للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: إسماعيل حقي


الدعاء للسلاطين
في الخطب وحكمه شرعًا

ذكر العلامة المحقق الفريد شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي في كتاب
(طراز المجالس) ما نصه:
قال الإمام الغزالي في كتابه المسمى بفاتحة العلوم: لا يحل الدعاء للسلاطين
إلا بأن يقول: أصلحه الله ووفقه للخيرات، وطول عمره في طاعة الله. وأما
الدعاء بطول العمر واتساع النعمة والمملكة والخطاب بالمولى، فلا رخصة فيه؛
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في
أرضه) ، وإن جاوز إلى الثناء وذكر ما ليس فيه، فكاذب منافق مكرّم للظالم،
وهي ثلاث معاص، انتهى.
وأما حكمه شرعًا، فقال أعلم الشافعية الزركشي في كتاب (أحكام المساجد)
قال الشيخ أبو إسحق: لا يستحب. وسئل عنه عطاء فقال: هو محدث، وإنما
الخطبة وعظ وتذكير، وقال القاضي الفارقي: يكره تركه؛ لما فيه من خوف
الضرر بعقوبة السلطان، انتهى. وخالفه من المالكية ابن خلدون فقال في مقدمة
تاريخه: كان الخلفاء يدعون بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرضا
عن أصحابه لأنفسهم، فلما استنابوا فيها كان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر
تنويهًا باسمه، ويدعو له بما مصلحة العالم فيه؛ لأن تلك ساعة إجابة لما قاله
السلف: من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان وأول من دعا للخليفة في
الخطبة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو بالبصرة عامل لعلي رضي الله
عنه، فقال: اللهم انصر عليًّا واتصل العمل بذلك بعده، انتهى.
ومما يدل على أنه سنة بعد اتفاق الناس على العمل به ما في الإحياء قال: لما
ولي أبو موسى الأشعري البصرة، كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه وصلى على
النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لعمر، فقام إليه ضبة العنزي وقال له:
أين أنت من صاحبه أتفضله عليه؟ وصنع ذلك مرارًا، فكتب إلى عمر يشكوه،
فكتب إليه عمر أن أشخصه فأشخصه، فلما قدم عليه ضرب بابه فخرج، فقال له
من أنت قال: ضبة العنزي، فقال له: لا مرحبًا ولا أهلاً، فقال: أما المرحب
فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، بماذا استحللت يا عمر إشخاصي بلا
ذنب؟ قال ما الذي شجر بينك وبين عاملي؟ قال: الآن أخبرك أنه إذا خطب أنشأ
يدعو لك، فغاظني ذلك، وقلت له: أين أنت من صاحبه، فاندفع له عمر رضي
الله عنه باكيًا وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر ذنبي يغفر
لك الله؟ فقال غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر
ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال: نعم.. قال:
أما الليلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرًا خرج ليلاً،
فتبعه أبو بكر، وجعل يمشي مرة من أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن
يساره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر) فقال: يا
رسول الله: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن
يمينك ومرة عن يسارك؛ لآمن عليك، فمشى صلى الله عليه وسلم على أطراف
أصابعه، حتي خفيت آثاره، فلما رأى أبو بكر أنها قد خفيت حمله على عاتقه
وجعل يشتد، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال له: والذي بعثك بالحق لا تدخله قبلي،
فإن كان به شر نزل بي قبلك، فدخل وقال له: ولم ير به شيئًا فحمله وأدخله،
وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فألقمه أبو بكر رضي الله عنه قدمه؛
مخافة أن يخرج شيء منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، فنهشته حية،
فجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألمه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا تحزن إن الله معنا) فأنزل الله طمأنينة السكينة على أبي بكر فهذه ليلته.
وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب وقالوا نصلي
ولا نزكي فأتيته؛ لئلا آلوه نصحًا، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق
بهم، فقال: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ بماذا أتألفهم؟ قُبض رسول
الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه، فكان والله رشيد الأمر، فهذا يومه. ثم
كتب إلى أبي موسى يلومه انتهى.
قال الشهاب: (قلت) : وقد علم من هذا أن الدعاء للخلفاء والسلاطين بصدق
وحق سنة مأثورة لا بدعة مشهورة؛ لما عرفته من فعل الصحابة من غير نكير،
فلا وجه لما قاله الزركشي وغيره وقول ابن خلدون: وأول من فعله ابن عباس في
خلافة علي كرم الله وجهه، ليس بصحيح أيضًا لما سمعته آنفًا، وهذا من نفائس
الفوائد التي لا تجدها في غير هذه المجلة والله أعلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل حقي
(المنار) قال صاحب المهذب وغيره: إن الدعاء للسلاطين مكروه، وقال
بعضهم: لا بأس به، وآخرون أنه مستحب واتفقوا على حظر المجازفة في مدحهم
وصرحوا بأنه يجوز الكلام واللغط عند مدح السلاطين الجائرين، والذي وقع من
بعض الصحابة هو الدعاء المجرد.