للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


بحث الاجتهاد والتقليد

فصول من مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول
لابن أبي شامة الفقيه الشافعي

(فصل) وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من
الناس؛ ولكن يقبض العلماء فيقبض العلم، حتّى إذا لم يترك عالمًا، اتخذ الناس
رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها
في تحصيل العلم؛ حفظًا على الناس لما بقي في أيديهم منه، فإن هذه الأزمنة قد
غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا، قد قنع الحريص منهم من علوم القرآن
بحفظ سورة ونقل بعض قراءاته. وغفل عن علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكامه
الشريفة من مبانيه. واقتصر من علم الحديث على سماع بعض الكتب على شيوخ
أكثرهم أجهل منه بعلم الرواية فضلاً عن الدراية، ومنهم من قنع بزبالة أذهان
الرجال وكناسة أفكارهم، وبالنقل عن أهل مذهبه. وقد سئل بعض العارفين عن
معنى المذهب، فأجاب: إن معناه (دين مبدل) ، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ
المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: ٣١-٣٢) ألا ومع هذا
يخيل إليه أنه من رؤوس العلماء، وهو عند الله وعند علماء الدين من أجهل الجهل،
بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود؛ لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا
بابتداعهم في الأصول والفروع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لتركبن
سنن من كان قبلكم ... ) الحديث.
(فصل) والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولاً حاصلاً للصحابة رضي الله
عنهم فمن بعدهم، فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من
كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى، ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره،
وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع، ويقولون للسائل عنها: أكان
ذلك، فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع، ثم نجتهد فيه، كل ذلك يفعلونه خوفًا من
الهجوم على ما لا علم لهم به؛ واشتغالاً بما هو الأهم من العبادة والجهاد، فإذا
وقعت الواقعة، لم يكن بد من النظر فيها.
قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم
يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد
إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة، فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد،
واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا
يعنيه) ، وعن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر:
أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء، لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن،
وفي رواية: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن، فإنه قد قضى فيما هو كائن (قلت)
وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (المائدة:
١٠١) ... إلخ وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول: إياكم
وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها.
(قلت) إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكّام، ولم يأتِ الاجتهاد لغير
الحكام؛ لحديث معاذ: إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسول الله، وإن لم أجد
في سنة رسول الله أجتهد برأيي. لأنه كان حاكمًا، وقوله عليه السلام: أقضي بينكم
برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم، وكذلك قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ
إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ} (الأنبياء: ٧٨) لأنهما كانا حاكمين، فالاجتهاد بمنزلة
الميتة، قال الثعلبي والشافعي: لا يحل تناولها إلا عند المخمصة. والذي ليس بحاكم
ويجتهد برأيه، فمثله كمثل رجل يقعد في بيته ويقول: جاز أكل الميتة لفلان، ويجوز
أكلها لي أيضًا. فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد؛ لأن المجتهد
يخطئ ويصيب، فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابًا وخطأ فتركه أولى
مثل: الشبهات من الطعام، تركه أولى من تناوله.
(وعن) الصلت بن رشد قال: سألت طاووسًا عن شيء، فقال: أكان هذا،
قلت: نعم، قال: الله الذي لا إله إلا هو، قلت: الله الذي لا إله إلا هو، قال:
إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا أيها الناس لا تعجلوا
بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ههنا وههنا، وإن لم تعجلوا قبل نزوله، لم ينفك
المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
تستعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد،
وإنكم إن استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم) ، وكان إذا سئل عن الفتوى يقول:
(اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلّد أمور الناس وضعها في عنقه) ؛ إشارة إلى أن
الفتوى والقضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.
(قلت) بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى، وزادوا عليهم
حتى صاروا ثلاثًا وسبعين فرقة، وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم
من أصحاب النار، كما شهد للعشرة بأنهم من أصحاب الجنة، وقال مسروق: سألت
أبيّ بن كعب عن شيء، قال: أكان بعد؟ قلت: لا. قال: فاصبر حتى يكون، فإذا
كان اجتهدنا لك رأينا، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين
من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يحدث بحديث إلا
ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه. وفي
رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول.
ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله: (تفترق أمتي على بضع
وسبعين فِرقة، أعظمها فرقة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحللون
الحرام ويحرّمون الحلال) ، رواه البزّار في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف
بن مالك الأشجعي عنه صلى الله عليه وسلم، فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين
ومن بعدهم، واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ومن لم يضطر، ووصلت إلى من
بعدهم من الفقهاء، ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها،
فتضاعفت مسائل الفقه، وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم، واختلفوا كثيرًا من
غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل،
وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى، وتعقب بعضهم
بعضًا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف
المختلفة بغير هوى.
ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم
اشتهرت المذاهب الأربعة، وهجر غيرها فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم،
فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حرامًا، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة
الأصلين، وذلك معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: ٣١) فعدم المجتهدون، وغلب المقلدون، وكثر التعصب وكفروا
بالرسول [١] حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم
وليًّا مجتهدًا، حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب
والسنة الثابتة على خلافه، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التآويل البعيدة نصرة
لمذهبه ولقوله، ولو وصل ذلك إلى إمامه الذي يقلده لقابله ذلك الإمام بالتعظيم،
وصار إليه وتبرأ من رأيه مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم، وحمد الله على ذلك.
ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث،
ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، فبدلوا بالطيب خبيثًا،
وبالحق باطلاً، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين،
ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين، يرون أن الأولى
منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها. وأشكال منطقية ألفوها، وقال عمر بن
الخطاب: اتهموا الرأي على الدين. وقال سهل بن حنيف: (اتقوا الرأي في دينكم) وقال عبد الله بن مسعود (يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام) .
(قلت) ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي، ولا قالت النصارى ثالث ثلاثة،
ولا إن الله هو المسيح ابن مريم، ولا اتخذوا لله ولدًا إلا بالرأي، وكذلك كل من
عبد شيئًا من دون الله إنما عبده برأيه، فانظر إلى قول السامري: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي} (طه: ٩٦) وقال عبد الله بن عمر: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم
أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وقال
الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك رأي الرجال وإن
زخرفوه لك بالقول وقال أيضًا: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول
بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغًا عن الله تبارك وتعالى وقال
أيضًا: العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجئ عن أصحاب محمد فليس بعلم
يعني ما لم يجئ أصله منهم. وقال الشعبي: إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد
فضعه على رأسك، وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم وقال سفيان الثوري:
العلم كله بالآثار وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي
ما يفسر لك الحديث وقال أحمد بن حنبل: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند
الضرورات. فكان أحسن أمر الشافعي عندي أنه إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به
وترك قوله. وقال الشعبي: القياس كالميتة إذا احتجت إليها فشأنك بها. قلت ما
أحسن قول القائل:
تجنب ركوب الرأي فالرأي ريبة ... عليك بآثار النبي محمد
فمن يركب الآراء يَعْمَ عن الهدى ... ومن يتبع الآثار يهد ويحمد
وقول بعض المغاربة:
لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار
وقول القائل:
انظر بعين الهدى إن كنت ذا نظر ... فإنما العلم مبني على الأثر
لا ترض غير رسول الله متبعًا ... ما دمت تقدر في حكم على خبر
ولم يختلف المفسرون فيما وقفت عليه من كتبهم في أن قوله تعالى:
{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: ٥٩) تقديره إلى
قول الله وقول الرسول، فيجب رد جميع ما اختلف فيه إلى ذلك، فما كان أقرب
إليه اعتمد صحته وأخذ به، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا
الجهالات إلى السنة، وفي رواية يرد الناس من الجهالات إلى السنة، وهذه كانت
طريقة العلماء الأعلام أئمة الدين، وهي طريقة إمامنا أبي عبد الله الشافعي، ولهذا
قال ابن حنبل: ما من أحد وضع الكتب حتى ظهر خطؤه [٢] أتبع للسنة من الشافعي.
ثم إن الشافعي - رحمه الله - احتاط لنفسه، وعلم أن البشر لا يخلو من
السهو والغفلة وعدم الإحاطة، فصح عنه من غير وجه أنه أمر إذا وجد قوله على
مخالفة الحديث الصحيح؛ الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله ويؤخذ بالحديث،
أنبأنا الفاضل أبو القاسم عمن أخبره الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ أنبأنا
أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت الربيع بن
سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته ودعوا ما قلت. وقال صاحب الشافعي المزني في
أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من
أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه.
أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره، قال
الماوردي صاحب الحاوي: قوله ويحتاط أي كطلب السلف الصالح، يتبعون
الصواب حيث كان، ويجتهدون في طلبه وينهون عن التقليد.
(للكلام بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))