للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الأخبار والآراء
(مسجد في لوندره)
لوندره عاصمة دولة إنكلترة أكبر مدينة في الأرض، وأكثرها ساكنًا، وهى
لا تخلو من عدد كبير من المسلمين؛ ما بين مقيم وزائر، ومتعلم ومتظلم ومتجر,
فإن زهاء نصف مسلمي الأرض تحت سلطان هذه الدولة ونفوذها، منهم في الهند
وحدها تسعون مليونًا من النفوس بحسب إحصاء هذه السنة.
اجتماع المسلمين وتعارفهم في تلك العاصمة له فوائد كبيرة، ولا يتيسر لهم
ذلك في مدينة سكانها ستة ملايين أو يزيدون، إلا إذا كان لهم معهد معروف
يؤمونه من كل جهة، ولهذا رأى بعض المفكرين أنه ينبغي للمسلمين أن يبنوا لهم
مسجدًا هنالك، ويبنوا بجانبه ناديًا للاجتماع والخطابة، ويجعلوا فيه مكتبة للمطالعة.
سبق أذكياء المسلمين إلى هذا الرأي من ليس منهم، وأنفذه لمنفعته لا لمنفعتهم
وأراد غيره أن يعمل مثل عمله في باريس، فقد ذكرنا في ص٤٧٩ من مجلد المنار
الثامن (سنة١٣٢٣) أن الخواجة ليون لامبير كان رغب إلينا أن نقنع الأستاذ الإمام
رحمه الله تعالى بأن يجعل (مشروع بناء مسجد بباريس) تحت رياسته، وكان
الأستاذ مريضًا فلم نحدثه بذلك، وبعد وفاته بلغنا أنه التمس من شيخ الأزهر أن
يجعل هذا المشروع تحت رياسته، فقبل ولم نعلم ماذا كان بعد ذلك.
ذكرنا هذا الخبر في ذلك المكان أي منذ ست سنين، وعقبنا عليه بأننا نرجو
أن لا يكون مسجد باريس كمسجد لوندره الذي حدثنا الأستاذ الإمام عنه بما يأتي،
قال رحمه الله تعالى:
خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند أن يجمع من المسلمين مالاً، يبني
به مسجدًا في لوندره، فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندره فبنى مسجدًا في
خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من
المسلمين في لوندره، فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد، وقد اشترى الرجل أرضًا
لنفسه عند الجامع، وبنى فيها بيتًا لنزهته، فإذا علم أن بعض أمراء المسلمين أو
أغنياءهم زار لوندره، يبحث عنه ويدعوه إلى داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار
نجل أمير الأفغان عبد الرحمن خان لندره في عهد والده، أجاب دعوة هذا اليهودي
إلى داره ومسجده، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه، ولا يخالنَّ أحد أن الأمير
كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به أو يخدمه، فقد كان خالد أفندي أستاذ اللغة
التركية في مدرسة كمبردج (مهندارا) للأمير في لوندره لزم خدمته، وأعد له كل
وسائل الراحة، وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. ا. هـ
ما نقلناه عن الأستاذ الإمام وقد عقبنا عليه في المنار بالتنبيه إلى افتتان
المسلمين بالأجانب، حتى في أمور دينهم، فهم يبذلون لهم من أموالهم حتى باسم
الدين ما لا يبذلونه لمن يخدم الدين منهم.
خليل خالد بك الذي ذكره الأستاذ في هذا السياق؛ هو الذي بذل وقته مع
جماعة من المسلمين رئيسها القاضي مير علي الهندي العالم المشهور، للسعي في
إنشاء مسجد في لوندره نفسها، يكون مثابة للمسلمين فيها، وقد بدأ الدعوة إلى
التبرع له في العام الماضي بالآستانة، فلم يتبرع له فيها إلى الآن إلا بنحو أربعة
مئة ليرة، وقد جاء مصر في هذه الأيام لأجل جمع الإعانات منها، فعني به بعض
أهل النجدة وألفوا له لجنة تحت رياسة رياض باشا الذي هو عدة مصر وعتادها في
أعمال الخير والمصالح العامة، وقد أعد خليل بك خالد خطبة تركية للدعوة إلى
المشروع، ترجمت بالعربية، ودعت اللجنة جمهور الوجهاء والفضلاء إلى
الاجتماع في قبة الغوري ضحوة الجمعة؛ لسماع الخطبة باللغتين فاجتمعوا، وبعد
أن قرأ بعض الحفاظ آيات من القرآن الكريم فيها ذكر عمارة المساجد، ألقى خليل
خالد بك خطبته، وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار فتلا ترجمتها، ثم رفيق بك أحد
أعضاء اللجنة بخطاب وجيز، تكلم فيه عن أول مسجد أسس في الإسلام، وهو
مسجد قباء، وعن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ثم دعي أحمد زكي بك
الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، فألقى خطابًا ذكر فيه ما كان من عناية
المسلمين في العصور الأولى ببناء المسجد أينما وجدوا، حتى في بلاد الأجانب،
وذكر من الشواهد على هذا المسجد الذي بناه بعض الصحابة في غلطة من الآستانة،
وحث الناس على التبرع للمشروع، وقال: إنه هو يتبرع بعشرة جنيهات على
قدر حاله، واعتذر عن إظهار ذلك مع نهي الدين عن إظهار الصدقات.
***
(إظهار الصدقات وإخفاؤها)
بعد أن أتم أحمد ذكي بك خطابه المفيد، قام كاتب هذه السطور فألقى خطابًا
وجيزًا في الاستدراك على ما قاله الخطيب في مسألة إظهار الصدقات وبيان الحق
في ذلك؛ لأجل الحث على التبرع للمسجد، قلت بعد الثناء على الخطيب ما مثاله.
لم يكن يخطر في بالي أن أقوم خطيبًا في هذا الجمع، ولكن ما قاله الخطيب
في الصدقات يحتاج إلى استدراك وإيضاح لا بد منهما؛ لئلا يظن بعض الناس أن
الدين الإسلامي يحرم الصدقات الجهرية أو يكرهها، فيقبضون أيديهم أن تجود في
مثل هذه المحافل على ما تدعى إليه من البر.
قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ
فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: ٢٧١) فمدح إبداء الصدقات وإظهارها مطلقًا، وفضل
إخفاءها فيما يعطى للفقراء منها بما يدل على أن مقابله جائز، بل محمود أيضًا.
إخفاء الصدقة على الفقراء خير من إظهارها؛ لما في الإظهار من كسر قلوب
الفقراء المتجملين، وما في الإخفاء من الستر عليهم والتكريم لهم. وأما وضع
الصدقة في المصالح العامة، فليس فيه هذا المعنى وإبداؤها قد يكون حينئذ خيرًا من
إخفائها؛ لما فيه من حسن القدوة والترغيب في التعاون على الخير، وما زالت
القدوة الصالحة مصدر البركات وسببًا في كثرة الأعمال الصالحات، وقد أمرنا الله
تعالى أن ندعوه بأن يجعلنا أئمة في الخيرات، بمثل قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: ٧٤) .
إن من يطلب المال ليضعه في مصلحة عامة، يسره أن يجاب جهرًا، كما
يسر كريم النفس أن يجاب إلى ما يطلبه لنفسه سرًّا، والإخلاص موضعه القلب،
ولا ينافيه أن يحب المؤمن ظهور فضله بالحق، وإنما المذموم في كتاب الله أن
يحب المرء أن يحمد بغير حق، قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا
وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ} (آل عمران:
١٨٨) والإسلام دين الفطرة، فليس فيه ما يمنع المسلم أن يظهر كل ما يميل إليه
استعداده من الحق والخير، ولا سيما إذا تعدى نفعه، وكان فيه قدوة لغيره.. إلخ.
بعد هذا افتتح رياض باشا الاكتتاب بمئة جنيه، وتبرع الشيخ قاسم آل إبراهيم
نزيل مصر بمئة جنيه، وتبرع غيرهما من الأغنياء بما دون ذلك من الآحاد
والعشرات إلى الخمسين، وكان مجموع التبرعات في تلك الجلسة زهاء ست مئة
جنيه، وستبلغ الألوف في وقت قريب إن شاء الله تعالى.
* * *
(قانون الأزهر في مجلس الشورى، والاحتفال بالمتناقشين فيه)
سبق لنا ذكر قانون الأزهر الجديد، وقد نظر فيه مجلس الشورى، ونفخ
بعض مواده وأقر أكثرها، وقد كان من رأي محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة،
وعلي شعراوي باشا وفتح الله بك بركات وأحمد بك حبيب؛ أن لا يكون حق
تعيين شيخ الأزهر للخديوي، واقترحوا أن يكون بالانتخاب وألا يعزل، وكذلك
أنكروا أن ينعقد مجلس الأزهر الأعلى برياسة الخديوي عند الاقتضاء، وكانت
المناقشة في المادتين الناطقتين بهذين الحكمين شديدة في المجلس، وكان أشد
المعارضين لهؤلاء في رأيهم محمد باشا الشواربي وكيل مجلس الشورى.
رأى حزب الأمة هذه المناقشة فرصة لتأسيس حزب شعبي في المجلس،
يسميه الحزب الديمقراطي أو الحزب الحر، يكون أبطاله هم الذين اقترحوا أن
ينتخب كبار علماء الأزهر الشيخ له، فلا يكون للأمير تعيين من شاء ولا عزل
الشيخ الذي يختاره العلماء، وأن يكون شيخ الأزهر هو رئيس المجلس الأعلى دائمًا
فأطلقوا على الأعضاء الخمسة اسم الحزب الديمقراطي الحر، ودعوا كثيرًا من
الوجهاء إلى حفلة شاي في فندق (كونتيننتال) إكرامًا لهم، حضرها زهاء مئتي نسمة،
وألقيت فيها الخطب في المعنى المقصود.
عبرت الجرائد عن هؤلاء بحزب الأقلية، وقد قابلهم حزب الأكثرية باحتفال
آخر، كان الداعي إليه حسن باشا زايد باسمه ونيابته عن جمهور من سراة القطر
المصري، أقيم هذا الاحتفال في فندق (سفواي) وأجاب الدعوة إليه قاضي مصر
وشيخ الأزهر وكبار علمائه، وزهاء مئة وخمسين رجلاً من وجهاء القطر ورجال
الصحافة الوطنيين والأجانب، وكنت ممن دعي من الصحافيين وإن لم أبد رأيًا،
ولم أكتب كلمة في موضوع الخلاف. ونصبت للمدعوين موائد الطعام وبعد الفراغ
من العشاء، قام في القوم الشيخ حسن السرهويتي من علماء المنوفية، فشكر
الحاضرين بالنيابة عن حسن باشا زايد، ثم خطب في المعنى المقصود سيف النصر
باشا وحسين بك هلال وموسيو كولرا محرر القسم الفرنسي من جريدة الأيجبت،
ومستر منسفيلد محرر القسم الإنكليزي فيها، ثم الشيخ علي يوسف مدير المؤيد
وموسى باشا غالب.
هؤلاء هم الخطباء الذين كانوا مندوبين للخطابة، ثم اقترح الشيخ علي يوسف
على فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم أن يقول شيئًا، فتكلم بعد الشكر لحسن
باشا زايد كلامًا وجيزًا في الاتفاق بين أهل القطر، وقال: إنه لا يحق له أن
يتعرض لمسائل الأحزاب، وأنه يوافق موسيو كولرا على رأيه الذي أبداه، وهو
استحسان ما جاهر به الفريقان من المختلفين في الرأي في قانون الأزهر، وهو
جعل مقام الجناب الخديوي فوق الأحزاب.
ثم اقترح عليّ الشيخ علي يوسف أن أتكلم بعد أن سألني؛ هل يوجد عندي
مانع من الكلام؟ فقلت: لا.. وهذا ما وعيته من خطابي:
أيها العلماء الأعلام. أيها السراة والفضلاء الكرام:
إنني بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله، أقول كلمة في حالنا
العامة الآن، تعلمون أننا الآن في دور انقلاب ودور انتقال من حال إلى حال، وفي
هذا الطور تكون الأمم على خطر، إذا هي طفرت إلى التقدم طفورًا، ولم تسر
على سنن الكون بالتدريج، فإن ضرر التحول السريع ولو من حال إلى أعلى منها،
ضرره أكبر من نفعه، والخوف منه أقوى من الرجاء فيه.
في هذا الطور يكثر المقلدون الذين يميلون إلى اقتباس ما عند الشعوب القوية
من خير وشر وحسن وقبيح. وفيه تكثر الاقتراحات التي يمكن تنفيذها والتي لا
يمكن تنفيذها، فكل ما نسمعه بمصر من طلب تغيير القديم طبيعي لا بد منه. يطلبون
الدستور ولهم أن يطلبوه، ولكن الوصول إلى المطلوب إنما يكون بالسير على سنن
الكون التدريجية، كذلك ميل الكثيرين إلى المحافظة على القديم طبيعي، ولا بد منه
في هذا الطور، سواء كان ذلك لتفضيل القديم على الجديد، أو للعلم بعدم إمكان
الجديد أو بعدم مجيء وقته لعدم استعداد الأمة له.
لا ترتقي الأمم إلا بطلب استبدال ما هو أدنى من قديمها بالذي هو خير منه،
ولو مقتبسًا من غيرها، ولا تبقى الأمم إلا بالمحافظة على قديمها، والتريث في
التحول عن الضار منه، حتى لا يكون طفرة تُخشى عاقبتها. وإن هذه البلاد سائرة
على طريق التحول بالتدريج، والخطر عليها عظيم من العجلة والطفور، ولكنه لا
يقع إن شاء الله تعالى.
أمامنا مثال ظاهر على هذا وهو الجامع الأزهر. كان هذا المعهد العلمي العظيم
إلى عهد قريب كأنه بمعزل عن سائر طبقات الأمة، يجري أهله فيه على ما تعودوا
من طرق التعليم بغير نظام مدوّن ولا قانون متّبع، ولم يكن أحد يعرف طريقتهم
وحالهم إلا من جاور فيه معهم. وقد وضع له في هذا العصر عدة قوانين، كان كل
منها مناسباً للوقت الذي وضع فيه، كما تقتض سنة التدريج في التحول، حتى
وصلنا إلى الحالة التي نحن فيها اليوم.
ها أنتم أولاء، ترون أمامكم في هذا الفندق المدني العصري أكابر علماء
الأزهر الأعلام، يحضرون احتفالاً جمع بين الكثيرين من طبقات الأمة المختلفين
في الدين والجنس وبعض الأفراد من الأجانب، وقد عقد هذا الاحتفال لأجل الأزهر
فإنه احتفال بالذين أقروا قانون الأزهر الجديد الذي هو أوسع وأعلى من قوانينه
السابقة.
أليست هذه خطوة واسعة في التحول عن القديم إلى الجديد، تكاد تكون وثبة
غير تدريجية؟ أليس وجود هؤلاء العلماء الأعلام بينكم، وهم الذين يعد أمثالهم في
كل الأمم أقوى المحافظين على القديم؛ آية من آيات الاستعداد لما يسمونه
الديموقراطية في لغة أهل السياسية؟
لا أقول: إن قانون الأزهر الجديد الذي تحتفلون بتقرير مجلس الشورى له
هو منتهى الكمال المطلوب لهذا الجامع ولكنه إذا تيسر تنفيذه يكون من الارتقاء
التدريجي المطلوب بل أخشى أن يكون فوق التدريجي.
قلت: إنه يخشى على الأمة في طور الانتقال من التحول السريع، ولكنها إذا
تركت إلى سنن الكون ونواميسه في الترجيح بين طلاب الجديد والمحافظين على
القديم، فإنها تسلك طريق التدريج الذي لا خطر فيه، وإنما يكون التحول الفجائي
بالقوة القاهرة التي يلجأ إليها طلاب الجديد في بعض الأمم، وهذه القوة غير
موجودة في مصر، فلا خطر على هذه البلاد من طلب ما لا حاجة إليه، ولا من
طلب الشيء قبل أوانه، فعلينا إذًا أن نحترم حرية رأي غيرنا، كما نحب أن يحترم
رأينا ولكننا نجتهد في تنفيذ ما نراه نحن هو الأصلح.
هذه كلمتي الأولى في هذا المقام، ولي كلمة أخرى في هذا الاحتفال،
والاحتفال الذي قبله. قال الأستاذ الشيخ علي يوسف في خطبته: إنه بدأ بالشكر
للذين احتفلوا بالعدد القليل من أعضاء مجلس الشورى؛ لأنه كان سبب الاحتفال
بالجمهور الكثير من أعضائه، وقال: إن المجلس حصل فيه وكذا في الجمعية
العمومية خلافات كثيرة؛ في مسائل أهم من المواد التي اختلفوا فيها أخيرًا من
قانون الأزهر، وأدل على الشجاعة الأدبية، ولم يكن أحد يحتفل بالمخالفين لرغبة
الحكومة ولا بالموافقين.
وأنا أشاركه في الشكر لهؤلاء وأولئك المحتفلين، وأعده من آيات ارتقاء هذه
البلاد وأعمالها النافعة، إننا لم نكن نبالي من قبل بالأمور العامة، والآن صرنا
نبالي بها، إن اجتماع العدد الكثير من طبقات الأمة في محفل واحد لأجل المصلحة
العامة، يرى بعضهم وجوه بعض، ويسمع بعضهم حديث بعض هذا الاجتماع
يقوي في نفوسهم حب المصلحة العامة والاهتمام بها والحديث فيها، ويسري ذلك
منهم إلى غيرهم، فيكون وسيلة إلى انتشاره في الأمة كلها، وذلك من أسباب
الارتقاء السريع الذي لا خطر فيه.
حق لي بعد هذا البيان أن أشكر لحسن باشا زايد وإخوانه العناية بهذا الاحتفال
النافع، سمعت أنه قيل: إن حسن باشا زايد لم يتعلم في الأزهر ولا في غيره من
المدارس العالية أو غير العالية، فيعرف صواب الرأي في قانون الأزهر، فيحتفل
لأجله عن بصيرة، وأنا أقول: إن الأمم لا ترقى بالمتعلمين في المدارس وحدهم.
إن عماد ارتقاء الأمم هم أصحاب المواهب الفطرية والاستعداد العالي الذي يزجي
هممهم للقيام بالمصالح العامة. حسن باشا زايد لم يتعلم في المدارس، ولكنه
باستعداده الطبيعي ومواهبه الفطرية يدير ثروة واسعة، وينفق منها على المصالح
العامة: كالجامعة المصرية ومؤتمر تحسين العميان وغير ذلك.
لو تعلم حسن باشا زايد في المدارس العالية ونال شهادتها وألقابها وهو عاطل
من هذه الحلية الفطرية، لكان لنا منه واحد من المتعلمين الكثيرين الذين لا حظ
لأمتهم منهم غير شقشقة اللسان وتنميق الكلام، ولكن حسن باشا زايد يعلم الآن بماله
كثيرًا من النابتة، فهو إذًا ليس فردًا متعلمًا ولكنه أمة معلمة.
التعليم يحتاج إلى المال، وإنما يكون ارتقاء الأمة بالأغنياء الذين يبذلون
أموالهم لترقية الأمة ورفعة شأنها، لا بالذين يدعون خدمتها بالقول فقط، أولئك
الباذلون المحسنون هم زعماء الأمة ومربوها، فنسأل الله أن يكثر فينا من أمثالهم.
***
(عقد قران صاحب المنار)
في يوم الجمعة سادس عشر ربيع الأول الأنور، احتفل في ددّه من أعمال
الكورة الشمالية بجبل لبنان؛ بالعقد لصاحب المنار على الأميرة أمينة كريمة
المرحوم الأمير (هدى) درويش الأيوبي، والأمراء الأيوبية؛ كانوا حكام هذا القسم
الشمالي من كورة لبنان، وهم ينتسبون إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي. وكان
وكيلي في العقد شقيقي السيد حسن، ووكيل الفتاة شقيقها الأمير أحمد هدى، وتولى
صيغة العقد الأستاذ السيد الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني نقيب الأشراف في
طرابلس الشام، وحضر الاحتفال كبار العلماء والوجهاء والسادة من طرابلس
والقلمون والكورة، وكان الاحتفال أرقى ما عهد من نوعه. وقد نصبت فيه موائد
الطعام للمئين من المدعوين، وأديرت كؤوس المرطبات على جماهير الحاضرين،
وتوفرت فيه أسباب السرور، فلم يشب صفوها كدرعلى كثرة الشبان الذين يحملون
السلاح من أهل القريتين وغيرهما، وقد طير البرق خبره إلى مصر في حينه،
فنشر في الجرائد الكبرى كالمؤيد والمقطم والأهرام، فنسأل الله التوفيق في هذا
الطور الجديد في الحياة.
***
(الوطنية والإسلام)
نشرت جريدة (العلم) لسان حال الحزب الوطني بمصر في (ع ٢٧٩ الذي
صدر في ١١ ربيع الآخر) ترجمة كلام لمجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية التي
تصدر بباريس، ذكر صاحبه الحركة الوطنية المصرية وعزاها إلى مصطفى كامل
باشا وخطأها بمثل قوله: وإنما كنا نعتقد فقط بأن ارتباط الإسلام بالنهضات الوطنية،
يكون سببًا لتشتيته وانقسامه على نفسه، فيفقد القوة التي اكتسبها إياه (؟) مدنيته
العمرانية، ونحن نهنئ مصر الإسلامية المولعة بالتقدم والرقي العقلي والاجتماعي،
وننتظر لها مستقبلاً سياسيًّا باهرًا، بحيث تسترد مركزها الإسلامي، وذلك بناء
على انتشار الحركة الإسلامية لا الحركة الوطنية المقيدة في دائرة من الدوائر.
(وإننا مع عدم إنكار الخدمات العظمى التي قام بها الحزب الوطني للأمة
المصرية، نخاف أن يسير بها في مأزق ضيق؛ لأنه لم يتبع الطريق الذي نراه
صالحًا) ا. هـ المراد بنص ترجمة جريدة العلم الركيكة.
وقد عقبت جريدة العلم على ذلك بهذه الجملة (يريد الكاتب أن يقول: بأن
الحزب الوطني أخطأ في عدم جعل الدين قاعدة لحركته، والجامعة الإسلامية وسيلة
لتحقيق مقاصده، وهذا هو مبدأ المجلة (أي مجلة العالم الإسلامي) التي نعرب
عنها مقال اليوم، كما أشرنا إلى ذلك سلفًا وهو ما لا نوافق عليه) .
(المنار)
إن صاحب مجلة العالم الإسلامي لم يذكر الجامعة الإسلامية، وإنما يعني أن
مصر لا ترتقي إلا بارتقاء المسلمين الذين هم السواد الأعظم بحركة إصلاح إسلامية
لا بدعوة وطنية، والحزب الوطني على خلاف ذلك؛ فإنه يفضل الحركة الوطنية
على الإسلامية.
ويقال: إن بعض أصحاب النفوذ في الحزب الوطني، سيظهرون الميل إلى
الاتحاد بالقبط وعدم مؤاخذتهم على ما كان منهم ولا غرو، فالوطنية الصحيحة التي
لا شائبة للدين فيها؛ تقتضي أن لا يمتاز وطني على وطني بسبب دينه، فإذا
قصرت القبط في حقوق الوطنية بتفضيل القبطي على غيره، فذلك لا يقتضي أن
يعاملهم زعماء الوطنية من المسلمين بعملهم؛ لأن الزعيم قدوة في الإيثار، ويجب
على القبط أن لا يعودوا بعد إلى مثل ما كانوا عليه من التحامل على الحزب الوطني
فإنه كان في هذه الأيام أقرب إليهم من سائر الأحزاب، ولم يرفع صوته الجهوري
المعروف في الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي، بل جارى سائر الأحزاب بقدر
الضرورة.
***
(رأي مجلة الشرق والغرب، في جماعة الدعوة والإرشاد)
لدعاة النصرانية عدة صحف في مصر منها مجلة الشرق والغرب لقسوس
الإنكليز، ويكنون بالشرق عن الإسلام وبالغرب عن النصرانية، وقد بلغني أن
رأس مال هذه المجلة الصغيرة ستة آلاف جنيه، وهي من تبرعات الإنكليز
الحريصين على نشر دينهم ومذهبهم في هذه البلاد، فهل يعتبر بذلك المسلمون.
هذه المجلة أقرب إلى الأدب من أخواتها، وقد أرسلنا إليها النظام الأساسي
لجماعة الدعوة والإرشاد، فكتب أصحابها عنه خيرًا مما كتبه بعض المسلمين الذين
يدعون السبق في خدمة دينهم، كتبوا ما معناه أن الدين الحي لا بد له من الدعوة،
وأنه لا يسوءهم أن يدعو المسلمون إلى دنيهم، وأنه أعجبهم من نظام الجماعة عدم
الاشتغال بالسياسة، وههنا أدخلت المجلة شيئًا من التعريض الذي يغري الأوربيين
بمقاومتنا، فقالت: إنهم لا يستطيعون أن يفهموا أن شيئًا من الإسلام يخلو من
السياسة؛ لأن الإسلام مزج بينهما.
ونحن نجيب عن هذه التهمة التعريضية بجواب بديهي، ونرجو من إنصاف
أهل هذه المجلة نشره بالعربية والإنكليزية، كما نشروا الشبهة وهو:
إننا نعترف بأن السياسة في الإسلام قرينة الدين؛ بمعنى أن الإسلام جاء
بأحكام دينية وأحكام دنيوية سياسية ومدنية، ولكنه فرق بين الأحكام الدينية المحضة
وغيرها، ومن أحكامه أن المعاملات الدنيوية تكون عبادة دينية بإخلاص صاحبها
وتحريه الحق والعدل والمصلحة، كما يكون عاصيًا بضد ذلك، فحكام المسلمين
مأمورون بمراعاة أحكام الدين فيها، فإذا فعلوا يكونون أقرب إلى الحق والعدل،
ويجب عليهم حفظ الإسلام والدعوة إليه، فالسياسة إذًا تستلزم الدين في الإسلام.
وأما القسم الديني المحض من الإسلام، فلا يحتاج فيه إلى الساسة، بل لا
يكون إتقانه والإخلاص فيه إلا بتركها، فالذي يشتغل بالعقائد الإسلامية وإقامة
الدلائل عليها ورفع الشبهات عنها، وبآداب الإسلام وأخلاقه وعباداته علمًا وعملاً
وتعليمًا ودعوة إليها ودفاعًا عنها، لا ينبغي أن يشتغل بالسياسة ولا لأجل السياسة
بل الواجب عليه شرعًا أن يعمل ذلك لوجه الله وابتغاء مرضاته بالتقوى والهداية،
فإذا قصد مع ذلك التقرب من الحكام أو إرضاءهم، كان مرائيًا مذمومًا، وإذا عمل
لأجل السياسة فقط، كان عمله معصية لا طاعة، وكان مستحقًّا للعقاب عليه دون
الثواب، وقد أطلق في الكتاب والسنة اسم الشرك على مثل هذا الرياء.
فجماعة الدعوة والإرشاد تريد أن تخدم الإسلام، من حيث هو دين جاء لهداية
الناس وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا؛ بالتقوى والفضيلة والخير والبر،
وسعادتهم في الآخرة بالنجاة من عذاب الله والدخول في دار كرامته ورضوانه، ولا
تريد مطلقًا أن تشتغل بالقسم السياسي ولا القضائي منه، فلا تقصد أن تعد طلاب
مدرستها للقضاء الشرعي ولا للأعمال السياسية، وإنما تريد أن تعدهم لإرشاد عامة
المسلمين إلى حقيقة دينهم ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام من غير تعرض
لحكوماتهم ألبتة، أليس هذا مما يسهل على كل أحد أن يفهمه؟ كان الصالحون من
سلف الأمة والصوفية أبعد خلق الله عن الساسية وأهلها، حتى إنهم كانوا يفرون من
الحكام، ويكرهون لقاءهم إلا لحاجة دينية؛ كالحث على الخير والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فهل يضيق فكر الأوربيين الواسع عن التصديق باتباع جماعة
من المسلمين لسلفهم الصالح في الدين الخالص من شوائب السياسة وأهواء الحكام،
مع وجود ذلك في جميع الأمم والأقوام؟
***
(المؤتمر المصري)
اقترحنا على المؤتمر المصري أن يكون له خمس لجان دائمة في المركز العام
بالقاهرة: لجنة للإدارة، ولجنة للتعليم والتربية، ولجنة للوعظ والإرشاد وإصلاح
حال العامة في دينها ودنياها، ولجنة مالية اقتصادية لحفظ الثروة وتنميتها، ولجنة
خيرية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وبينا كيفية تأليف هذه اللجان وعلمها،
وسننشر ذلك في الجزء الآتي.