للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: شبلي النعماني


الجزية والإسلام
رسالة لشمس العلماء الشيخ شبلي النعماني
أستاذ العلوم العربية في مدرسة العلوم في عليكره (الهند)

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله
محمد وآله وأصحابه أجمعين.
اعلم أن الجزية من أعظم ما تعلق به الأوروباويون في القدح على الشريعة
الإسلامية والحط من شأنها، فمِن ظانّ يظن أن الجزية لم يكن لها عين ولا أثر في
جيل من الأجيال ودولة من الدول، وإنما الشريعة الإسلامية هي التي أحدثت هذه
البدعة وأسست بنيانها ومهدت لها أصولها وأركانها، ومِن زاعم يزعم أن وضع هذه
القاعدة لم يكن إلا إذلالاً لأهل الذمة، وإهانة لهم، فهي آية الذل وسمة الهوان وشعار
الخزي وعلامة العار، حتى إنه هان على كثير من الأقوام الدخول في الإسلام هربًا
عن احتمال الضيم والرضاء بالذل. ولأجل هذا ترى الأوروباويون إذا قرع سمعهم
هذا اللفظ يمجه سمعهم وتشمئز منه نفوسهم. والحق أنهم غير ملومين في ذلك، فإن
من أحاط علمًا بنصوص المتأخرين من الفقهاء يستبين له في أول الأمر أن وضع
أمثال هذه الرسوم أقصى ما يُقصد به إذلال قوم وإرغام أنفهم، مع أن الشريعة
الإسلامية أبعد مجدًا وأرفع شأنًا من أن يمسها عار أو يلحقها عيب، وأبى الله إلا
براءتها عن كل جور وحيف.
ولما رأيتهم يتهافتون في أمثال هذه الأغلاط أردت أن أكشف لهم عن جلية
الحال، حتى لا أترك لنفسهم ريبه ولا شكًّا فنقول: إن لنا في إثبات دعوانا أبحاثًا.
(الأول) : في تحقيق لفظ الجزية والفحص عن مادته وصيغته.
(الثاني) : في تحقيق أن الجزية متى كان حدوثها ومَن أسسها أولًا.
(الثالث) : في تحقيق الغرض الذي كان سببًا لاختيارها في الإسلام.
(الأول) : لَم يتعرض الجوهري ولا المجد لبيان أصله واشتقاقه. ومال
بعضهم (وهم ليسوا ممن يثبت بهم اللغة) إلى أنه مشتق من الجزاء بناءً على أنها
طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه. وهذا ما اختاره الزمخشري في
تفسيره.
أما العارفون بلغة الفرس، فأطبقوا على أن اللفظ فارسي محض، وأن أصله:
كزيت، وأن الجزية إنما هي تعريب له، واستشهدوا في ذلك بورود هذا اللفظ في
كلام شعرائهم على زِنته الأصلية. قال الحكيم سوزني:
كتاب خويش نخوانيم وزو عمل نكنيم ... كه تا كزيت ستانند خودز أهل كتاب
وقال النظامي:
كهش قيصر كزيت دين فرستد ... كهش خاقان خراج جبن فرستد
ونقول: لما ثبت من تصريحاتهم (وهم أعرف بلسانهم) أنها فارسية، فإما أن
يقال: إنها عربية أيضاً كما هو شأن توافق اللغات، وذلك احتمال بعيد لا يُلجأ إلى
أمثاله إلا عند ضرورة محوجة. وإما أن يقال: إنها فارسية الأصل، وإنما سبيله في
تداوله عند العرب سبيل الدعي والدخيل في القوم. وهذا الاحتمال تعاضده قرائن
وأمارات:
منها: العرب خالطوا العجم قديمًا وعاشروهم، فأغاروا على جانب عظيم من
لغتهم واستباحوها وتصرفوا فيها كيف ما شاءوا ولعبوا بها كل ملعب.
وذلك كالكوز والإبريق والطست والخوان والقصعة وغيرها مما أحصاها
الثعالبي في كتابه فقه اللغة. فليس من المستنكر أن تكون الجزية أيضًا من جملتها.
ومنها: أن العرب كانوا قبل الإسلام أصحاب البؤس والشقاء، رعاة الإبل
والشاء، وما ملكوا أرضًا ولا استعبدوا قومًا. فلم يتفق لهم وضع الألفاظ بإزاء
المعاني التي هي من مختصات المدنية والعمران، ولذلك لا تجد في كلام العرب
العرباء ألفاظًا تقوم مقام الوزير والصاحب والعامل والتوقيع والدست وغيرها، ولما
كانت الجزية أيضًا من خصائص الملكية كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها.
ومنها: أن الحيرة (وكانت منازل آل نعمان) كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم
الإتاوة والخراج. ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولاً كما نبينه
فيما سيأتي - يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذاك العهد
وتعاوروا اللغة العجمية بعينها. ومن مساعدة الجد أن اللفظ كان زنته زنة العربي،
فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة، بعد ما أبدل كافها جيمًا صارت كأنها
عربي الأصل والنجار. ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير
غرض، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ، فنحن في
غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث.
(الثاني) : أول من سن الجزية - فيما علمنا - كسرى أنوشروان، وهو
الذي رتب أصولها وجعلها طبقات. قال الإمام العلامة المحدث أبو جعفر محمد بن
جرير الطبري - يذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجزية -: (وألزموا الناس
ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتِلة والمرازبة والكُتاب ومن كان في خدمة الملك،
وصيروها على طبقات اثني عشر درهمًا، وثمانية، وستة، وأربعة؛ بقدر إكثار
الرجل أو إقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق
الخمسين) .
ثم قال: (وهي الوضائع التي افتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد
الفرس) . وقال المؤرخ الشهير أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (وهو أقدم زمانًا
من الطبري) في كتابه (الأخبار الطوال في ذكر كسرى أنوشروان) : ووظف
الجزية على أربع طبقات، وأسقطها على أهل البيوتات والمرازبة والأساورة
والكتاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدًا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز
الخمسين.
وقريب من هذا ما ذكره شاعر العجم ولسانهم فردوسي في كتابه:
(شاهنامه) :
همته بادشاهان شدند انجمن ... زمين را بسنجيدو برزدرسن
كزيتي نهادند بريك درم ... كرايدون كه دهقان نمودي درم
كزيت زبارور شش درم ... بخراستان برهيمن زد رقم
كسي كش درم بود ودهقان نبود ... نبودي غم ورنج كشت ودرود
كزارنده ازده درم تاجهار ... بسالي أزوبستدي كاردار
دبير وبرستنده شهريار ... نبودي بديوان كسي راشمار
ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى،
وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند
والمقاتلة، وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع.
أما المعنى الذي توخاه كسرى في هذا الاستثناء، فبينه العلامة ابن الأثير في
كتابه (الكامل) ناقلاً عن كلام كسرى فقال: (ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتِلة
أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتِلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل
الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم، فحق أهل العمارة
أن يوفوهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم،
ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل
الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم، وتركت على
أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم، ولم أجحف بواحد من
الجانبين.
وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله، فمن
كان يقوم بهذا العبء بنفسه فليس عليه شيء، وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة، وأما
من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث على المخاطرة بالنفس فيحق عليه أن
يؤدي شيئًا معلومًا في كل سنة، يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه. وهذا هو
المعني بالجزية؛ فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا
أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد.
(البقية بعد)
((يتبع بمقال تالٍ))