للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


ألمانيا والعالم الإسلامي

(مترجم عن جريدة الوقت التي تصدر في أرينبورغ من روسيا)
إن العلاقة الودية التي وطدت بين ألمانيا والعالم الإسلامي قد أقامت الجرائد
الروسية وأقعدتها، وأوقعتها في الشبهات الكثيرة، حتى إن سوء الظن جعل جريدة
(نوفيه فريميه) تحسب له ألف حساب، واضطرت أن تبث ما في ضميرها؛
وهو الخوف من أن ألمانيا الآن قد أوشكت أن تضع قدميها على تركستان الشرقية
المحدودة بحكومات الصين وروسيا وإنكلترا، وإذا حصل هذا فكأنها قد وضعت
قدميها في وسط حبل ممتد من مسلمي الصين إلى الحكومة التركية الإسلامية الحرة،
وتقول: إن مذهب كونفوشيوس المشهور في الصين سينقرض، ويقوم مقامه
الإسلام، فتصير حكومة الصين حكومة إسلامية، ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تعلن
حربًا عوانًا مسلحة بالتعصب الإسلامي، فتترك العالم المتمدن في حيرة كبيرة
ودهشة شديدة. وهي تستنبط هذه الأحكام الغيبية من أقوال مكاتب جريدة (التيمس)
في بكين عاصمة الصين. الدكتور موريسون الذي ساح في آسيا الوسطى كلها. وله
اطلاع تام على أحوال مملكة الصين. يقول هذا الدكتور: إن دين الإسلام أخذ
ينتشر في الصين بسرعة غريبة، وإن اتفاق المسلمين واتحادهم فيها قوي جدًّا.
ويورد على ذلك أدلة واضحة عنده، فهو يقول: إن القاطنين في الصين من
تركستان في ولايات غانسو، وصي، وجو، ووان، ويون، وإلانان، كلهم
مسلمون. ويقول في كلامه المؤكد عن شجاعتهم وبسالتهم: إننا لا ننسى أبدًا
يعقوب خان الذي كان في تركستان، وجعلها في سنة ١٨٨٦ حكومة مستقلة تمامًا،
فأقامت بذلك حكومة الصين وأقعدتها، ثم جعلتها في حالة لم ترض بها حكومة
الصين، ولم ينشرح لها صدرها، ثم إن حادثة قبيلة (بانتاي) المشهورة بالشجاعة
التي استولت في ذلك الوقت على القسم الغربي من ولاية (يون ونان) ، وجعلت
مدينة (إلافسو) مقرًّا للملك ليست مما ينسى؛ بل مما يبقى ذكره مركوزًا في
الأذهان على ممر الدهور والأعوام.
ثم يقول: نعم.. نحن إذا نظرنا إلى حالة المسلمين الحاضرة في تلك البقعة
نجدها الآن في هدوء وسكون تام. ولكن إذا لاحظنا العلاقات والارتباطات التي
حصلت الآن بينهم وبين مسلمي تركية نجدها تتزيد وتتقوى يومًا فيومًا. وهم الآن
قد تنبهوا كثيرًا عن ذي قبل، فكثير منهم يقصد بلاد المدينة لأجل التعلم فيها أو
للسياحة فقط، فيأتي منها لأبناء جنسه بمعلومات جمة، ويبث فيهم روح المدنية
والترقي، وهو يؤيد قوله هذا بأقوال العلماء الكبار من الروسيين (فافاسييلف) (و)
(آ. أيوانف) الذين لهم اطلاع كثير على مملكة الصين: وإنهم أيضًا يتشاءمون
كما يتشاءم.
فبناء على رأي ذلك الدكتور موريسون؛ إن ألمانيا قد علمت بتلك الأحوال،
ولم يشعر بها أحد قبلها، وعزمت على أن تضع قدميها على كاشغر أي على
تركستان الصيني، ومن يضع قدميه هناك يمد الحبل منه إلى الطرفين: طرف
تركية من جهة وطرف الصين من الجهة الأخرى.
ومما يوقع تلك الجرائد الروسية في أشد الشبهات، ويضطرها إلى اختلاق ما
يسعهم أن يختلقوه هو ما كان قبل الآن من جعل تبعة الدولة العلية في الصين
تحت حماية سفير فرنسا، وإقامة سفير ألمانيا مقامه في هذا الحين، يدل على ذلك
أن قونصل ألمانيا نشر من مدة قريبة جدًّا إعلانًا قال فيه: بناء على القرار الذي
حصل بين تركية وألمانيا، يجب على كل من يقيم في الصين وهو من تبعة الدولة
العلية أن يكون تحت حماية سفير ألمانيا، وفي ولاية (كاشغر) أصدر أمرًا
بإحصاء عدد تبعة الدولية العلية التي كانت تقيم في ولاية كاشغر، وتسجيل أسمائهم
ومحل إقامتهم فيها.
فجريدة (نوفيه فريميه) تستنتج من ذلك النتائج الآتية تقول: إن ثقة
الأتراك بالنمساويين أقوى من ثقتهم بالفرنساويين، واعتبارهم لهم أيضًا أشد من
اعتبارهم للفرنساويين، فالنمساويون هنا أحرزوا قصب السبق في إستامبول، ولهم
القدح المعلى في الشرق الأدنى والأقصى أيضًا. ثم تشرع في تعداد الفوائد التي
تحصل للنمسويين من جراء دخول تبعة الدولة العلية في الصين تحت حماية سفير
ألمانيا. وفي ظنها أن النمسويين يستفيدون:
أولاً - أنهم يطلعون على أحوال المسلمين هناك في الصين والهند ومسلمي
روسية في آسيا الوسطى.
وثانيًا - أن حكومة ألمانيا تنتهز فرصة حصول المشاجرات والمنازعات التي
تصدر أحيانًا بين حكام وعمال الصين وبين تبعة الدولية العلية؛ لتتداخل في أعمال
حكومة الصين.
وثالثًا - أنها تجذب قلوب مسلمي الصين إلى نفسها.
ورابعًا - أنها توسع تجارتها في الصين الغربي وفي تركستان بواسطة أغنياء
المسلمين الذين يتجرون فيهما.
وخامسًا - أن نفوذ ألمانيا يقوى بذلك في إستامبول أكثر من ذي قبل.
ثم إن هذه الجريدة تنتقم في عدد آخر من ألمانيا وعالم الإسلام جميعًا فقد
رسم فيها الرسم الذي أصفه بما يأتي: صورة الأرض فيها كتاب مكتوب عليه
(الإسلام) وعلى ذلك الكتاب رجل محدودب في زي المسلم له أربع قوائم
كالدواب، وعلى ظهره صورة رجل نمسوي الشكل راكب عليه، إحدى قدميه في
طرف الكتاب والأخرى في طرفه الآخر، وفي فمه (مشتوك) يدخن به. وتحت
ذلك الرسم مكتوب كذا: (ليس الآن في الدنيا شرقان يسميان الأقصى والأدنى،
فالآن قرب الشرق الأقصى والأدنى واتصلا فصارا واحدًا أي شرقًا أدنى فقط) .
فهذه الجريدة تمثل بذلك ألمانيا قد سخرت عالم الإسلام أجمع، وجعلته مطية
لها إلى مقاصدها، والمسلمون قد اغتروا بمخادعتها لهم.
ثم إن اجتماع جمهور عظيم في الآستانة منذ زمن غير بعيد، واحتجاجهم على
روسية في شأن إيران، وعلى إظهار محبتهم لعاهل آلمانيا، وعلى الرجاء في
حمياته لعالم الإسلام قد هيج خواطر جرائد روسية وإنكلترا تهييجًا شديدًا حتى
أقامها وأقعدها. وقد تورمت منه جريدة (روسكي أصلوفا) وقالت: (إن المسلمين
الآن يريدون أن يعرفوا عاهل ألمانيا خليفة لهم) واستهزأت بالمسلمين بعباراتها
السخيفة الممزوجة بالمغالطات الدينية كقولها: (هل يجوز للمسلمين أن يجعلوا لهم
سلطانًا بروتستاني المذهب، وهل يسمح لهم دينهم بذلك؟)
كأن أصحاب هذه الجرائد يظنون أن عالم الإسلام الذي يبلغ عدده ثلاث مائة
مليون نسمة، ليس لهم عقل كعقولهم يميز به صديقه من عدوه الألد، ولا لهم فكر
يتفكرون به فيما يستفيدون منه، ليسوا كما تظنون يا أصحاب هذه الجرائد! بل من
بينهم من يعرفون ما يضرهم وما ينفعهم، وليسوا محرومين من قوة الإدراك التي
يميزون بها الجيد من الرديء والخبيث من الطيب، فإذا نظر عالم الإسلام إلى
روسية بصورة غير صديق له فهذا ليس من المسلمين، بل من الجرائد المشوقات
والمحاولات لتضليل الحكومة الروسية ولإثارة خواطر المسلمين وغيرهم من الملل
غير ملة الروس، مثل جريدة روسكي أصلوقا ونوفي فريميه، اللتين من شأنهما أن
تدوسا النعم التي أمامهما تحت أقدامها، وأن تحاولا صيد ما هو في الهواء. اهـ.
(المنار) بعد أن جاءتنا جريدة (وقت) بهذه المقالة انقطعت عنا، وبلغنا
أن الحكومة الروسية قد أقفلتها هي ومجلة (شورا) ، وهما خير صحف مسلمي
التتار في روسية، وقد علمنا أن ما ذكر في الجرائد من شدة ضغط الحكومة
الروسية على مسلمي التتار في بلادهم من إقفال جرائد ومدارس؛ فسببه سياسة
الآستانة، فإن بعض المفتونين فيها بالأماني الجنسية يلغطون بإظهار الطمع في
اتحاد الترك العثمانيين بتتار روسية وأهل تركستان عامة وجعلهم دولة واحدة قوية،
وقد نصحنا لهم في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة أيام
كنا فيها أن ينزعوا هذه الأمنية من مخيلاتهم، ويحرموا ذكرها على ألسنتهم
وأقلامهم؛ لأن إظهارها يضر بالدولة وبأولئك المسلمين بما يحمل روسية على العود
إلى سياسة الخشونة مع الدولة، وعلى الحذر من مسلمي بلادها والضغط عليهم،
وأين قوة الدولة من قوة روسية والصين الحاكمتين على أكثر من ثلث البشر.
لروسية العذر في الحذر والاتهام بتلافي هذا الأمر، وكيف ترضى أن يطمع
الترك في بلادها، وهي هي التي لم يمنعها من أخذ القسطنطينية إلا أوربة. وقد
زاد حذرها ما هدرت به شقاشق المتهور عبيد الله مبعوث آيدين في الانتصار لدولة
فارس عليها بالاستعانة بعاهل الألمان، وما كان يخشى من مساعدة ألمانية والنمسة
للترك على نفوذهم المعنوي إلى تركستان؛ ليتخذوه وسيلة لترويج تجارتهم
وسياستهم، فأمثال هؤلاء الجاهلين بالسياسة من رجال الآستانة، يجنون بغرورهم
على دولتهم وبلادهم، وعلى إخوانهم المسلمين من غير بلادهم، وما يدرينا أن تلك
الشقاشق كانت من أسباب في اتفاق روسية وألمانية في سياستهما المشرقية؛ بما
كان في اجتماع القيصرين في بوتسدام وهو اتفاق علينا وعلى إخواننا الفرس.
وإنني أنصح لمسلمي روسية أن يتقوا فتنة السياسة ولا ينخدعوا لبعض
الأغرار في الآستانة، ويجتهدوا في ترقية أنفسهم مع تأمين حكومتهم في الظاهر
والباطن من التحيز إلى حكومة أخرى، فإن تحيزهم يضرهم ويضر من يتحيزون
إليه، ودولتنا عاجزة عن حفظ بلادها وإدارتها، وعن إرسال قاض شرعي إلى
مسلمي جزيرة كريد التابعة لها باعتراف الدول (ولكن بالقول دون الفعل) فكيف
تستطيع أن تمد نفوذها إلى بلاد دولة أقوى منها؟
ولو جعل مسلمو التتار وجهتهم العلمية مصر دون الآستانة لكان خيرًا لهم،
فقد أخبرني غير واحد منهم في الآستانة أنهم هنالك في موضع الريبة عند سفارة
حكومتهم، وأن جواسيس السفارة منهم منبثون بينهم، فهذا هو سبب ضغط دولتهم
عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا.
أما ألمانيا فلا نعرف لها إلا حسنة عملية واحدة في مساعدة دولتنا؛ وهي
تعليم جيشها وتنظيمه، وقد سأل بعض المفتونين من رجالنا بفرنسة أن تسمح
لضباطنا أن يتمرنوا في جيشها فأبت. ولو أخلصت دولة أوربية قوية لدولتنا
وللإسلام، وعرفت كيف تستفيد منا، وتفيدنا بالإخلاص لبذت أوربة ودول
الأرض كلها.