للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


النبذة السابعة
هل الحكومة المصرية إسلامية أم لا؟
إنني بحثت وأبحث في مقالي هذا عن الحقيقة الكائنة لا عن الرغيبة التي أحب
أن تكون، والعاقل هو الذي يحب جلاء الحقائق، وبيان الواقع الكائن، ويستفيد
منه عبرة، ويزداد بصيرة، فيسلك إلى مقاصده في طريق النور لا طريق الظلمة.
ولو تدبرت القبط هذا لكافأتني جرائدها بالحمد والشكر، لا بما جاءت به من السب
والهجر.
من هذه الحقائق التي أبينها في هذه النبذة وقد أشرت إليها من قبل أن
المسلمين يعدون أنفسهم أمة جنسيتها الإسلام، وأنه يجب أن يكون لهم حكومة
إسلامية، وأن جنسيتهم هذه واسعة عادلة لا تفرق في العدل بين المسلم وغيره،
وذات سماحة وحرية، لا تمنع أهلها أن يشاركوا غيرهم فيها وفي جميع مرافق
الحياة، كما ولوا القبط في القديم والحديث إلى هذا اليوم أكثر أعمالهم في الحكومة،
وكذا في عقارهم وأرضهم وأوقافهم.
بالغوا في التسامح وأسرفوا في الجود والسماحة في أيام قوتهم، وقنعوا من
السلطة باسم السيادة وكونهم هم المعطين وغيرهم هو المعطى، حتى إذا ما حل بهم
الضعف صار ما أعطوه للأجانب حقوقًا وامتيازات يستعملون بها عليهم، ويزيدون
فيها بقوتهم ما شاءوا، ويفسرونها كما أرادوا. وقد كان هذا بتكافل الدول القوية
واتحادها بالتدريج، فأذاقوا المسلمين مرارة تفريطهم لقمة بعد لقمة، وجرعة في إثر
جرعة، فتجرعوه كارهين مكرهين، كما بذلوه من قبل راضين مرضيين.
وأرادت القبط أن تقيس نفسًا على الدول الكبرى، فتسمي ما سمح لها به
المسلمون حقوقًا واجبة، وتزيد فيها ما تشاء، فأنشأت تطلب لنفسها الزيادة فيما
سمته حقوقًا وإزالة ما بقي للمسلمين من امتياز إسلامي بمشاركتها لهم فيه. وقد كان
هذا مما يسيغه المسلمون المساكين جرعة بعد جرعة، كما أساغوا تلك الامتيازات
مع الاعتراف لهم بأن الحكومة حكومتهم. ولكن أبت جرائد القبط ومؤتمر القبط إلا
أن تنازع المسلمين اسم السلطة كما نازعتهم معناها. وأنها لإحدى الكبر التي لم يئنْ
للمسلمين في مصر أن يسيغوها مختارين.
مضت سنة الله في أهل السيادة الذين يضيعون سيادتهم بسوء تصرفهم أن
يكون آخر ما يهتمون به الأسماء والألقاب والرسوم والشارات الظاهرة، كما هو
معروف في تاريخ الشرق والغرب.
دع ذكر ملوك الطوائف وأمراء المسلمين من الأندلس إلى فارس والهند،
واعتبر بحال أمراء جبل لبنان من مسلمي الشيعة، تجدهم في آخر عهدهم بعد أن
ملكت النصارى حتى من خدمهم وإجرائهم معظم ما كان لهم، كانوا يقنعون من
الامتياز باللقب ولبس الأحذية الحمر التي كانت خاصة بهم من دون الفلاحين، حتى
كان الشيخ منهم يكون له الحقل أو الكرم الواحد من الأرض والعقار، فيهدي إليه
الفلاح النصراني حذاء أحمر (جزمة) ويظهر له أنه جيء به، فلم يرد أن يلبسه
تأدبًا معه فيهبه الشيخ إياه، وربما كان آخر ما يملكه.
أصابت القبط موضع التأثير من قلوب المسلمين بقولها: إن حكومة مصر
ليست إسلامية (أو حركت الوتر الحساس من نفوسهم كما تقول الإفرنج) وقد جعل
هذه الدعوى خطيبهم في مؤتمر أسيوط قضية مسلمة، فحمد الله وحمد نية
المصريين أن كان الذين يقولون منهم: إن هذا البلد إسلامي لا يتجاوزون عدد
الأصابع، وهذا ألطف ما قالوه في هذا الباب؛ لأنهم قالوه بعد العلم بأن المسلمين
تألموا من مؤتمرهم وعزموا على إنشاء مؤتمر إسلامي.
نعم إن المسلمين مفتونون بالحكومة في كل مكان، وهذا هو الواقع وإن أضر
بهم في هذا الزمان، فإنه صرفهم عن ترقية أنفسهم، والاعتماد على
استعدادهم ومواهبهم، ألم تروا أن المسلمين بمصر قد أهملوا أمر الأمة، وتركوها
للمرابين والمقامرين والقوادين والخمارين يغتالون ثروتها، ويجنون على دينها
وعرضها وصحتها، وجعل أصحاب الجرائد وغيرهم من المتصدين والمتصدرين
للأمور العامة يجاهدون الحكومة والاحتلال المسيطر عليها، وقد ترك للأمة حريتها
تعمل ما تشاء فلم تعمل شيئًا يذكر، ولماذا؟ لأن الزعماء شغلوها بفتنة السلطة عن
نفسها، حتى إنهم كانوا يعدون من يجب أن يكون همّ الأمة الأكبر في ترقية نفسها
بالتعليم والتربية والثروة خائنًا للأمة خادمًا للاحتلال؛ لأن الواجب عندهم
قبل كل شيء هو إزالة الاحتلال ثم إصلاح الأمة بالحكومة المستقلة.
مقاومة الاحتلال بالسهل الممكن وهو الكلام طبيعي لا اعتراض عليه،
والانتقاد على الحكومة - والحرية واسعة - طبيعي لا بد منه، وإنما المنتقد هو جعل
المسلمين همهم كله في ذلك، وإهمالهم أمر تربية الأمة وتكوينها، وقد سلم من هذا
الانتقاد القبط، فكوّنوا أنفسهم حتى صاروا على قلتهم يقولون (الأمة القبطية) بحق،
وإنما أخطأوا أخيرًا بما نازعوا المسلمين في شكل الحكومة وتصريحهم بأنها غير
إسلامية.
الحق الواقع أن جمهور المسلمين يرون أن حكومة مصر إسلامية وشعورهم
في هذا رقيق جدًّا، يجرحه القول اللطيف؛ ولهذا كان لورد كرومر وهو ذلك
الشجاع الجبار، يتحامى أن يلمس أي شيء له علاقة بالدين، وهذه هي سنة
السياسة عند الفحول المقرمين من أهلها، وعليها جرى الكثيرون في إبقاء بعض أمراء
المسلمين في البلاد التي ملك الإفرنج أمرها كله؛ كسلاطين جزائر جاوه
وباي تونس وبعض النواب في الهند؛ لتتوهم العامة أن حكامها من أبناء دينها.
هذا هو شعور الجماهير، وإني لأعرف من المسلمين من يرى أن الخير
للمسلمين أن تعلن هذه الحكومة رسميًّا أنها غير إسلامية، وأن تترك للمسلمين جميع
شؤونهم الملية يديرونها بأنفسهم كما تركت مثل ذلك للقبط وغيرهم؛ كالمحاكم
الشرعية والأوقاف والمعاهد الدينية كلها.
يرى هؤلاء أن هذا الإعلان إذا حصل، يذهب بغرور المسلمين بهذه الحكومة
التي لا حظّ لهم من عنايتها، ويبد لهم من بعد اتكالهم استقلالاً واعتمادًا على عملهم،
ومن بعد كسلهم نشاطًا وإقدامًا على ترقية أنفسهم، حتى إذا ما ارتقوا وتكونوا
بتوحيد التربية الملية والتعليم الحر، فصاروا أمة واحدة تكون حكومتهم تابعة للرأي
العام المستقل في الأمة؛ لأن هذه هي عاقبة جميع الأمم المرتقية.
تقول القبط: إن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية وحاكمها العام حاكم مدني لا
حاكم ديني، وقد يحتج من يرى هذا بأنها تشرع ما لم يشرعه الإسلام من القوانين،
وتبيح ما لم يبحه من الفسق. وقد يرد عليهم الجمهور بأن خطأ الحكومة في هذه
المسائل كخطأ الأفراد، فكما يخالف أفراد المسلمين هداية دينهم فيزنون ويسكرون،
تخالف حكومتهم هذه الهداية فلا تمنع الزنا والسكر، وحكم الفقه أن المعصية لا
تخرج صاحبها من الإسلام إلا إذا جحد تحريمها، وكان مجمعًا عليه معلومًا من
الدين بالضرورة. وكما تكون الأمة يكون أولياء أمورها لأنهم منها. وقد عرض
لهذه الحكومة من سلطة الأجانب ما جعلها غير مختارة ولا مستقلة في كل شيء
إسلامي، لكن السلطة الأجنبية لم تمح منها كل ما هو إسلامي.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تستولي على مال من يموت من
المسلمين عن غير وارث، ولا تستولي على مال من لا وارث له من القبط وغيرهم
من النصارى واليهود؟
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تتولى هي القضاء الشرعي
الإسلامي في الأحكام الشخصية، وتدع مثل ذلك لغير المسلمين يحكمون فيه بما
يعتقدون؟ إن القاضي الأكبر الذي يتولى السلطة الشرعية العليا من قبل خليفة
المسلمين، يحكم بين الناس بمذهب الخليفة والأمير وكذلك سائر القضاة. ولا يحكم
أحد منهم بين المتخاصمين بأحكام المذهب الذي يتقلدونه، بل جعلوا قضاء مصر
حنفيًّا محضًا كالقضاء في بلاد الترك الحنفية، وأهل مصر شافعية ومالكية إلا
القليل.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا لا تترك للمسلمين أوقافهم كما
تركت للقبط وغيرهم أوقافهم، فإذا كان الخديوي كما تقول القبط حاكمًا مدنيًا فقط،
ونسبة المسلمين والقبط إليه من حيث هو حاكم واحدة، فهل يرضون بكل ما يتفرع
على هذا الأصل، ويجعلون له الحق أن يعطي من أوقاف القبط للمنافع المشتركة
(كالجامعة المصرية) كما يعطي من أوقاف المسلمين.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تضع هي القوانين للمعاهد الدينية
التعليمية كالأزهر وغيره من جوامع العلم الديني، وتولي هي المشايخ عليه ومشايخ
المذاهب، وترفع بعضه في الرتب العلمية الدينية على بعض. ولماذا تولي أئمة
الصلاة وخطباء الجمعة، ولا ترى لها مثل هذا الحق في معاهد الديانة النصرانية
من الأديار والكنائس وقسوسها ورهبانها وسائر رجال دينها، وإنما تكتفي ببعض
الرسوم الدالة على أن هذه الديانة من الديانات التي أقرتها الحكومة في بلادها، ولها
عليها حق الحماية وحفظ الحرية الدينية. وليس لكل أهل دين هذا الحق في كل
حكومة، فالبابية ليس لهم حقوق دينية في بلاد الدولة العثمانية كالنصارى مثلاً.
إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تترك العمل في الأعياد الدينية
الإسلامية، وتحتفل بها احتفالاً رسميًّا كما تحتفل بالمولد النبوي الشريف دون أعياد
القبط وغيرهم، ودون مولد سيدنا عيسى عليه السلام، ومثل ذلك الاحتفال بمحمل
الحج وكسوة الكعبة المعظمة.
لست أعني بهذه الأمثلة والشواهد أنها كلها من الفرائض أو السنن في أصل
الإٍسلام، أو من الأحكام التي فرضها الدين على الحكام، فالصحابة والتابعون
والأئمة المجتهدون لم يحتفلوا بذكرى المولد ولا المعراج، كما تحتفل الحكومات
الإسلامية الآن، وإنما أعني أن هذه الخصائص من آثار كون الحكومة إسلامية.
تريد القبط أن تمحو هذه الخصائص، ومن وسائلها على ذلك طلب ترك
العمل في يوم الأحد، وطلب جعل أموال الحكومة المصرية شرعًا بينهم وبين
المسلمين، لا يتفق شيء منها في مصلحة إسلامية إلا ويتفق مثله في مصلحة قبطية،
وهذا أصل عام، يتفرع منه إذا قبل محو جميع خصائص المسلمين في هذه
الحكومة. وتحتج القبط على حقيقة هذا الطلب بأن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية،
فهذا هو الأصل عندها، فإذا قبلته الحكومة ترتب عليها ما طلبوا أو أكثر مما
طلبوا من الفروع.
وإذا محصنا المسألة وبينا حقيقتها ترى أن المطلوب هو إخراج هذه الحكومة
عن كونها إسلامية بإزالة كل اختصاص للمسلمين فيها، ولكن أبوا أن يعترفوا بهذا
الأصل ويطلبوا هدمه، ورجحوا أن يهدم بهدم ما بني عليه. وهذا من الدهاء والحكمة
؛ لأن طلب إبطال الفروع أخف على النفوس من طلب إبطال الأصول، فإنه من قبيل
الدعوى بالدليل، ولأن من اعترف بالأصل لزمه الاعتراف بالفروع. فما جروا عليه
هو الأقوى والأنفع لهم، وهو أشد على المسلمين في باطنه وحقيقته، وأخف في
ظاهره وصورته.
إن الدولة العثمانية أمّ الحكومة المصرية واقفة أمام مثل هذه المسألة في بلادها،
فقد قام النصارى بعد الدستور يطالبون بنحو ما تطالب به القبط. ولكنهم لا
يزالون يخفون أكثر مما يظهرون، وليس موضوع كلامي إبداء رأيي أو ميلي في
تخطئة هذا أو ذاك ولا تصويبه، وإنما رأيت الأمر غمة على المسلمين والنصارى
كافة، وما رأيت أحدًا يتجرأ على بيان الواقع فأحببت أن أبينه كما هو لا كما يجب
أن يكون.
الواقع أن الحكومة العثمانية حكومة إسلامية قبل الدستور وبعده، وأن الحكومة
المصرية مثلها وتابعة لها في كونها إسلامية، وإنما تختلف في شيء واحد وهو أنها
مستقلة في إدارتها الداخلية بعهد (فرمان) من السلاطين. وأن الاحتلال الأجنبي
مسيطر عليها.
وقد صرّح القانون الأساسي للدولة بأن دينها الرسمي هو الإسلام، وأن
سلطانها هو خليفة المسلمين. والدين في حكومتها أظهر منه في الحكومة المصرية
التي هي تحت سيادتها. فإن شيخ الإسلام هنالك هو العضو الأول في مجلس
النظار وباب المشيخة الإسلامية من أكبر نظارتها. وإذا تناقش مجلس الأمة من
المبعوثين أو الأعيان في مسألة، وقال أحد منهم: إنها مخالفة للدين؛ لا يستطيع أحد
أن يقول: لا ضرر في ذلك، بل يدفعون ذلك بعدم التسليم له، فلو كان جميع
المبعوثين من المسلمين عالمين بالشرع الإسلامي، وأرادوا أن يطبقوا جميع
القوانين على أحكامها لفعلوا بلا معارض.
هذا هو الواقع هنا وهناك، وهو يثقل على القبط وسائر النصارى، وإن كان
إنجيلهم يأمرهم أن يخضعوا لكل حاكم، وأن يعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله،
ويفخرون بأن دينهم فصل بذلك بين الدين والحكومة، ولكنه لا يثقل على اليهود
الجامع كتابهم بين الدين والحكومة، بل يكتفي هؤلاء من الحكومة بأن تمنحهم
الحرية في دينهم وكسبهم، وقد وجدوا من هذه الحرية في بلاد المسلمين أيام قوتهم
وأيام ضعفهم ما لم يجدوه في بلاد أخرى في الحالتين.
النصارى أحرص الناس على السلطة والحكم، وللتربية الإفرنجية في نفوسهم
تأثير عظيم في ذلك، فهم لا يرضون من الحكومتين العثمانية والمصرية تمام الرضى
إلا بالانسلاخ التام من الإسلامية، ولكن هذا الانسلاخ مما لا يستطاع إلا بالتدريج
البطيء في الزمن الطويل، فإن الأشخاص والأقوام والحكومات تتكون كطبقات
الأرض بفعل الزمن الطويل، وما كان كذلك لا يمكن تغييره دفعة واحدة كما قلنا،
ولهذا بينت من قبل أن القبط قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، ومنعهم
بغضهم للعرب أن يهتدوا فيه بحكمة شاعرهم التي سيرها مثلاً وهي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
قلت: هذا لأن ما يطلبونه هم وإخوانهم من سلخ الحكومتين من الإسلامية لا
يمكن أن يحصل إلا بالتدريج وبموافقة المسلمين لهم عليه. وقد وجد من المسلمين
الجغرافيين (أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الجغرافية، وإن لم يعرفوا
ما هو الإسلام) من يرون هذا الرأي، ويسعون هذا السعي بالدعوة إلى حل
الرابطة الإسلامية، والاستعاضة عنها بالرابطة الوطنية أو الجنسية.
وقد صار لأصحاب هذا الرأي أحزاب وزعماء يقودون المسلمين إلى حيث
يجهلون، وترك رجال الدين زعامة الأمة وقيادتها لهم، وهم يعلمون أن منهم الملحد
ومنهم الفاسق الذي يشرب الخمر ويزني ويلوط، ومنهم الذي يحل الربا، وأمثال
هؤلاء الزعماء أحرص على سلخ الحكومة من الدين من النصارى؛ لأنه يتعذر عليهم
أن يجمعوا بين شهواتهم وأهوائهم والزعامة في قومهم وبين الحكومة الإسلامية.
لو صبرت القبط والنصارى في البلاد العثمانية لكفاهم هؤلاء المسلمون
الجغرافيون الأمر، كما بينته من قبل، ألم يروا أنه لا يوجد مشروع إسلامي إلا
ويكونون هم المقاومين له؛ لأنهم يخشون قوة الدين على زعامتهم ووطنيتهم، وإن
كان من قوم لا عناية لهم بالزعامة، ولا يحبون أن يقربوا من نار السياسة، ولكنهم
إذ لم يصبروا، يخشى أن يجيء الأمر على ضد ما طلبوا.
يحسن أن يقنعوا الآن بما لهم في الحكومتين من الحرية الواسعة، وجواز
مشاركة المسلمين في أكثر أعمال الحكومة، أو كل ما لا يختص بالدين منها،
والقبط أجدر بهذه القناعة من غيرهم؛ لأن أكثر أعمال الحكومة الخديوية في أيديهم
وليتدبروا حال الحكومات الأوربية العريقة في الحكومة النيابية، كيف لا تزال على
ندرة المخالفين لشعوبها في دينها تفضل مذهب الجمهور والحكومة على غيره،
حتى إن فرنسا وهي الجمهورية التي صرحت بأنه لا دين لحكومتها، لا يمكن أن
تجعل من اليهود المالكين على أزمة القوة المالية فيها قوادًا للجيش ولا للأساطيل ولا
رؤساء للجمهورية، دع معامتلها لمسلمي الجزائر وتونس.
إن لتصريح القبط وغيرهم بهذه المسألة عواقب تتوقع؛ ولا سيما إذا أجيبوا
إليها:
(منها) تنبيه غيرة المسلمين الغافلين إلى وجوب إقامة حكومتهم لشريعتهم،
ولا يمكن للحكومة العاقلة أن تخالف رغبة الجمهور العظيم من رعيتها إلى رغبة
النزر اليسير ولو فيما ترغب هي فيه.
(ومنها) تصدي الدولة العلية للمداخلة في الأمر باسم الخلافة والسيادة، إذا
أجابت الحكومة بعض المطالب تفريعًا على الأصل الذي تقرره القبط، وهو أنها
غير إسلامية.
وقد سمعنا هذه الأيام صوت مجلس المبعوثين في الآستانة يبحث عن
القاضي الأكبر والقضاء في مصر، ويطالب بالمحافظة على الشرع فيها، وعهد
إلى شيخ الإسلام بالبحث عن ذلك وإيضاح ما يقف عليه للمجلس، وما نظن أن
الحكومة الإنكليزية تحب فتح هذا الباب في هذا الوقت.
(ومنها) أن المسلمين في جميع الأقطار يعدون مصر باب الحرمين
الشريفين ومعهد علوم الدين، فإذا علموا أن حكومتها خرجت عن كونها إسلامية،
يألمون بالطبع، وتتفرج مسافة الخلف بينهم وبين النصارى، وذلك لا يرضى به
محب للإنسانية.
(ومنها) أن الإنكليز يحسبون لسخط رعاياهم المسلمين في الهند وغيرها
حسابًا إذا هم وافقوا القبط على ذلك جهرًا، والمسلمون أشد أهل الهند إخلاصًا لهم
في هذا الوقت.
(ومنها) أن هذا يذهب بكل أمل المسلمين في هذه الحكومة، فيكون علة
لرجوع المسلمين إلى استعدادهم الذاتي واعتمادهم على أنفسهم، وحينئذ يخشى أن
تخسر القبط منهم أكثر مما تربح من الحكومة، وأن يعود الأمر إلى نصابه بقوة
الاتحاد التي فقدها المسلمون باتكالهم على حكومتهم.
(ومنها) أن القبط ترجح على المسلمين رجحانًا ظاهرًا، يخشى أن يترتب
عليه مع تعصب بعضهم لبعض فتن كثيرة، وهذا مما لا ترضى به حكومة في
الدنيا ولا يعقل أن يرضى به الإنكليز.
وصفوة القول أن فتح باب هذه المسألة كان من الخطأ الذي يضر القبط دون
المسلمين، فإنه أيقظ هؤلاء، فإذا استمروا على يقظتهم كان فيه الخير العظيم لهم،
وإذا عادوا إلى غفلتهم كان ضرره على القبط تأخير مطالبهم، وبعدما كان قريبًا
منها عنهم.
نعم.. إن القبط يستفيدون من هذه الحركة اكتناه استعداد المسلمين، فإذا فاز
المؤتمر المصري اضطروا إلى معاملة المسلمين معاملة جديدة، ورضوا أن يكونوا
منهم مكان الأخ الصغير من الأخ الكبير الذي يكون رئيس العشيرة أو بما دون ذلك،
وإذا خاب المؤتمر بسعي المفرقين من المسلمين، علموا أن السيادة في هذه
البلاد ستكون لهم ولو بعد حين.
وسيكون المؤتمر المصري موضع النبذة الثامنة من مقالنا هذا.
((يتبع بمقال تالٍ))