للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسلمون والقبط
(النبذة السادسة)

(إنما نطلب حفظ حقوقنا لا إضاعة حق للقبط)
إذا كنت أكتب لأجل ِإيذاء القبط أو التحريض على إيذائهم، أو لأجل محض
مدافعتهم، ومنعهم مما لا أراه حقًّا لهم، فلا حملت بناني قلمًا، ولا حفظت كما
أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ذمة ورحمًا، بل أشهد الله أنني لا أكتب إلا
لأجل الخير والمصلحة دون الإيذاء والمفسدة، ولفوائد إيجابية لا لأغراض سلبية،
وإذا كان المؤتمر المصري يجتمع ليأتمر بتخطئة القبط في مطالبها فقط، فلا خير
في هذا المؤتمر، وأجله أن يكون عمله سلبيًّا فقط.
إنني منذ خبرت حال مصر، رأيت أن للقبط روابط ملية. دون الرابطة
العامة المصرية بها يتعاونون ويتناصرون، وعليها يجتمعون ويتحدون، ولها
يتعلمون ويتربون، وإليها يرجعون. فهم بها أمة كما يقولون. وليسوا عضوًا من
جسم الأمة المصرية، إذا اشتكى عضو من سائر الأعضاء تألموا له بل هم جسم
تام مستقل بمقوماته ومشخصاته القومية. وإنما يتصل بما يجاوره؛ ليتغذى منه
ويمد حياته لا ليمده ويغذيه.
هذا ما رأيت عليه القبط، فأكبرته وحمدتهم عليه.
ورأيت المسلمين على غير ذلك، رأيتهم يتخاذلون ويتفرقون، ويمتص
غيرهم مادة حياتهم ولا يشعرون، تتعادى أحزابهم ويصفون أكثر النابغين فيهم
بخيانة الأمة والوطن. وهو وصف لا ينطبق على أحد منهم، وإنما علتهم الضعف
وأقتل سببيه تخاذل أمتهم، ليس لهم تربية ملية تجمعهم، ولا وحدة في التعليم
تضمهم، وثروتهم عرضة للزوال بإسرافهم، لا يشعر بعضهم بمصاب بعض،
وليس لمجموعهم شرايين ولا أوردة يكون به جسمًا واحدًا يمد بعض أعضائه
بعضًا بالغذاء ودفع الأذى.
هذا ما رأيت عليه المسلمين، وفيهم من النابغين ما ليس في القبط. ليس
عندهم قضاة كقضاتنا، ولا محامون كمحامينا، ولا إداريون كإدارينا، ولا أطباء
كأطبائنا، ولا كتاب ككتابنا، ولا شعراء كشعرائنا. أعني أن النابغين فينا أكثر
وأرقى من النابغين فيهم. ولكنهم أرقى منا في الحياة الملية، والمقومات القومية،
التي يكون بها أفراد الشعب كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى
له عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر، كما وردت الأحاديث في وصف
المؤمنين، وقد فقد المسلمون قوة هذه الصفات التي جعلها الله سر دينهم وآية إيمانهم
فلم يغن عنهم النابغون شيئًا.
هذا التفاوت بين شعبين يشارك أحدهما الآخر في جميع مرافق الحياة تحذر
عواقبه، ولا تؤمن مغبته، أحدهما قوي بالاتحاد والتكافل، والآخر قوي بالكثرة
ضعيف بالتخاذل دأب المتحدين الطمع في سلب مرافق المتخاذلين، وبذلك ساد
بعض الشعوب على بعض، وكثيرًا ما كانت الفئة القليلة هي التي تسود الفئة
الكثيرة، والطامع قد يوغل في حقوق الغافل بغير رفق، والعنف في الإيغال قد
يفضي إلى العنف في الدفاع، فيكون من ذلك ما لا خير فيه للبلاد، فأحببت منذ
سنين أن أنبه المسلمين على ما تصان به حقوقهم، مع حفظ المودة بينهم وبين من
يعيش معهم، فكتبت في ذلك كثيرًا. ولكن المسلمين كانوا في شغل عن ذلك، فيقل
فيهم من قرأ ما كتبت، ويقل فيمن قرأ من فهم، ويقل فيمن فهم من اعتبر، ويقل
فيمن اعتبر من حدث غيره بما أصاب من العبرة. وهكذا شأن الغافلين المغرورين
ينتبهون بالحوادث لا بالأحاديث.
إنني مؤمن، والمؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، ولو
يئست من حياة المسلمين، لما رأيت شيئًا من الخطر على البلاد في استمرار غفلتهم
إلى أن تصير وظائف الحكومة وثروة البلاد في غير أيديهم، سواء أوغلت القبط
في ذلك برفق أو بعنف، فإن الأمراض التي تموت بها الأمم تكون كداء السكتة،
يذهب بحياة المرء وهو لا يشعر بأنه يموت. ولكنني أعتقد أن في مسلمي مصر
حياة ضعيفة، لم تصل إلى درجة التكافل والتضامن، وأن الخير في تقويتها بالدعوة
إلى حفظ المصالح، لا بالدعوة على دفاع المهاجم، وأن هذا لا يكون إلا قبل أن
يغلبوا على مصالحهم، ويروا أنفسهم مسخرين لمن كانوا دونهم، يومئذ يخشى أن
لا يروا في أيديهم إلا سلاح الكثرة، فيستعملونه للضرورة فيما يضر البلاد من
الاعتصابات والفتن، فتلافي ما يخشى في المستقبل مذ الآن هو الذي يحملنا على
هذا البيان.
ما رأيت استحسانًا عامًّا لشيء نشر في الجرائد بعد رد الأستاذ الإمام على
هانونو كاستحسان ما كتبته في هذه الأيام من المقابلة بين المسلمين والقبط. يذكر
لي لك كل من أراه. وكتب إليّ وإلى المؤيد غير واحد يشكرون لي ذلك ويطلبون
المزيد منه، أذكر هذا تمهيدًا لقول بعض هؤلاء الحامدين الشاكرين: لماذا لم تنبهنا
من غفلتنا بمثل هذه المقالات قبل اليوم؟
ولهؤلاء أقول: إنني قد فعلت، وقلما قررت حقيقة في هذه الأيام إلا وقد بينتها من قبل
في المنار أو في بعض الجرائد اليومية، ولكن المسلمين كانوا في غمرة ساهين، لا
يعنون بما يكتب ولا يحلفون به إلا ما يكون عند الحوادث المؤلمة، والصيحات
المزعجة، ثم لا يلبثون أن ينسوا ويعودوا إلى سابق لهوهم وسهوهم، حيث خشيت أن
نكون كما قال شاعرنا من قبل في مثله الذي يشبهنا فيه بالغنم الراعية، تظل غافلة
متمادية في رعيها، حتى إذا ما سمعت نبأة صائح ترتاع وترتفع رؤوسها تاركة
الارتعاء، فإذا سكت الصائح عادت إلى سابق شأنها، أعني بهذا القول ابن
دريد في مقصورته:
نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتمى
إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها
صاحت القبط منذ ثلاث سنين مثل صيحتهم في هذه السنة، فكتبت مقالة في
المنار عنوانها (المسلمون والقبط) كان لها باعتدال الرأي والأدب في العبارة أحسن
الوقع، فنقلها بعض أصحاب الجرائد اليومية، ولخصها بعض آخر، فلم تلبث
القبط أن سكتت صيحتها، وسكنت في الظاهر دون الباطن ثورتها، فنسي
المسلمون ما كان، حتى تجددت الصيحة في هذا العام، بأقوى وأدوم مما كان في
سابق الأعوم.
افتتحت تلك المقالة بهذه الجملة:
(سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم
أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي
أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في
مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما
حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو
أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية، لما وجدوا في
القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنوان خطابته (مصريون قبل
كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوربة، ويقول الجميع: إن المسلمين
في مصر يحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط
بعضهم ببعض؛ لمقاومة النصارى في مصر بل في جميع الأرض) .
ثم بينت نسبة القبط إلى المسلمين في العدد وفي أعمال الحكومة، وأنهم أكثر
فيها من المسلمين، وهم يدعون على ذلك أنهم مظلومون مهضومون، ويطلبون
لأنفسهم سائر أعمال الحكومة التي في أيدي المسلمين، وأنهم يسمون أنفسهم أهل
البلاد، ويُدلون ويفخرون على المسلمين بالانتساب إلى آل فرعون ذي الأوتاد،
الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتل،
وأتاوي معتد، وينكرون أن يكون للمسلمين فيها حق من حيث هم مسلمون فاتحون،
على ادعائهم الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وبينت فيها مواثبتهم
للمسلمين من أضعف جانب يرونه فيهم، وهو تهييج الإنكليز وسائر الأوربيين
عليهم بتهمة التعصب الإسلامي، وكون هذه المواثبة قد تفضي إلى ندم المسلمين
على ما قاموا به من دعوة الوطنية، واعتقاد أنها كانت خسارًا عليهم وربحًا وفوزًا
للقبط، وأنهم إذا خسروا مودة المسلمين، فلا يمكن أن يجدوا عوضًا خيرًا منها؛
فإنهم لا يقدرون على استغلال أرضهم بعد ذلك.
وبينت هنالك أن القبط لا يمتازون على غيرهم من نصارى المصريين
ويهودهم، وإنما ميزهم المسلمون عناية بهم، وبحثت في دين الحكومة الرسمي،
وذكرت مساعدة بعض رجال الدين من الإنكليز لهم، وأن المساواة التي يطلبونها
هي امتياز على المسلمين من وجه آخر.
نصحت للقبط في تلك المقالة نصيحة لو عقلوها وعملوا بها ما وقعوا في
السيئة التي ندموا الآن أن اجترحوها، وقد سبني في هذه الأيام كتابهم في جرائهم
ولو عقلوا قولي لاستبدلوا الثناء بالهجاء، فقد بينت لهم الآن كما بينت لهم من قبل؛
أن المسلمين يغلب عليهم النسيان والتواكل، وأنه لا شيء يحول دون سلب القبط
منهم كل ما في أيديهم إلا هذه الجعجعة بالقبطية والمسيحية التي تدفعهم بالرغم
منهم لمقابلتها بالجنسية الإسلامية، وهذا نص نصيحتي لهم منذ ثلاث سنين:
فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم
في الشكوى من المسلمين والقول بتعصبهم، ولا من سرور بعض الإنكليزية إن كان
ما قيل حقًّا فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين، فهو لا يكون خلفًا
صالحًا لمودتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه،
ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إن استطاعوا. والمسلمون تغلب عليهم
سلامة القلب، فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي
هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غر كريم) أي ليس بذي نكر ولا مكر ولا
خدّاع.
ولولا أنني أحب الوفاق، لما نصحت لهم بهذا. فإنني أعلم أن هذه المشاقّة لا
تزيد المسلمين إلا قوة في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي
أغار عليها، ولكنني أفضل أن يكون تنبيهي لهم بغير هذا:
(أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على
وفاق ووئام مع من يعيش معهم، وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرد على
القبط، ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لكان خيرًا لهم وأحسن؛ إطفاء لتلك الفتنة
وخذلانًا لموقظيها. ولكن لا بأس ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر
الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم الملي المحض من باب بيان الحقيقة
والاعتبار بها، بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب
والتجريح، فضلاً عن الهجر والتقبيح) .
لم تعمل القبط بهذه النصيحة؛ لاعتقادها أن المسلمين قد قضي عليهم، وأنهم
أمسوا مشلولين لا حراك بهم، وزادها غرورًا أن رأت المسلمين نسوا تلك الغارة
الشعواء، ولم يأخذوا حذرهم من مثلها، ولا سمعوا نصيحتي بإحصاء الموظفين؛
لبيان أن القبط غابنون غير مغبونين، فها هم أولاء قد استدركوا في هذه المرة ما
فاتهم في الغابرة، فكانت كرة القبط كرة خاسرة.
إنني على تنبيهي للمسلمين، وحرصي على حفظ مصالحهم ومرافقهم،
ورغبتي في ترقيتهم، أجري على ما تعودت من المحافظة على مودة كل من يعيش
معهم، ويشاركهم في أوطانهم، ولهذا قلت: إنني أحب نصحهم بغير هذه الوسيلة؛
ولذلك أشرت عند الحركة الأولى إلى ما يسكنها، وقد سكنت وأبت القبط إلا أن
تعود إلى تحريكها، وثبت لنا أن المسلمين لا ينتبهون إلا بمثل هذه الصيحات
المنكرة في وجوههم.
نبهت قبل هذا على النسبة بين المسلمين والقبط في مصر، وبينهم وبين
غيرهم في الأقطار الأخرى بمقالات اجتماعية شخصت الحال تشخيصًا، وذكرت
بما يجب تذكيرًا. وأنَّى للغافل الذكرى؟ كتبت في الجزء الأول من مجلد المنار
الثامن الذي صدر في المحرم سنة ١٣٢٣ (مارس سنة ١٩٠٥) مقالاً عنوانه
(حياة الأمم وموتها) ، عرفت فيه حياة الأمة بأنها أثر روح يسري في أفرادها،
فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده،
فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في
البدن يكن سبب حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله، وقارنت بين
حياة الأفراد وحياة الأمم، وبين حياة الأجسام وحياة النفوس، وضربت المثل لأمة
تموت بالوارث المسرف، ولأمة تحيا بالتاجر المقتصد، ذلك ينقص ماله الكثير كل
يوم، وهذا يزداد ماله القليل كل يوم. وأول ما يخطر في بال المصري في هذا
المقام ورثة شريف باشا وأجراؤهم وخدمهم من القبط، أولئك أضاعوا ثروتهم
الواسعة فصاروا فقراء، وهؤلاء امتصوا تلك الثروة فصاروا أغنياء.
قلت في تلك المقالة: (معرفة شؤون الأمم والشعوب أخفى على الأكثرين من
معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح
دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن
تراثها من سلفها أكثر، ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز
عشيرة ونفرًا، وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة التي تموت زمنًا من
الأزمان. فإنه لا يبقى إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا
تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون
إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين.
(يسهل على القارئ في الشرق القريب أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب
التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه
يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد وكثرة المال وقوة الحكم وقوة العلم، ثم يجد
نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق
ويتفرق، فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام. والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو
ويجتمع ويتألف فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل،
والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه
الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو
ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة، فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل
ويحقر ويذل) .
ثم بعد مقارنة أخرى بين شعبين يحيى الكبير منهما ويموت الصغير، فندت
رأي من يجعل للصغر والكبر دخلاً في الحياة والاتحاد بما نصه:
(لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت
عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان
ما نراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم
بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون
ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق
تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون
على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء
منها على المنافع العامة) ... إلخ.
وقد كتبت في تلك السنة (١٣٢٣) مقالة أخرى عنوانها (المسلمون والقبط
أو آية الموت وآية الحياة) كان سببها ما كتبه المؤيد وكتبته جريدة الوطن في مسألة
(التعليم الديني والحكومة) وما طلبه القبط من مساواتهم بالمسلمين، فيما يشترط
في إعفاء حفاظ القرآن من خدمة العسكرية. وذكرت في هامشها أنني (طالما
عزمت على كتابة مقالات في المقابلة بين مسلمي مصر وقبطها وبين المسلمين
والنصارى عامة ثم أرجأتها) ، وسبب الإرجاء؛ انتظار الفرص التي تنبه الأذهان
إلى ما يكتب والنفوس إلى العبرة به.
وجملة القول أننا نرى أن القبط يطلبون ما ليس بحق شرعي لهم، وإنما
يطلبونه بقوة الاتحاد الملي وضعف المسلمين وتخاذلهم، ونرى المسلمين تضيع
حقوقهم الشرعية وهم غافلون. ونرى أن القبط قد أيقظوا المسلمين ونبهوهم قبل
الوصول إلى حد اليأس الذي تخشى عاقبته.
ونرى أن بيان حق كل ذي حق ومكان كل من الآخر؛ هو الذي يمكن أن يبنى
عليه الصلح الثابت، والوفاق الدائم، وسنبين في النبذة التالية مكان كل من هذه
الحكومة، وهل هي حكومة إسلامية أم لا؟
((يتبع بمقال تالٍ))