطر المسلمون أن
يعتصموا برابطتهم الإسلامية؛ لئلا يصيروا بعد سنين قليلة أجراء وفعلة، ليس لهم
في البلاد التي كانت لهم وحدهم شأن، لا في الحكم ولا في غير الحكم.
ها أنا ذا؛ قد حللت المسألة تحليلاً، وفصلتها بسنن الاجتماع البشري تفصيلاً،
واضطررت أن أكرر بعض المعاني؛ لأجل أن تستقر في الأذهان، والنتيجة
الطبيعية محصورة في أحد أمرين كما علم من كلامنا آنفًا: إما استمرار القبط على
مطالبهم القبطية، ورجوع المسلمون إلى جنسيتهم الإسلامية، ومقاومة القبط
بالوسائل الاجتماعية والأدبية. وإما رجوع القبط عن هذه النزعة الدينية وسكوتهم
منذ اليوم عن مطالبهم، وحينئذ يبقى المسلمون على ما كانوا عليه من التساهل
والدعوة إلى الوطنية والجنسية المصرية التي يفضلون بها القبطي على المسلم غير
المصري وإن تمصر، والأمر الثاني: هو الذي يفضله الإفرنج وجميع المسيحيين
واليهود في هذه البلاد؛ لأنه غرس أيديهم وغرضهم من جهادهم، ومثلهم في ذلك
جميع المتفرنجين من المسلمين، وسنبين في النبذة الرابعة مسألة يوم العطلة
بالدلائل والبراهين.
***
(النبذة الرابعة)
(العيد الأسبوعي في الملل الثلاث)
لكل أمة من الأمم الثلاث -الإسلامية واليهودية والنصرانية- يوم في الأسبوع،
تجتمع فيه للعبادة وصلة الرحم وزيارة الأصدقاء ما لا تجتمع في غيره، فهو عيد
ملي لها في كل أسبوع، وشعار من شعائرها الدينية والاجتماعية التي يمتاز به
بعضها عن بعض، فلا تترك الأمة منها شيئًا من خصائص يومها للأخرى إلا إذا
رضيت أن تكون منها مكان التابع من المتبوع والمقتدي من الإمام، وينقص بما
تتركه من مقوماتها ومشخصاتها الملية بقدر ما تتركه، فيضعف ارتباطها
واعتصامها الذي به كانت أمة واحدة، ومتى سهل على الأمة ترك ما به كانت أمة،
فاحكم عليها بالفناء والزوال، ولا سيما إذا كانت بجوار أمة قوية تتعمد سلب
استقلالها، وتتوخى تسخيرها لمنافعها أو جعلها غذاء لها.
للمسلمين يوم الجمعة ثبتت خصوصيته بنص كتابهم القرآن وسنة نبيهم عليه
الصلاة والسلام وعمل سلفهم الصالح، ولليهود يوم السبت بنص كتابهم التوراة
وعمل سلفهم من عهد موسى صلى الله عليه وسلم، وللنصارى يوم الأحد برأي
بعض رؤساء الكنيسة لا بنص من المسيح عليه الصلاة والسلام ولا من حواريه في
الإنجيل، ولا في الرسائل التي يطلق على مجموعها العهد الجديد، وإن العهد
الجديد مبني على أساس العهد العتيق الذي هو مجموع كتب اليهود من الأسفار
المنسوبة إلى سيدنا موسى، والكتب المنسوبة إلى أشهر أنبياء بني إسرائيل عليهم
السلام، وفي الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال: ما جئت لأنقض الناموس وإنما
جئت لأتمم، والناموس هو شريعة موسى، ولكن النصارى نقضوه بالتأويل لجمل
قالها بولس في رسالته لأهل غلاطية ورسالته لأهل رومية.
قال بعض علماء البروتستانت: إن الناموس يطلق على شريعة موسى الأدبية
والطقسية والسياسية، أما الشريعة الأدبية فمختصرها الوصايا التي أنزلها الله على
موسى في لوحين من حجر، وأما الناموس الطقسي أو ناموس الشعائر الدينية،
فكان دستورًا لعباده العامة والخاصة، وبه تعرف كيفية الذبائح والصيام والتطهير
والصلاة والأعياد، ويتدرج إلى الناموس السياسي الذي أفرز شعب الاسرائليين من
جميع الشعوب المجاورة، ولما كان ناموس الشعائر هذا يشير إلى المسيح؛ فلذلك
ألغي عند إتيانه. اهـ المراد بحروفه. والعبرة فيه أن الوصية في التوراة بحفظ
يوم السبت من الشريعة الأدبية المقارنة لتوحيد الله تعالى وعدم الشرك به، وللنهي
عن القتل والزنا والسرقة، فهي لم تنسخ بمجيء المسيح. وكيف تنسخ به هذه
الوصية وهي ركن من أركان الدين وقواعده الاساسية، ونطق العهد العتيق بتقديس
يوم السبت في الكلام عن مبدإ الخلق والتكوين.
جاء في الفصل الثاني من سفر التكوين (٢ وفرغ الله في اليوم السابع من
عمله الذي عمل فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل ٣ وبارك الله
اليوم السابع وقدسه؛ لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا) ثم أكد
على لسان موسى تأكيدًا، وشدد في حفظه وتقديسه وترك العمل فيه تشديدًا.
جاء في سفر الخروج (١٦: ٢٣ فقال لهم (موسى) هذا ما قال الرب: غدًا
عطلة سبت مقدس للرب. اخبزوا ما تخبزون واطبخوا ما تطبخون، وكل ما فضل
ضعوه عندكم ليحفظ إلى الغد - إلى أن قال - لا يخرج أحد من مكانه في اليوم
السابع ٣٠ فاستراح الشعب في اليوم السابع) .
(وفيه من الوصايا) (٢٠: ٨ اذكر يوم السبت لتقديسه ٩ ستة أيام تعمل
وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما
أنت وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي دخل أبوابك ١١ لأن في ستة أيام
صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع لذلك
بارك الرب يوم السبت وقدسه) ونحوه في ٢٣: ١٢ و٣٤: ٢١ منه.
وفي تثنية الاشتراع من الوصايا أيضًا (٥، ١٢) احفظ يوم السبت لتقدسه،
كما أوصاك الرب إلهك ١٣ ستة أيام تشتغل وتعمل جميع أعمالك ١٤ وأما اليوم
السابع فسبت للرب إلهك، لا تعمل فيه عملاً ما أنت وابنك وبنتك وعبدك وأمتك
وثورك وحمارك وكل بهائمك ونزيلك الذي في أبوابك؛ لكي يستريح عبدك وأمتك
مثلك.
وفي الفصل الرابع من أرميا تأكيد عظيم الوصية بيوم السبت، ووعد لهم
بالجزاء على ذلك في الدنيا بدخول ملوك ورؤساء مدينة أورشليم وتسكن إلى الأبد،
وتجلب إليها الذبائح والمحرقات واللبان، ثم قال في آخر الفصل: (٢٧ ولكن إذا
لم تسمعوا لي لتقدسوا يوم السبت؛ لكيلا تحملوا حملاً ولا تدخلوا في أبواب أورشليم
يوم السبت، فإني أشعل نارًا في أبوابها فتأكل قصور أورشليم ولا تطفئ) ا. هـ
وأرميا بقوله حكاية عن الرب.
وأما الوعيد في الأسفار المنسوبة إلى موسى على مخالفة هذه الوصية فشديدة
جدًا، ففي الفصل الحادي والثلاثين من سفر الخروج ما نصه: (١٢ وكلم الرب
موسى قائلاً: وأنت تكلم بني إسرائيل قائلاً ١٣ سبوتي تحفظونها؛ لأنه علامة بيني
وبينكم في أجيالكم لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم ١٤ فتحفظون السبت؛ لأنه
مقدس لكم، من دنسه يقتل قتلاً، إن كل من صنع فيه عملاً، تقطع تلك النفس من
بين شعبها ١٥ ستة أيام يصنع عمل، وأما اليوم السابع فيه سبت عطلة مقدس للرب،
كل من صنع عملاً في يوم السبت يقتل قتلا ١٦ فيحفظ بنو إسرائيل السبت؛
ليصنعوا السبت في أجيالهم عهدًا أبديًّا ١٧ هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى
الأبد؛ لأنه في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض، وفي اليوم السابع استراح
وتنفس) ا. هـ.
وفي أول الفصل الخامس والثلاثين منه (١ وجمع موسى كل جماعة بني
إسرائيل وقال لهم هذه الكلمات التي أمر الرب أن تصنع ٢ ستة أيام عمل يعمل،
وأما اليوم السابع ففيه يكون لكم سبت عطلة مقدس للرب، كل من يعمل فيه عملاً
يقتل ٣ لا تشعلوا نارًا في جميع مساكنكم يوم السبت) .
وفي الفصل الخامس عشر من سفر العدد؛ أنه وجد رجل في البرية يحتطب
(٣٥ فقال الرب لموسى قتلاً يقتل الرجل، يرجمه بحجارة كل الجماعة خارج
المحلة) فرجموه.
هذه هي النصوص التي عليها مدار تقديس يوم السبت في العهد القديم، وكان
عليها المسيح والمؤمنون به، كما يؤخذ من العهد الجديد، ففي قصة الصلب أن
المؤمنين والمؤمنات لم يخرجوا لأجل سيدهم الذي تركوه مساء الجمعة مصلوبًا
حسب رواية الأناجيل الأربعة، ولكن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة
ذهبن صباح الأحد للبحث عنه.
إن المسيح عليه السلام جاء مصلحًا في اليهود، مزحزحًا لهم عما كانوا عليه
من الجمود، ولذلك أباح الأعمال الضرورية والخيرية في يوم السبت فقط، ولم
يأمر بتقديس يوم الأحد ولا غيره، في أول الفصل الثاني عشر من إنجيل متى؛ إن
التلاميذ لما جاعوا وأكلوا السنبل يوم السبت، قال الفريسيون للمسيح: إن تلاميذك
يفعلون ما لا يحل فعله في السبت ٣ فقال: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو
والذين معه ٤ كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين
معه، بل للكهنة فقط ... إلخ ما ذكره، وفيه ذكر مثل يفهم منه أن الضروريات
كانت تحل عندهم وهو (أي إنسان منكم يكون له خروف واحد، فإن سقط هذا في
السبت في حفرة، أفما يمسكه ويقيمه ... ) ثم قال: إذاً يحل فعل الخير في السبوت.
والقصة مذكورة في آخر الفصل الثاني من إنجيل مرقص أيضًا، وفيها أن
داود أكل وأطعم الذين كانوا معه، وأن المسيح قال: (السبت إنما جعل لأجل
الإنسان لا الإنسان جعل لأجل السبت) وتتمتها في أول الفصل الثالث منه وفي أول
الفصل السادس من إنجيل لوقا بنحو ما تقدم، وفي الفصل الثالث عشر منه؛ أنه أبرأ
في السبت امرأة كان فيها روح ضعف، فأنكر ذلك عليه رئيس المجمع
فأجابه المسيح (١٥ وقال: يا مرائي ألا يحل كل واحد منكم في السبت ثوره أو
حماره من المذود ويمضي به ويسقيه ١٦ وهذه وهي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان
ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت) .
وفي الفصل الخامس من إنجيل يوحنا أنه شفي مريضًا وأمره بالذهاب، فحمل
سريره وذهب، فأنكرت اليهود عليه، ولما علموا أنه هو الذي أبرأه عزموا على
قتله؛ عملاً بحكم التوراة، قال يوحنا: (١٨ فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون
أكثر أن يقتلوه؛ لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضًا: إن الله أبوه معادلاً نفسه
بالله) .
فقد صرح يوحنا بأنه نقض يوم السبت، ولكن في عمل الخير، فالذي يتبع
المسيح حقيقة يترك عمل الدنيا يوم السبت إلا ما كان ضروريًا، ويجعل كل عمله
برًّا وخيرًا، وأما استحلال كل عمل يوم السبت وتحريم العمل يوم الأحد فهو من
تقاليد الكنيسة؛ لأجل مخالفة اليهود في شعائرهم وتقاليدهم، ويعللون ذلك بأن يوم
الأحد قد صارت له مزية، ليست ليوم السبت بقيام المسيح فيه، وسماه بولس
وغيره يوم الرب، ويمكن أن يجابوا بأن هذه المزية لا تقتضي تحريم العمل فيه،
ولم لا تقولون: إن ليوم الجمعة مزية بوقوع الصلب فيه على حسب اعتقادكم، وبه
كان فداء البشر وخلاصهم واحتمال اللعنة عنهم، فهو أجدر بأن يترك العمل فيه.
روت الجرائد أن القس أخنوخ فانوس خطيب الحركة القبطية أثبت في
المؤتمر القبطي؛ أن من يعمل يوم الأحد عملاً يقتل، وكأنه ذكر ما قلناه آنفًا عن
العهد العتيق في تقديس يوم السبت وحوله إلى يوم الأحد، والنصوص لا تقبل
التحول، فإن لفظ السبت قد تكرر مراراً وتكرر ذكر علته، وهي علة لا توجد في
غير السبت، وقد جعلها العهد العتيق عهدًا أبديًا بين الرب وبين عباده المخاطبين
بها، والأبدي لا ينسخ ولا ينقض، ولنا في هذا المقام مسائل:
(١) أن العقوبة المترتبة على ترك تقديس يوم السبت وهي القتل والرجم
هي من الناموس الطقسي أو السياسي، وقد قلتم: إن هذا قد نسخ بظهور المسيح.
(٢) إذا كان هذا العقاب لم ينسخ، وإنما نسخ يوم السبت بيوم الأحد،
فصار له حكمه، فلماذا لا نرى حكومة من الحكومات المسيحية تقتل من يعمل يوم
الأحد رجمًا بالحجارة كما فعل موسى، هل تركت جميع الحكومات المسيحية هذا
الحكم، وتريد أن تقيمه أنت يا أخنوخ في مصر.
(٣) إن القتل جزاء دنيوي، فإذا تركه الحكام في الدنيا، فهل يكونون
تاركين لنصوص دينهم فاسقين منه أم لا.
(٤) إذا ترك هذا العقاب في الدنيا، فهل له بدل في الآخرة أو يوم الدين
(أو الدينوية كما تعبرون) أم لا، فإذا لم يكن له بدل، فلماذا يهول به أخنوخ أفندي
في خطبته.
(٥) إذا كان العمل في يوم الأحد جريمة، يستحق صاحبها القتل بالرجم
كالزاني عند اليهود، وقد نسخت النصرانية رجم الزاني ولم تنسخ رجم العمل في
يوم الأحد؛ لأنه أقبح عندها، فهل جهل ذلك بطارقة القبط وغيرهم من رؤساء
الديانة النصرانية أم علموه؟ وإذا كانوا علموه، فلماذا تركوا النهي عن هذه
المعصية الكبرى، وسمحوا لأبناء دينهم بالعمل في الحكومة المصرية وبغير ذلك
من الأعمال.
(٦) إذا كان جميع حكام النصارى في ممالكهم، وجميع رؤساء الدين
المسيحي في مصر وما يشابهها من البلاد، قد تركوا هذه النصيحة الدينية عن علم
أو غير علم كما يفهم من كلام الخطيب المفوه أخنوخ أفندي، فلماذا ترك هو ذلك
أيضًا، وقد خصه الله بهذا العلم وهذه الغيرة على الدين، فلم يظهر علمه ونصحه
إلا في هذه الأيام؟ ؟
إن مجال القول في هذا الباب واسع ولا فائدة في التطويل فيه، والأمر الذي
لا مراء فيه هو الواقع؛ وهو أن لكل ملة من الملل الثلاث يومًا، وأن المسلمين
واليهود من النصوص الدينية على يومهم في كتبهما ما ليس للنصارى مثله، ولا
يتحول أحد عن يومه إلا في بعض الأمور التي يضطر فيها إلى اتباع من هو أقوى
منه، وقد اتبع النصارى المسلمين في الحكومات الإسلامية؛ كحكومة مصر في
ترك العمل يوم الجمعة، كما اتبع المسلمون حكومات النصارى في ترك عمل
الحكومة يوم الأحد في مثل روسية. وقد أحست القبط بأن الاحتلال أخرج حكومة
مصر عن كونها حكومة إسلامية، بل جعلها مسيحية أو كاد؛ ولذلك طلبوا أن يترك
فيها العمل يوم الأحد.
ليس سعي هذه الطائفة الحية المعتصمة بمقوماتها الملية إلى هذا من مبتكرات
مؤتمرها الجديد، بل هو سعي قد صار قديمًا، وكادوا بإلحاحهم فيه على المحتلين،
يذهبون بحلمهم، ويرفعون درجة الحرارة في دمهم البارد إلى درجة الغليان.
استأذن بعض وجهائهم مرة على مستر دنلوب وكان كاتب السر لنظارة
المعارف، فظن دنلوب أن له شغلاً يتعلق بالمعارف، فلما أذن له، طفق يتكلم عن
وجوب ترك الحكومة العمل في يوم الأحد دون الجمعة، ويحثه على السعي لذلك
حتى غضب، وقال له: بأي حق أم بأية صفة غير نظارة الحكومة الأساسي، قم
فاخرج من هنا.
إن ما عجز عنه هذا الوجيه الغيور، كاد يظفر به ذلك النابغة المشهور، فقد
كان أقنع مستر سكوت المستشار القضائي ولورد كرومر بالابتداء بذلك في نظارة
الحقانية، وأمر المستشار بترك العمل في المحاكم يوم الأحد، فترك أيامًا ثم عاد
الأمر كما كان بسعي الأستاذ الإمام وإقناعه اللورد ومستر سكوت بسوء مغبة هذا
التغيير، كما كان دأبه في أمثال هذه الأمور.
وفي العام الماضي كثر خوض الجرائد الأوربية المصرية وبعض جرائد
المسيحيين العربية في هذا المسألة، وتحدثت بوجوب تقرير الحكومة المصرية للعيد
الأسبوعي وجعله إجباريًّا للحكومة والأمة، وكانت تحوم حول يوم الأحد لترجحه
على غيره، فتدندن وتجمجم تارة وتبين تارة أخرى، وكانت جريدة الأخبار الغراء
تختار صفوة أقوال تلك الجرائد في ذلك، وهي هي الجريدة التي تنصر ببراعتها
دينًا على دين، وحزبًا على حزب، وطائفة على طائفة وأمة أو دولة على أخرى،
من غير أن يكتب صاحبها كلمة واحدة بإمضائه، أو يصرح بأن ذلك من مذهبه
وآرائه، وإنما ينال ما يريد بعناوينه ومختاراته (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) .
إنني أرفع صوتي مشيدًا بالثناء على جريدة الأخبار وجرائد القبط والإفرنج
وسائر جرائد النصارى التي تؤيد ترجيح يوم الأحد على يوم الجمعة وترجيح كل ما
ينسب إلى ملتهم على غيره، أثني على أصحاب هذه الجرائد وكتابها بالارتقاء الملي،
والجهاد الأدبي الذي يجعلون به ملتهم قدوة الملل، وقومهم سادة الأقوام، وأي
ارتقاء أعلى من ارتقاء العدد القليل، يطلب فينال ما لم يكن له من العدد الكثير،
وإذا شعر خصمه بأنه قد هوجم لإزالة مقوماته ومشخصاته القومية، ونسخ شعائره
وتقاليده الملية، وأراد الدفاع عن نفسه، والمحافظة على دينه وجنسه، جعل
متعصبًا مذمومًا بمدافعته ومهاجمته، متساهلاً محمودًا في مهاجمته.
كان الغالب على المسلمين أن لا يشعروا بما يناله غيرهم منهم؛ لأن ذلك
يجري بالهدوء ولطافة النسمات، وهيمنة العاشقين في الخلوات، والنائم المستغرق
لا توقظه إلا الصيحات والصاخات. ألم تر أن المسيحيين الغيورين قد أقنعوا كثيرًا
من تجار المسلمين بترك العمل في يوم الأحد والاشتغال في يوم الجمعة؟ وهل
يستطيع جميع المسلمين أن يقنعوا مسيحيًّا واحدًا بترك العمل في يوم الجمعة
والاشتغال في يوم الأحد لا لا ولماذا؟ أليس لأن المسيحيين أعرف من المسلمين
بقيمة المحافظة على الشعائر والمقومات الملية، وأقدر في ميدان المجاهدة
الاجتماعية والأدبية، بلى وليكونن الظفر لهم في كل ما يريدون إلا أن يقتدي
بهم في ذلك المسلمون فحينئذ تكون العزة في كل مكان للكاثر.
يظن بعض الجاهلين منا أن أمر عمل الحكومة في يوم الجمعة سهل، وأنه لا
ينافي الدين في شيء، إذا أمكن للمسلم أن يؤدي فرض الجمعة، لذلك أختم هذه
النبذة ببعض ما ورد في الجمعة.
(١) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: ٩)
فأوجب الله تعالى السعي إلى الصلاة، وترك البيع في وقتها. ومثل البيع غيره من
الكسب والأعمال التي تحول دون هذه الفريضة، وإن كانت من أعمال البر، وورد
في الأحاديث من التغليظ على ترك الجمعة ما لم يرد في عبادة أخرى؛ ومنه: (إن
من تركها ثلاث مرات طبع الله على قلبه) ، وفي رواية: (فقد نبذ الإسلام وراء
ظهره) .
(٢) ورد في غسل الجمعة أحاديث متعددة صحيحة وحسنة، من أشدها
تأكيدًا حديث: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) رواه مالك وأحمد والبخاري
ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وحديث غسل يوم الجمعة واجب
كوجوب غسل الجنابة؛ رواه الرافعي عن أبي سعيد الخدري بسند صحيح.
(٣) التبكير إلى المسجد، قال صلى الله عليه وسلم: (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة) أي غسلاً تامًا مثل غسل الجنابة لأجل الجمعة (ثم راح) أي
إلى المسجد (في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنه) أي كأنما تصدق عليه بجمل أو
ناقة. (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة
الثالثة، فكأنما قرب كبشًا. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن
راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة. فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة
يستمعون الذكر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وفي فضيلة البكور أحاديث وآثار
كثيرة.
ولا يتيسر الغسل والتبكير إلى المسجد مع الاشتغال في دواوين الحكومة فلا
شك أنها عائق عن هذه الأعمال الدينية المؤكدة.
(٤) يوم الجمعة عيد ملي لنا في مقابلة يومي السبت والأحد لأهل الكتاب
ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نحن
الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم
فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع؛ اليهود غدًا والنصارى بعد غد)
وفي معناه أحاديث أخرى، وفي بعضها التصريح بتسمية عيدًا. وفي مسند الشافعي
وغيره أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذه الجمعة فضلت بها أنت
وأمتك، فالناس لكم فيها تبع؛ اليهود والنصارى) ، وفي رواية لابن أبي شيبة أن
جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (تكون عيدًا لك ولقومك من بعدك ويكون
اليهود والنصارى تبعًا لك) ، فهل يرضى مسلم جعله الله ورسوله متبوعًا في
الجمعة أن يتركها ويكون تابعًا لغيره في يوم عيده الديني؟ وهذا أمر مشهور عند
المسلمين، حتى قال الشاعر:
عيد وعيد وعيد صرن متجمعة ... وجه الحبيب ويوم العيد والجمعة
ولولا خشية السآمة على القارئين لأطلت في هذه المسألة، وقد ظهر بهذه
الإشارات الوجيزة أن يوم الجمعة عيدنا الملي، فلا نعدل به غيره ولا نستبدل به
سواه، وإلا كنا تاركين لشعائرنا، جانين على ديننا وجامعتنا، وأما علة تمييزه؛ فقد
ورد من بيانها في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى خلق فيه آدم، وفيه تقوم الساعة،
أي ينبغي لنا أن نشكر الله في هذا اليوم على خلقه إيانا، ونستعد فيه ليوم لقائه.
إن أهل كل ملة من الملل الثلاث، يحافظون على يوم عيدهم الأسبوعي
جهدهم، يقول بعض الناس: إن من مصلحة الأمة أو البلاد أن يتفق أهلها على يوم،
يتركون فيه الكسب والعمل في الحكومة والمصالح؛ لأجل اتحاد الأمة وتقوية
الروابط الاجتماعية بينها، نقول: نعم.. وإن البلاد المصرية مؤلفة من المسلمين
وهم الأكثر، ومن النصارى واليهود وفيها بعض الوثنيين والبابية، والجميع لا
يزيدون على ثمانية في المئة، فهل من العدل ترجيح يوم الأحد عشر مليونًا أم
ترجيح يوم من أيام الملل التي يتألف منها بقية المصريين، وهم لا يكادون يعدون
مليونًا واحدًا.
الأمر ظاهر، والصواب واضح. ولكن بعض الفئات القليلة حسب أن الفئة
الكبيرة قد مات شعورها الملي، وتقطعت روابطها الاجتماعية، فصار يسهل أن
تكون تابعة لا متبوعة، وقد يقوم الدليل على صحة هذا القول من أفعال الكثيرين
الذين قطعوا الروابط القديمة؛ ليستبدلوا بها الرابطة الوطنية، فهدموا بناءهم القديم
ولم يقدروا على إقامة هذا البناء الجديد (الوطنية) إلا في مخيلات بعض الشبان،
السواد الأعظم من الأمة المصرية لم يفهموا حقيقة هذه الوطنية إلى اليوم، فالتعجيل
بالقضاء على شعائرها الملية، بمثل هذه الصيحة القبطية، مما يزيد استمساكها بها
كما تقدم.
هذا ما أحببت بيانه في هذه المسألة، وسأبحث في النبذة الخامسة من هذا
المقال في مسألة التعليم الديني. إن شاء الله تعالى.
***
(النبذة الخامسة)
(التعليم الديني في مدارس الحكومة)
لجميع الحكومات المدنية مدارس، ولا نعرف حكومة منها تعلم في مدارسها
دينين فأكثر أو أديان رعيتها، ولا مذهبين فأكثر من مذاهب الدين الواحد فيها.
في البلاد الروسية أكثر من عشرين مليونًا من المسلمين، وفيها كثير من
اليهود، ولا يلقن في مدارس حكومتها إلا المذهب الأرثوذكسي من مذاهب
النصرانية؛ لأنه مذهب الحاكم العام وأكثر الأهالي، بل الحكومة الروسية تضيق
على المسلمين في مدارسهم الدينية، فلا تسمح لهم أن يعلموا فيها كما يحبون
ويعتقدون، وقد رأينا بعض العلماء الذين نفتهم من بلادهم وأخرجتهم من ديارهم
وأقوامهم، ولا ذنب لهم إلا التعليم الذي يرقي التلاميذ المسلمين.
وفي الجزائر البريطانية كثير من الكاثوليك، ولا تسمح الحكومة لهم بأن
يلقنوا مذهبهم في مدارسها، بل المذهب الذي يدرس فيها هو مذهب البرتستانت الذي
عليه ملك الإنكليز وأكثر الشعب الإنكليزي، فهل تسمح هذه الحكومة الحرة بأن
يدرس في مدارسها دين اليهود من رعاياها، وهي لا تسمح بتدريس مذهب
الكاثوليك من مذاهب دينها؟ ولا نشرح ما يشترط على ملك الإنكليز أن يقوله عند
تتويجه من الطعن في الكاثوليكية والبراءة منها، ولا منع الحكومة الإنكليزية
الكاثوليك من إظهار بعض شعائر مذهبهم في عيد الفصح أو غيره، وقس على
ذلك سائر دول أوربة.
وفي البلاد العثمانية من الأديان والمذاهب، ما لا يوجد في غيرها، ولكن دين
الدولة الرسمي هو الإسلام ومذهبها هو الحنفي، فهي لا تسمح أن يدرس في
مدارسها غير المذهب الحنفي من المذاهب الإسلامية دع الأديان الأخرى، ولم يكن
الحنفية هم أكثر مسلمي البلاد العثمانية، وإنما كثرتهم في البلاد العربية الدولة
نفسها.
كانت البلاد المصرية ولا تزال بلاد عثمانية، لم تتنازع إنكلترة ولا غيرها
من الدول في ذلك. وإنما فوضت الدولة أمر إدارتها إلى محمد علي الكبير وذريته
بشروط منصوصة في الفرمانات التي يولي بها السلطان العثماني كل خديوي من
هذه الذرية، وكان مذهب محمد علي وذريته هو المذهب الحنفي، فلما صار
للحكومة المصرية مدارس رسمية كسائر الحكومات المنظمة، جعلت تعليم الدين
فيها خاصًّا بالمذهب الحنفي على قلة الحنفية في هذا القطر، فإن أكثر أهله شافعية
ويليهم في العدد المالكية والحنفية العدد الأقل، ولولا الحكومة وحصرها الوظائف الدينية في الحنفية، لكان وجود الحنفي في هذا القطر أندر من وجود الشافعي أو المالكي أو الحنبلي في بلاد الترك، إلا من يرحلون إلى الأزهر لتلقي
العلوم الإسلامية فيه ثم يعودون إلى بلادهم.
من المعقول أن يرجح دين الحاكم العام ومذهبه على غيره، فيكون هو الذي
يدرس في مدارس حكومته دون سواه، ومن المعقول أيضًا أن يرجح مذهب السواد
الأعظم من الأمة على مذهب الحاكم العام، وأن يترك هو مذهبه إلى مذهب
الجمهور، وإذا اتفق أن استولى حاكم على شعب مخالف له في الدين، فمن المعقول
أن يترك للشعب حريته الدينية ولا يصادره فيها، ولا يعقل أن يرضى الشعب
بإتباع دين الحاكم المتغلب باختياره، كما يرضى باتباع مذهبه إذا كان موافقًا له في
أصل الدين، إلا إذا كان الخلاف في المذهب قويًّا، يتناول ما يعد من الأصول
كمذاهب النصرانية وبعض المذاهب الإسلامية.
وأما الذي لا يوزن بميزان العقل، ولا يقاس بمقياس المصلحة، ولم ينص في
شرع ولا قانون، ولم يقل به فيلسوف ولا مجنون، ولم تفعله حكومة من حكومات
الأرض، فهو ما يطالب به مؤتمر القبط الحكومة المصرية. حكومة شكلها إسلامي،
حاكمها العام مسلم، تعترف الدول كلها أنها تحت سيادة خليفة المسلمين رعيتها
أكثر من تسعة أشعارهم من المسلمين، والباقون لهم عدة أديان ومذاهب. تطالب
هذه الحكومة بأن يدرس في مدارسها دين غير دين الحاكم العام، والسواد الأعظم
من أهل البلاد! !
إذا كان هذا من الحق والعدل والمساواة كما تدعي القبط، فالواجب على
الحكومة الخديوية أن تدرس في مدارسها كل دين ومذهب، يتبعه فريق من أهل
بلادهم كاليهودية بمذهبيها الكبيرين والنصرانية بمذاهبها الثلاث. والإسلامية
بمذاهبها في الأصول والفروع: مذهب السنة ومذهب الشيعة ومذهب الإباضية،
والمذاهب الأربعة في الفروع، وإلا فما هي مزية القبط على اليهودية؟ وأي مذهب
من مذاهبهم يرجح على الآخر، إذا لم تدرس المذاهب كلها؟ .
تقول القبط: إن لنا من الحقوق في هذه الحكومة ما ليس لغيرنا؛ لأننا سكان
البلاد الأصليين، ويجيبهم المسلمون على هذا بأربعة أجوبة:
(١) إننا لا نسلم أنكم سكان البلاد الأصليين، وسلالة الفراعنة المستكبرين،
وقد صرح المسلمون بهذا، وأيدوه بأقوال مؤرخي الإفرنج.
(٢) إذا سلمنا أنكم من سلالة قدماء المصريين، فإن لنا أن نتبع فيكم سنة
أرقى الحكومات المسيحية علمًا وعدلاً وحرية في سكان بلادها الأصليين، وهي
حكومة الولايات المتحدة، فهل ترضون أن تكون حقوقكم في هذه البلاد كحقوق
هنود أمريكة في حكومتها الآن، وهم أهلها الأصلاء بغير خلاف؟
(٣) إنكم تقولون: إن أكثر مسلمي هذه البلاد منكم وأقلهم من العرب
والترك والشركس، فلا مزية لكم في هذا النسب الشريف على جمهور المصريين
المسلمين، ولهم المزية عليكم بكثرتهم، وكون الحاكم العام من أهل دينهم، وذلك
سبب للترجيح متبع في الحكومات المسيحية الراقية.
(٤) إن طول زمن الإقامة في بلد لا يقتضي التفضيل في الحقوق، وقصره
لا يقتضي الحرمان من شيء منها، متى كان القوم الذين طالت مدتهم أو قصرت
من أهل البلاد المقيمين فيها خاضعين لشريعتها وقوانينها، نعم.. إن الحكومات قد
حددت في هذا العصر الزمن الذي يكون فيه الغريب عنها وطنيًا داخلاً في جنسيتها
السياسية. وقد بالغت مصر في ذلك مالم تبالغ الحكومات الراقية، فجعلت المدة
التي يصير فيها الغريب مصريًا خمس عشرة سنة. فهذه الحكومة الإسلامية تجعل
لأدنى أجير قبطي من الحقوق في بلادها ما لا تجعله لأعظم أمير من شرفاء
المسلمين يقيم فيها خاضعًا لحكومتها، قبل أن تتم له تلك المدة (١٥سنة) فيها،
ومن نال هذه الجنسية بشرطها كان له من الحقوق مثل ما لغيره من المصريين، سواء
كانوا من آل فرعون الذي لعنه الله، أم كانوا من قوم موسى الذي كلمه الله.
كان بنو إسرائيل دخلاء في مصر وفضلهم الله تعالى في كتبه على آل فرعون
، ثم فضل الله تعالى العرب واصطفاهم بإرسال رسوله منهم، مثلما اصطفى إخوتهم
بني إسرائيل من قبلهم بإرسال رسوله منهم، كما أشار إلى ذلك في سفر تثنية
الاشتراع، فكيف تطالب حكومة مصر التي تدين الله تعالى بتفضيل الشعب
الإسرائيلي والشعب العربي في النسب على الشعب الفرعوني؛ أن تميز الشعب
المفضول في كتب الله على الشعب الفاضل بل الشعبين الفاضلين، على أن الأنساب
في دين هذه الحكومة وشرعها، لا تقتضي التفضيل في الحقوق على
قدر الفضل في النسب.
فعلم مما بيناه أن النسب الفرعوني الذي تدل به القبط غير مسلم لهم، وإذا
سلم جدلاً فهو لا يقتضي تفضيلهم على اليهود، بل اليهود أشرف منهم نسبًا؛ لأنهم
ينتسبون إلى أنبياء الله تعالى، والقبط تنتسب إلى الفراعنة الوثنيين أعداء الله تعالى،
وإذا لم يكن لهم صفة تقتضي تميزهم على غيرهم من المصريين، فقد هدم الأساس
الذي بنوا عليه طلب تعليم دينهم في مدارس الحكومة. نعم.. إن القبط لا يدينون
دين الفراعنة، بل دينًا يرجحه الإسلام على ذلك الدين، ولكن دينهم ودين اليهود
سواء في نظر الإسلام، ولما كان تعليم كل الأديان والمذاهب المعروفة في مصر
متعذرًا في مدارس حكومتها، كان من العدل والمصلحة المتبعين في الحكومات
الراقية أن لا يدرس في مدارس هذه الحكومة إلا دين الحاكم العام الذي هو دين
أكثر الشعب، ولا بأس بما جرت عليه من ترجيح مذهب الحاكم على مذهبي
جمهور الشعب، وإذا فتح باب التعدد، فإن أصحاب المذاهب الإسلامية كلها
يطلبون تدريس مذاهبهم لأولادهم في مدارس الحكومة.
حدثني الثقة أن ناظرة من ناظرات المدرسة السنية الإنكليزيات، كتبت تقريرًا
لنظارة المعارف على عهد فخري باشا، قالت فيه ما حاصله: إن الغرض من تعليم
البنات وتربيتهن على الفضيلة والتقوى لا ينال إلا بالدين، فيجب أن يكون الدين
هو الأساس الذي يقوم عليه بناء تعليم البنات وتربيتهن في هذه المدرسة، والفائدة
تتم بأي دين من الأديان الثلاثة الموجودة في هذه البلاد. ولا يجوز أن يكون في
مدرسة واحدة أكثر من دين واحد؛ لأن ذلك مفسد للتربية، فيجب أن يكون الدين
الإسلامي إجباريًا عامًا في هذه المدرسة - ومثلها غيرها أو غيرها مثلها - لأنه دين
الحكومة وأكثر الأهالي.
أهمل هذا التقرير في النظارة، وكان جزاء الناظرة الفيلسوفة التي كتبته:
إخراجها من المدرسة، وإعادتها إلى بلاد الإنكليز التي تسع فلسفتها العالية وأفكارها
السامية، بخل مستر دنلوب بها على هذه البلاد، واستبدل بها ناظرة أخرى لا
تصل إلى حل سيور حذائها، ثم بدلت الأخرى. ولكن لم تر المدرسة بعد تلك ولا
قبلها مثلها؛ لأنها كانت من أرقى نساء الإنكليز أخلاقًا وأدبًا وأفكارًا.
لو أجبرت الحكومة الخديوية أولاد القبط الذين يدخلون مدارسها على تلقي
دروس الدين الإسلامي والعمل بها، لكان لها قدوة في الإفرنج الذين تقلدهم في أكثر
أعمالها، ولا أعني بالإجبار إكراه التلاميذ بقوة على ذلك، وإنما أعني أن يكون ذلك
شرطًا لا يقبل في المدارس إلا من يلتزمه، ولكن هذه الحكومة لم تفعل ذلك لا في
عهد الاحتلال ولا قبله، لا لأن أمها الدولة العثمانية لم تفعله، بل لأنه لم يعهد في
الإسلام الذي يرمى أهله بالتعصب، وإنما عهد عند المسيحيين الذين يفخرون علينا
بالتسامح والتساهل.
في هذه البلاد معاهد للتعليم تديرها الحكومة، وينفق عليها من أوقاف
المسلمين المحبوسة على تعليم أولادهم خاصة، والحكومة تقبل في هذه المعاهد
أولاد القبط فتعلمهم على نفقة المسلمين، مخالفة في ذلك شرط الواقف لأجلهم. فهل
تسمح القبط بإنفاق قرش واحد من أوقافها على تعليم مسلم؟
إن أمر المسلمين في تسامحهم مع القبط، وترجيحهم لهم على أنفسهم لغريب،
لم يعهد له نظير في الأرض، وقف الخديوي الأسبق إسماعيل باشا واحدًا
وعشرين ألف فدان على تعليم أولاد المسلمين، وهي الأرض التي تسمى (تفتيش
الوادي) ، ووقف جده من قبله ثلاثة آلاف فدان على تعليم أولاد القبط، فكان
عطاؤه للقبط أكثر؛ لأنهم لا يبلغون ثمن المسلمين، فاستأثرت القبط بما وقف عليها
وشاركت المسلمين فيما وقف عليهم، ثم ترفع جرائدها عقيرتها مستغيثة بأوربة
المسيحية من ظلم المسلمين لهم في التعليم، ويصدقها مؤتمرها على ذلك.
من هذا القبيل؛ مساعدة أوقاف المسلمين للجامعة المصرية بخمسة آلاف جنيه
في كل سنة، وهي مفتحة الأبواب للقبط وغيرهم، وطلبتها من غير المسلمين لا
يقل عددهم عن المسلمين.
بلغ من طمع القبط في المسلمين أن طلبوا تعليم أولادهم في بعض مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية على نفقة الجمعية، فلم يقبل ناظر المدرسة، فشكوه إلى
رئيس الجمعية قائلين: إن لهم الحق في التعليم في هذه المدارس؛ لأنهم مصريون قبل
كل شيء! ! وقد جعل أعضاء مجلس إدارة الجمعية هذه الشكوى محل النظر، ومال
بعضهم إلى إجابة الطلب، لولا أن قامت الحجة عليهم؛ بأن قانون الجمعية الأساسي
قد صرح بأن الغرض من هذه الجمعية إعانة فقراء المسلمين وتربية أولادهم لا فقراء
المصريين.
اشتهرت مصر بأنها بلاد العجائب وحق لها أن تشتهر بذلك، فمسلموها يقفون
أرضهم حتى على أديار القبط، وينفقون من ريع أوقافهم الخاصة بهم على تعليم
القبط، وحكومتهم تسمح للقبط بأن يعلموا دينهم في مدارسها، وهو مالا نظير له في
الحكومات الأوربية التي تقتدي بها، والقبط تشكو من ظلمهم وتستغيث بأوربة منهم،
وتُدل عليهم بنسبها، وتدعي أنها صاحبة البلاد، وأنها أجدر بحكمها، وتسخر من
المسلمين وتدعي أنها أكبر منهم كفاءة، وأن ما أخذته من الوظائف في الحكومة وفي
المصالح والمزارع، حتى أوقاف المسلمين الخاصة بهم، فقد أخذته بحق، وهي
أولى به وأحق، وما بقي في أيدي المسلمين وهو أقل هذه الوظائف والأعمال،
فليس لهم فيه حق، بل هم هاضمون به حقوق سلائل الفراعنة وأصحاب البلاد
الأصلاء، فيجب أن يرد إليهم أو أن يأخذوا الآن نصيبًا منه.
قد علمنا بالقياس المطرد المنعكس؛ أن القبط لا يأخذون شيئًا إلا ويطلبون ما
بعده، فلا يجاب طلب إلا ويعقبه طلب، ولا ينتهي أرب إلا إلى أرب، ولا يقنع
هذه الفئة القليلة العدد، الكثيرة النشاط، الكبيرة الطمع، إلا أن يكون الحلم والنفوذ
في هذه البلاد خالصًا لها من دون المسلمين. وهذا شأن الشعوب التي تحيا وتنم مع
الشعب التي تموت وتفنى: الحي يتغذى دائمًا بما يتصل به من الأغذية، والمشرف
على الموت تنحل عناصره وتتفرق، فتكون غذاء للأحياء الأخرى، والحياة قسمان:
حياة مادية وحياة معنوية، وسنة الله تعالى في نظامها واحدة.
((يتبع بمقال تالٍ))