للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

(السموات السبع وكون الاختلاف رحمة)

(س٢٧، ٢٨) من م. ب. ع. في الأزهر
حضرة العلامة الناصر للكتاب والسنة، سيدي الأستاذ محمد رشيد رضا
صاحب المنار الأغر، نفعني الله والمسلمين بوجوده.
بعد إهداء واجبات التحية والاحترام، أرجو منكم الجواب عن الأسئلة الآتية
في المنار؛ تعميمًا للنفع، ولكم الفضل والشكر وهي:
(١) ما معنى سبع سموات طباقًا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: ٣) وما قولكم في قول أهل الجغرافيا: إن السموات
ليست بأجرام، وإنما هي أهوية، وفسروا السماء بمعناها اللغوي وهو: (كل ما
علاك فهو سماء) ، فهل هذا القول ينافي تلك الآية وآية {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ
فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: ٦) أم لا؟ وقولهم: إن
الأمطار تتكون من ماء البحار. وهل يجوز لهم ولمن تبعهم اعتقاد ذلك كله اعتمادًا
على علمهم وخبرتهم؟ أفيدوني بما هو الحق، وإن سبق لكم البحث عن هذه
المسألة في المنار؛ لأنها منشأ لتكفير من يتجرأ به معتقدًا ذلك.
(٢) ما مراد قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة عن ابن عباس
مرفوعًا بلفظ: اختلاف أصحابي لكم رحمة، فهل لي أن أقول: إن في اختلاف أمته
- صلى الله عليه وسلم- رحمة إنما هو اختلافها قبل مجيء البينة أو لعدم وجودها
أصلاً، وإن وجدت كان اختلافها ضررًا لا رحمة، وكذا يجوز الاختلاف بين
المسلمين قبل مجيء البينة، وإن اختلفوا بعد مجيئها وتبينها كانوا آثمين تاركين
لهداية القرآن لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: ١٠٥) هذا، واقبلوا فائق
سلامي واحترامي.
(المنار) أما الجواب عن السؤال الأول، فقد سبق بيانه في المنار، ونقول
فيه ما يفتح به الآن: السماء في اللغة ما كان في جهة العلو، وأطلق في القرآن
على السقف، وعلى السحاب والمطر، وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب
في فلكها وبروجها، وسماها بناء، وقال: بناها، وبنيناها، والمعنى: ترتيب
أجزائها وتسويتها كما يبنى الجيش والكلام، قال في الأساس: وكل شيء صنعته
فقد بنيته.
وأشار أن منها القربى التي نمتع أبصارنا بزينتها، ومنها البعدى التي لا نراها.
وهو يذكر السماء بلفظ المفرد غالبًا بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا، وهو مجموع ما نراه في
الأفق فوقنا. وذكرها بلفظ الجمع وخصه بسبع في عدة آيات، فالمراد بالجمع هذه
السبع، وعبر عنها بالطباق كما في آية سورة الملك المذكورة في السؤال، وبالطرائق،
فقال في أوائل سورة المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} (المؤمنون:
١٧) وسمى هذه الطرائق حبكًا على التشبيه، فقال في أوائل سورة الذاريات:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: ٧) وهي الطرائق المعهودة في الرمل، فالسبع
الشداد والطباق والطرائق والحبك تنبئ عن شيء واحد معروف عند العرب الذين
نزل القرآن بلسانهم، وقد سمى هذه السبع سموات؛ لأن كل واحدة منها تعلو
المخاطبين، ويصعدون إليها نظرهم من فوق، ووصف بها السماء المفردة في آية
سورة المؤمنين؛ لأن جهة العلو أو الخليقة التي في جهة العلو تشتمل عليها، كما قال
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (البروج: ١) وقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} (الطارق: ١١) والبروج منازل الكواكب، وهي بهذا المعنى أمور اعتبارية كالحبك
والطرائق، والرجع: المطر وهو جسم مادي، يختلف التعبير باختلاف الاعتبار.
ذهب بعض الغافلين الذين يظنون أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يفهمون،
وأقام عليهم الحجة العقلية بما لا يعقلون، إلى أن السماء والسموات من عالم الغيب
كالجنة والنار، فلا تعرف حقيقتها وإنما يجب الإيمان بها إذعانًا لخبر الوحي، ولو
كان الأمر كذلك لما ذكرت في الآيات التي يقيم الله بها حجته على عباده؛ ليعلموا
أنه الخالق المتفرد بالخلق والإبداع، والعلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة
والمشيئة، كما استدل على ذلك بالأرض وما فيها، فقرن السماء بالأرض وبالإبل
والجبال وغير ذلك من عوالم الأرض.
السماء اسم جنس يطلق على جهة العلو وعلى كل ما فيها، والقرائن هي التي
تعين المراد، فإذا سمع العربي قوله تعالى في سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن
يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: ١٥) فهم أن السماء هو سقف البيت؛ لأنه هو الذي يمد
السبب أي الحبل إليه، ويعلق ويربط به من يراد شنقه ثم يقطع.
وإذا سمع قوله تعالى في سورة نوح: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً} (هود:
٥٢) فهم أن المراد بالسماء المطر، وهذا الاستعمال كثير في كلامهم:
إذا نزل السماء بأرض قوم
وإذا سمع قوله في سورة إبراهيم يصف الشجرة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي
السَّمَاءِ} (إبراهيم: ٢٤) فهم أن السماء جهة العلو. وإذا سمع قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: ٢٢) فهم أن السماء هي السحاب. لا لأن الله تعالى وضح
ذلك بقوله في وصف تكوين السحاب: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم:
٤٨) أي فترى المطر يخرج من أثناء هذا السحاب بتحلله منه، بل لأن ذلك هو الذي
يفهمه أهل اللغة من علم منهم بهذه الآية ومن لم يعلم.
ومن قال من الجاحدين كما حكى الله عنهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} (الأنفال: ٣٢) {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} (الشعراء: ١٨٧) لم
يكونوا يعنون بالسماء عالمًا غيبيًّا لا يعرف إلا بالوحي، وإنما كانوا يعنون بالسماء
الجوّ الذي فوقهم.
ذكرت السماء في أكثر من مئة موضع في القرآن بهذه المعاني، ولم يشتبه
أحد من العرب في فهم شيء منها لا مؤمنهم ولا كافرهم. ولم يفهموا من السموات
السبع والطرائق والحبك والطباق إلا الكواكب السبع السيارة ومداراتها في أفلاكها
التي تشبه طرق الرمل؛ يسلكها السفر في الموامي والبوادي، وخصها بالذكر لكثرة
رصدهم لها واهتدائهم بمشارقها ومغاربها في أسفارهم، هذا ما كانوا يعرفونه، وما
يتبادر إلى أفهامهم من إطلاق القول، ولو أريد به عالم غيبي لا يرى ولا يعرف إلا
من الوحي؛ لما ذكر في سياق الاستدلال كما تقدم، ولما قال في سورة الرعد:
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: ١٠) ، وما في معناها؛ كقوله
في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: ٦) ، بل كان يذكر ذلك في سياق الإيمان بالغيب والكلام عن
الآخرة.
وكانوا يسمون السبعة السيارة: الدرايء بالهمز، وقالوا: كوكب دريء بالهمز
فيقال بغير همز. وقيل غير المهموز نسبة إلى الدر، يشبهونه باللؤلؤ في حسنه
وصفائه وفيه نزاع. والدريء بالهمز هو الذي يدرأ من المشرق إلى المغرب، وهو
مضيه ومده. ويسمونها الشهب. وأما الخنس الكنس فالمشهور أنها ما عدا الشمس
والقمر من الدراري؛ لأنها هي تخنس أي تنقبض، وتكنس وتختفي كاختفاء الظبي في
الكناس عند طلوع الشمس. وهي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وقد
اكتشف علماء الفلك في هذا العصر سيارات أخرى بما استحدثوا من مرايا المراصد
المقربة للبعيد. وقال بعض الغافلين: لماذا ذكر الله تعالى تلك السيارات
السبع فقط، وهو يعلم أنه خلق غيرها؟ وقد علمت حكمة ذلك مما تقدم؛ وهي إقامة
الحجة على الناس بما يعرفون دون ما كانوا يجهلون، فإن المجهول لا تقوم به
الحجة، وقد يكون لقوم فتنة وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه
عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ذكره مسلم في مقدمة صحيحه.
***
(حديث اختلاف أمتي رحمة)
قال الحافظ السخاوي: زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له لكن ذكره
الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وأشعر بأن له أصلاً عنده. ونقل تلميذه
الديبع عن السيوطي أن نصر المقدسي ذكره في الحجة، والبيهقي في الرسالة
الأشعرية بغير سند، وأن الحليمي والقاضي حسينًا وإمام الحرمين ذكروه في كتبهم.
وقال ابن حجر الهيتمي في الدرر المنتثرة: حديث اختلاف أمتي رحمة.
الشيخ نصر المقدسي في كتاب الحجة مرفوعًا، والبيهقي في المدخل عن القاسم بن
محمد (من) قوله، وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب
محمد لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (قلت) : هذا يدل على أن
المراد اختلافهم في الأحكام، وقيل: المراد اختلافهم في الحرف والصنائع (كذا)
ذكره جماعة. وفي مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس
مرفوعًا: (اختلاف أصحابي رحمة لكم) قال ابن سعد في طبقاته: حدثنا قيصر بن
عقبة، حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد، قال: كان اختلاف أصحاب
محمد رحمة للناس، انتهى.
(المنار) ما عزاه السخاوي إلى كثير من الأئمة هو الصواب، وكثيرًا ما
نرى المتأخرين يضعفون ويجبنون أمام ما يجدونه في كتب بعض المتقدمين، مما لا
يعرف له أصل فيهابون أن يردوه عملاً بالأصول والقواعد المتفق عليها في رد كل
حديث لا يعرف له سند يوثق به. وهذا البيهقي يقول: إن القاسم بن محمد ذكره من
قوله، فما يدرينا أن بعض الناس سمعه منه، فظن أنه يرويه حديثًا فرواه عنه، فكان
هذا سبب ذكره في الكتب التي ذكروا أصحابها.
وأما رواية الديلمي في مسند الفردوس عن جويبر عن الضحاك فلا تصح،
قال ابن معين في جويبر: هذا ليس بشيء. وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال
النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث. وشيخه الضحاك هو ابن مزاحم
البلخي المفسر، فقد اختلفوا في حديثه، ولكنهم صرحوا بأنه لم يلق ابن عباس ولا
أخذ عنه، فيكون الحديث منقطعًا.
وأما ما عزي إلى عمر بن عبد العزيز فهو لا حجة فيه صح عنه أو لم يصح،
على أن الظاهر أنه يرد اختلافهم فيما لا بد من الخلاف فيه؛ لكونه طبيعيًّا وهو
الخلاف في المشارب والعمل بالدين من الأخذ بالعزائم والرخص، فلو كانوا كلهم
متشددين مبالغين في الزهد والنسك كأبي ذر، وفي العبادة وكبح الحظوظ والشهوات
كعثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، لوقعت هذه الأمة في الغلو والحرج الذي
وقع فيه بعض الأحبار والرهبان من أهل الكتاب من قبل، ولو كانوا كلهم كمعاوية
وعمرو بن العاص في حب النعيم والزينة والرياسة، لكان ذلك فتنة لمن بعدهم في
الدنيا، يسرعون بها إلى ترك الدين، أو يجعلونه ماديًّا محضًا؛ لأن القدوة أشد
تأثيرًا في نفوس البشر من التعاليم القوية.
استكبر بعض العلماء أن يجعل الاختلاف في الدين أو في الإمارة والسلطان
رحمة، وقد ثبت بالشرع والعقل والتجربة أنه نقمة لا تزيد عليها نقمة؛ ولذلك قالوا
إن المراد بالحديث - أي على فرض صحته - الاختلاف في الحرف والصناعات،
ولهم أن يستكبروا ذلك، فإن القرآن ما شدد في شيء كما شدد في الشرك وفي
الاختلاف والتفرق، والآيات في هذا كثيرة تقدم تفسير بعضها وسرد الكثير منها في
التفسير وغير التفسير من المنار، فليراجعه السائل في تفسير آية {تِلْكَ الرُّسُلُ} (البقرة: ٢٥٣) من أول الجزء الثالث، وتفسير {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٥) من الجزء الرابع، ومظانه من المنار.
كان أهون الاختلاف اختلاف الصحابة وغيرهم من السلف في فهم الأحكام،
مع عذر كل منهم لمخالفه، بحيث لم يكونوا شيعًا تتفرق في الدين، وتتعصب كل
شيعة منها لبعض المختلفين، فإن مثل هذا الاختلاف طبيعي في البشر لا يمكن
إنفاؤه كما بيناه في التفسير، وهو من أولئك الأخيار لم يكن نقمة ولا ضارًّا، ولا
يظهر أيضًا كونه رحمة يمن الشارع بها على الناس، ولكن لما جاء دور التقليد
والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت الكلمة، وذهبت الريح والشوكة
إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب ملكنا، وصارت المملكة
الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب، فلا يبالي بهم سائر المسلمين، فأين
الوحدة والأخوة والتواد والتراحم وتمثيل مجموعهم بالجسد الواحد؟ ؟ كل ذلك قد
زال، وكان مبدأ زواله ذلك الاختلاف.
***
(أسئلة من أعرابي بالشرقية)
(س٢٩ - ٣١) من صاحب الإمضاء في مركز (أبو كبير) بالشرقية
حضرة الأستاذ الكبير السيد رشيد رضا المحترم.
نرجو من حضرتكم الإجابة على المسائل الآتية بواسطة منار الإسلام المنير
ولكم الفضل، وهي:
١ - إذا أصيب رجل بالجنون وكان متزوجًا، فبأي عدة تعتد زوجته.
٢ - أصحيح ما يقال: من أن لكل ولي متوفى ملك (كذا) ، ينوب عنه
لقضاء الحاجات التي يطلبونها الناس من الله بواسطة الولي، كما يقولون علماء
الأرياف بذلك.
٣ - من ابتدع الصاري الذي يذكرون الله حوله أهل الطرق؟ وهل يجوز
لهم الذكر برقص وتثنّ وتواجد وزعيق، وترجمة يسمونها بلسان الحال.
ودمتم محفوظين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور محمد قريط
... ... ... ... ... ... ... من قبيلة أولاد علي بناحية فراشه
الجواب
(زوجة المجنون)
إذا جن الرجل تبقى امرأته على عصمته، ولكن يثبت لكل من الزوجين حق
الفسخ إذا جن الآخر. والعدة تتعلق بمعنى في المرأة لا في الزواج، إلا أنها في
الوفاة يجب عليها أن تحد على زوجها، فجعل أجل العدة والحداد واحدًا؛ إكبارًا
لحقوق الزوج والوفاء له. فإذا فسخ نكاح المجنون اعتدت امرأته عدة المطلقة.
***
(دعوى أن لكل ولي ميت ملكًا يقضي الحاجات عنه)
من أصول التوحيد أن يدعى الله تعالى وحده في قضاء الحاجات، وأن يعتقد
أنه هو الذي يقضيها وحده بلا واسطة معين ولا مساعد، وأن له تعالى سننًا في
ربط الأسباب بالمسببات، وقد هدى الله الناس على أن يعرفوا هذه الأسباب
بحواسهم وعقولهم، فأعرفهم بها أكثرهم انتفاعًا بنعم الله تعالى في هذا العالم، ومن
أصول العقائد أن الملائكة من عالم الغيب، وأن الله تعالى لا يظهر على غيبه أحدًا
إلا من ارتضاه من رسله، فيخبرهم بما شاء من نبأ الغيب؛ لهداية عباده كالملائكة
والجنة والنار، ولا يجوز لمؤمن أن يفتات على الله ورسوله في الخبر عن عالم
الغيب، فيقول: إنه يوجد ملك يعمل كذا وملك يعمل كذا؛ لأن هذا من أقبح
الكذب على الله عز وجل. ونحن لم نجد في كتاب الله ولا في الأحاديث الصحيحة
عن رسوله صلى الله عليه وسلم ما يثبت وجود ذلك الملك الذي يقولون: إنه يقضي
حاجات الناس التي يسألونها بواسطة الوالي، على أن هذا السؤال غير مشروع كما
أشرنا إلى ذلك {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ
بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ
تَعْلَمُونَ} (الأعراف: ٣٣) .
(ابتداع الصاري الذي يذكرون عنده)
لا نعرف من ابتدع نصب هذا العمود أو السارية ليجتمع الناس عندها في
احتفالات هذه الموالد، ولا أعرف مثل هذا إلا في هذه البلاد، ولا أدري أيوجد فيما
لا أعرفه من بلاد المسلمين الأخرى أم لا.
(الذكر بالرقص والتثني والتواجد والصياح)
الذكر بهذه الكيفية مبتدع في الملة، وفيه عدة منكرات بينها كثير من العلماء،
وقد عذر بعضهم من يغلبه حالة من الأفراد، فيصدر منه بعض هذه المنكرات بغير
اختيار. ولكنهم لم يعذروا من يتعمدون الاجتماع لذلك، ويأتونه مختارين تعبدًا به
كما هو المعهود لهؤلاء المقلدة المعروفين في هذا الزمان. وقد فصلت هذه المسألة
تفصيلاً في كتابي (الحكمة الشرعية) وذكرت فيها أقوال المؤلفين المنتسبين إلى
المذاهب المختلفة، ولم يقل أحد من العلماء بأن ذلك من الدين، ولا أنه قربة يتقرب
بها إلى رب العالمين، وإنما أباحه بعض المتساهلين، ومن الفتاوى التي ذكرتها
هنالك ما في تنقيح الحامدية لابن عابدين المشهور، قال بعد نقولٍ عن عدة من
العلماء في تلك الأمور كلها (منها قول مصلح الدين اللاري بإباحة الرقص بشرط
عدم التكسر والتثني) ما نصه: والحق الذي هو أحق أن يتبع، وأحرى أن يدان له
ويستمع أن ذلك كله من سيئات البدع، حيث لم ينقل فعله عن السلف الصالحين،
ولم يقل بحله أحد من الأئمة المجتهدين، رضي الله عنهم أجمعين، قال الأستاذ
السهروردي في عوارف المعارف وناهيك به من كتاب، وقد تكلم على السماع في
خمسة أبواب منه بما هو حق التحقيق ولب اللباب؛ وإن أنصف المنصف وتفكر
في اجتماع أهل الزمان، وقعود المغني بدفه، والمتشبب بشبابته، وتصور في
نفسه هل وقع في مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه، وهل استحضروا قوالاً وقعدوا مجتمعين لاستماعه، لا شك بأن
ينكر ذلك من حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنه،
ولو كان في ذلك فضيلة تطلب ما أهملوها، فمن يشير بأنه فضيلة تطلب، ويجتمع
لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
والتابعين، ويستروح إلى استحسان بعض المتأخرين، وكثير يغلط الناس بهذا كلما
احتجّ عليهم بالسلف الماضين، يحتج بالمتأخرين، فكان السلف أقرب إلى عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديهم أشبه بهدي النبي - صلى الله عليه
وسلم - اهـ وهو الصواب الذي نقول به (راجع ص ٩٢٦ من المجلد الأول طبعة
ثانية) .