للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


مقدمة مقالات المسلمون والقبط

اقترح علينا أن نطبع مقالات (المسلمون والقبط) في كتاب على حدتها؛
ليسهل تعميم الذكرى بها، ففعلنا وجعلنا لها هذه المقدمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا
آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: ٤٦) .
الإسلام دين الرحمة والعدل، والعلم والعقل. فأما حكومته الإسلامية المحضة
كحكومة الخلفاء الراشدين، ومن كان أقرب إلى سيرتهم كعمر بن عبد العزيز
وصلاح الدين، فهي حكومة لم ير البشر لها مثالاً بأعينهم، ولا في تواريخ من قبلهم
في الجمع بين الرحمة والعدل وحرية الدين والعلم والعمل لمن فتح المسلمون
بلادهم.
وأما حكومات من دون أولئك الكملة من المسلمين التي نشكو نحن من بعض
ملوكها ونصفهم بالظلم، فقد كان ظلمهم وشرهم فيها دون ما عرف من ظلم غيرهم
من فاتحي الملل الأخرى، ولهذا انقرضت جميع الملل والأديان من البلاد التي غلب
النصارى أهلها كأوربة، وبقيت الملل والمذاهب في الممالك التي فتحها المسلمون
إلى هذا الزمن الذي تغيرت فيه طبيعة العمران، وصار من المتعذر على الأقوياء
إكراه أهل الدين على ترك دينهم بالقوة القاهرة، أو إبادتهم كما عامل مسيحيو
أوربة الوثنيين في عامة البلاد والمسلمين في الأندلس وفرنسة.
كان المسلمون في كل أيام قوتهم وسلطانهم، ينوطون الكثير من أعمال
حكومتهم بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها، مع السماح لهم بأن يتحاكموا إلى
رؤسائهم في جميع القضايا التي لا يحبون أن يتحاكموا فيها إلى المسلمين، فكان لهم
حكومة خاصة بهم في البلاد الإسلامية وحكومة مشتركة بينهم وبين المسلمين. كل
هذا من فضل الإسلام وتسامحه، ولا يزال يعترف بذلك المخالفون لنا: بعضهم
يعترف به عملاً باستقلال فكره واحترام اعتقاده [١] ، وبعضهم لإقامة الحجة علينا
في بعض الأوقات كما وقع من بعض القبط في هذه الأيام.
وكان المسلمون يبذلون المعاملة الحسنى لمن يدخل بلادهم من المخالفين،
ويعبرون عنهم بالمعاهدين والمستأمنين، ويعبرون عن الداخلين في حكمهم بأهل
الذمة؛ أي الذين حفظت حقوقهم بذمة الإسلام، والوصايا النبوية بالجميع كثيرة
مشهورة.
لولا الدين الإسلامي لما عرفت العرب الفاتحة تلك الرحمة والعدل والتسامح
التي هي زينة التاريخ، فللدين الإسلامي الفضل في ذلك، ولم تكن تلك القسوة من
الأوربيين (ولا سيما في أسبانية التي جعلها المسلمون جنة أوربة) خالية من حجة
دينية لرؤساء الدين، فإنهم كانوا يرجعون إلى التوراة التي هي أصل المسيحية في
مثل هذه الأحكام دون ظواهر بعض نصوص الإنجيل في الرحمة.
جاء في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع (١٠ حين تقرب من مدينة
لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ١١ فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل
الشعب الذي فيها يكون للتسخير ويستعبد لك ١٢ وإذا لم تسالمك بل عملت معك
حربًا فحاصرها ١٣ وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد
السيف ١٤ وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها
لنفسك، وتأكل غنمية أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ١٥ هكذا تفعل بجميع المدن
البعيدة عنك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم ١٦ وأما مدن هؤلاء الشعوب
التي يعطيك الرب إلهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما) .
ههنا تأمرهم التوراة بإبادة جميع الأحياء المغلوبة حتى النساء والأطفال والبهائم، وفي الفصل ٣٣ من سفر العدد الأمر بطرد سكان الأرض التي يقدرون عليها، حتى
لا يبقى منهم أحد. كأن هؤلاء هم الذين يعجزون عن إبادتهم بالسيف. كل ما سمح به
المسلمون ومنحوه لغيرهم في أيام قوتهم فضلاً وإحسانًا صار في أيام ضعفهم حقوقًا
وامتيازات للأقوياء من الأجانب، يميزون به أنفسهم على المسلمين في ديارهم،
ويؤيدونه بالقوة ولا يعدونه فضلاً للمسلمين، ولا تسامحًا من الإسلام.
هذا شأنهم فيما بقي للمسلمين من البلاد، وأما ما أخذوه من المسلمين فصار
ملكًا لهم أو جعلوه تحت حمايتهم، فلم يبقوا لهم شيئًا فيه من النفوذ ولا المشاركة في
السلطة ولا الحرية. ولكنهم أبقوا في بعض البلاد أشباحًا، حفظوا لها لقبها الأول،
وجعلوها رقية لنفوس العامة الجاهلة، حتى لا يشعروا بأنهم فقدوا ملكهم كما تشعر
الخاصة التي تسهل مراقبتها والسيطرة عليها، وليس لأمير منهم ولا سلطان ولا
نواب أن يستقل بالأمر في شيء ما.
ومنهم من لا يسمح له أن ينظر في ورقة ترسل إليه ولو من أقاربه إلا بعد
أن يقرأها الرقيب الأجنبي السائد على بلاده أو الحامي لها، ولا أن يجتمع بأحد
قريب ولا غريب إلا بحضرة الرقيب، وناهيك بتصرفهم في الأموال والأوقاف
والمساجد في بعض تلك البلاد.
ليس هذا بعجيب ولا غريب، فإن للقوة أن تتحكم في الضعف كما تشاء.
ولكن العجيب الغريب هو ما جرى عليه قبط مصر في هذه السنين الأخيرة، وما
وصلوا إليه في هذا العام من استضعاف المسلمين أشد من استضعاف الدول الكبرى
لهم.
أحسن المسلمون معاملة القبط من عهد الفتح إلى هذا اليوم إحسانًا لم يروا
هم ولا غيرهم مثله من فاتح قط، حتى إنهم على شكواهم من المسلمين في هذه
الأيام يقولون بألسنتهم ويكتبون بأيديهم: أن عمال الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد
جعلوا كل أعمال الحكومة في أيديهم، وأنهم كانوا كذلك في عهد محمد علي باشا
ومن بعده، وأن أكثرها لا يزال في أيديهم، ثم أنهم الآن يدعون أنهم مهضومو
الحقوق؛ لأنهم محرومون من بعض الوظائف العالية التي هم أحق بها وأهلها، وأن
المسلمين ممتازون عليهم بها وبأمور أخرى؛ كتعليم الدين الإسلامي في المدارس،
وترك الحكومة العمل يوم الجمعة، وإنفاقها على المحاكم الشريعة. فيطلبون أن لا
يكون للمسلمين مزية ما في الحكومة الخديوية؛ لأنها في رأيهم ليست حكومة
إسلامية، وإنما هي حكومة مصرية فهم أحق بها؛ لأنهم أعرق في الجنسية
المصرية من سائر المصريين، فما هو في أيديهم منها يجب أن يبقى لهم؛ لأنهم
أخذوه بحق. وما بقي في أيدي المسلمين يجب أن يشاركوهم فيه؛ لأنهم احتكروه
بغير حق. وهذا الذي بقي في أيدي المسلمين من الوظائف هو منصب المديرية
ومأمورية المركز.
سمحت لهم الحكومة بتعليم دينهم في مدارسها، وهو ما لم تعمله حكومة في
أوربة ولا غيرها، فإذا جعلت يوم عيدهم الأسبوعي الديني (الأحد) شعارًا لها في
ترك العمل، وجعلت منهم مديرين ومأموري مراكز؛ عملاً بهذه الحجة التي يدلون
بها وهي أنها ليست إسلامية، فإنه يخشى أن يترتب على ذلك ما تخشى مغبته
وتسوء عاقبته من تعرض السلطان للدخول في ذلك باسم الخلافة، ومن مطالبة
المسلمين للحكومة برفع سيطرتها عن محاكمهم الشرعية، وأوقافهم ومعاهدهم
الدينية. ومن تهيج مسلمي الهند على الحكومة الإنكليزية إذا اعتقدوا أنها هي التي
أزالت الصبغة الدينية من حكومة مصر التي هي سياج البلاد المقدسة ومدخلها؛
ولذلك استنكر رجال الاحتلال مطالب القبط مع عطفهم الديني عليهم، كما استنكرتها
الحكومة.
أما مسلمو مصر وهم السواد الأعظم من أهلها، فكانوا غافلين عن سعي القبط
وتعصبهم غير مبالين به؛ لأنهم مغرورون بكثرتهم، وإن كانت كثرة تشبه القلة أو
تضعف عنها؛ لتخاذلهم وانحلال الرابطة التي توحد بينهم. وهذا هو الذي أطمع
القبط، فظنوا أنهم ينالون كل ما يطلبون من جعل السيادة في هذه الحكومة خالصة
لهم من دون المسلمين. ولا أضرب لهم المثل الذي ضربه لهم بعض الناس (لا
تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع) بل أقول: هذا شأن الأقوياء بالاتحاد مع
الضعفاء بالتفرق والانقسام.
رأت القبط أن تهاجم المسلمين من أضعف جانب فيهم، وهو رميهم بالتعصب
الديني وبغض القبط وسائر المسيحيين، وظلمهم وهضم حقوقهم، واتباع خلفهم في
ذلك إثر سلفهم.
جردوا هذا السلاح في وجوه المسلمين، فذعروا وصبروا على ما لم يتعودوا
من إهانة القبط لهم جهرًا بما ينشر في الجرائد، فقالت القبط: إنهم ماتوا فلا خوف
من مدافعتهم، فلتظهر وحدتنا في مطالبنا وقد فعلوا.
ألف المؤتمر القبطي فحضره ١١٥٠ مندوبًا عن القبط، يحملون ١٠٥٠٠
توكيلاً عن إخوانهم في القطر المصري كله، وافتتح المؤتمر مطران أسيوط التي
سماها بعضهم عاصمة القبط، فأحدث هذا المؤتمر دويًّا في مصر أيقظ المسلمين
ودعاهم إلى تأليف مؤتمر مصري حقيقي؛ للنظر في الحال الاجتماعية العامة،
وتمحيص مطالب القبط وتحسين أمور المسلمين أو المصريين.
ما كان يخطر في بال القبط أن المسلمين يتجرءون على عقد مؤتمر لهم، ولا
أن الحكومة تسمح لهم به إذا شاءوه، فصرحوا بأن الحكومة هي التي أوحت إليهم
بعقده، وأرادوا أن يخيفوا الحكومة بمثل ما أخافوا به الأمة، فأنشأوا يطعنون في
الوزارة ويرمونها بالتعصب الديني وتحريض المسلمين عليهم، ويرجفون بأن
(المسيحية تتعذب) ؛ ليحرضوا كل من في مصر من النصارى على المسلمين،
وحاولوا أن يحملوا نصارى السوريين على عقد مؤتمر لهم فخابوا؛ لأن القبط
يعجزون عن العبث بالسوريين واستخدامهم لأهوائهم.
وأما دسائسهم في إنكلترة فقد ظهرت لكل أحد، ولكن لم تغن عنهم شيئًا؛
لأنها مبنية على التهم الباطلة التي كذبتها سيرة المسلمين الهادئة الساكنة.
لقد سرتني هذه الحركة القبطية؛ لأنها وسيلة لاختبار حياة المسلمين،
وسيكون المؤتمر المصري هو الذي يظهر هذه الحياة ودرجتها، فإذا نجح المؤتمر
وانجلى عن حياة في المسلمين، فلا يسوءني أن تنال القبط ما يقول بعض المعتدلين:
إنه هو الحق الوحيد من مطالبها؛ وهو جواز أن يكونوا رؤساء إدارة كما صار
رؤساء للمحاكم ولغيرها من المصالح. وإذا خاب الأمل (لا سمح الله) في هذا
المؤتمر فلا أسف على شيء آخر يفوت.
كتب الناس في المسألة؛ لأنها أهم ما يكتب فيه بمصر الآن، فألقيت دلوي
بين الدلاء وكتبت مقالاً طويلاً في فصول متعددة نشرتها في المؤيد والمنار. قصدت
بها مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما أمر الله عز وجل، ولا أحسن من بيان
سنة الاجتماع في هذه المسائل والتمييز بين حقها وباطلها؛ ليزداد الباحثون بصيرة
في بحثهم، وتنبيه المسلمين إلى الاجتماع والتعاون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم
ولا يضر سواهم، ولأجل أن تكون مقدمة لبيان رأيي فيما يجب أن يقوم به المؤتمر
من الخدمة العامة لهذه البلاد.
بلغ هذا المقال من التأثير في نفوس المسلمين فوق ما كنت أظن، واقترح
علي كثير من الكبراء والدهماء أن أطبعه في رسالة على حدته فأجبت، وها هو ذا
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا