للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أرباب الأقلام في بلاد الشام
ومشروع الأصفر

أشرنا في المقالة الأولى التي كتبناها عند إعلان الدستور إلى ما أمامنا من
العقبات والمشكلات السياسية والأدبية والاقتصادية في طريق هذا الطور الجديد من
الحكم , وقد وقع جميع ما كنا نتوقع , ومما أشرنا إليه في تلك المقالة بالإجمال ,
وعدنا إلى بيانه بعد ذلك بالتفصيل قولنا: إن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة
التربية جيدة الإنبات غنية بالمعادن والغابات , قابلة لرواج التجارة والصناعات ,
إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها , وهناك من أبواب الرجاء
للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا الأفراد من الناس. فمن
المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها , والحذر من
قضاء الديون الأجنبية عليها؟ .. إلخ
ثم كان المنار هو السابق لجميع الصحف - على ما نعتقد - إلى التنبيه على
نفوذ اليهود الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي، وما في ذلك من الخطر على
الدولة، حتى أنكر علينا ذلك بعض أصدقائنا المخلصين من المسلمين وغير
المسلمين بمصر، ورد علينا بعض اليهود في جريدة المقطم , ولم تلبث الحقيقة أن
ظهرت بعد ذلك في مجلس الأمة العثمانية أولاً، ثم على لسان الصدر الأعظم حقي
باشا الذي صرح في خطاب له بأن اليهود هم أصحاب المستقبل في هذه الدولة،
حتى في أمورها الإدارية والعسكرية، فهذه مقدمة أولى للكلمة التي نريد أن نقولها
الآن.
مقدمة ثانية: إننا كنا كتبنا مقالاً نشر في المنار وفي بعض جرائد بيروت،
نبهنا فيه إخواننا العثمانيين إلى المشابهة بين ما يستقبلون في هذا الطور الجديد من
الحياة الذي دخلوا فيه، وبين ما سبقهم إليه إخوانهم المصريون من مثله , وهو
طور حرية الأقلام والأعمال , وذكرناهم بأن يعتبروا بحال مصر، ويتقوا ما استبان
لهم ضرره , ويأخذوا ما استبان لهم نفعه , وبينا لهم ما اختبرناه بنفسنا من ضرر
ومفسدة ما جرى عليه بعض إخواننا الكتاب المصريين؛ من رمي بعضهم بعضًا
بخيانة الوطن وإيثار مصلحة الأجانب فيه على مصلحة أهله. فتن بهذه البدعة
بعض المغرورين الطائشين، وغلوا فيه غلوًّا كبيرًا، حتى لم يخجل بعضهم من
التصريح بأن مشروع الدعوة إلى الإسلام وإرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم، وما
فيه من الخير لهم في دنياهم، يراد به خدمة الأجانب من غير المسلمين! ! فكان
مثل هذا الكاتب كمثل بعض أهل الشام الذي اعتاد أن ينبذ من يخالف رأيه بلقب
وهابي، حتى إذا كان يحدث بعض أدباء النصارى، فلما خالفه قال له أنت وهابي! !
فقال له ذلك الأديب: بل أنا مسيحي ما رغبت عن ديني! قال كلا. إنما أنت
وهابي! !
مقدمة ثالثة: الخلاف في الرأي طبيعي في البشر لا بد منه , ونافع لا شك في
نفعه , ولو لم يكن لوجب أن يوجد بالتكلف إن لم يوجد بالطبع , وهو ضار إذا أدى
إلى الشقاق والتفرق، وإن أهل العلم والفضل يتناظرون في المسائل العلمية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيكون أحدهم موجبًا والآخر سالبًا بالمواضعة
والاتفاق , وإن لم يسبق لهم فيه خلاف , وإنما غايتهم بيان الحقيقة بالبحث عن كل
ما يمكن أن يصل إليه الفكر فيها. كذلك تؤلف الأحزاب في المجالس النيابية؛
ليؤيد بعضهم الحكومة في سياستها وإدارتها , وينتقدها البعض الآخر فيهما ,
وغرض الفريقين واحد؛ وهو بيان المصلحة الحقيقية للبلاد. فلا يصح أن يرمى
الحزب الموافق للحكومة بأنه سيء النية، يريد أن يساعدها على الاستبداد بالأمة ,
ولا أن يرمي الحزب المخالف بأنه عدو للدولة.
بعد هذه المقدمات أقول: إنه قد ساءني في ما كان من خلاف جرائدنا السورية
في (مشروع الأصفر) ونبز بعضهم بعضًا بالألقاب , ونزولهم إلى ما لا ينبغي
من الطعن والسباب , حتى جعل بعضهم أشهر الجرائد بالإخلاص موضع الارتياب.
مشروع الأصفر من المسائل الاقتصادية الجديرة بأن يختلف فيها الباحثون،
ولو لم يختلفوا بالفعل لحسن منهم أن يتواطئوا على الخلاف، فيتكلف بعضهم
استنباط كل ما يمكن أن يستنبط له من المضار , وبعضهم استنباط كل ما يمكن
استنباطه من المنافع , ثم يحكموا بعض أهل الروية والعلم في الترجيح أو يدعوه
إلى الحكومة والرأي العام , مناظر الإنسان نظيره، فمن رمى مناظره بالخيانة
وسوء النية كان طاعنًا في نفسه , وموقفًا لها موقف التهمة والتزاحم على المنفعة.
إنني لم أعن بدرس (مشروع الأصفر) الأول؛ لأنني رأيته يتقلب بين ألسنة
المبعوثين وأقلام الصحفيين , فتركته لهم , ولكنني كنت أميل إلى رفضه , ورأيتهم
كذلك يميلون, ولا عنيت به بعد تنقيحه أيضًا , ولا تتبعت ما يجيئني من الجرائد
التي تبحث فيه , فأنا لا أحكم فيه نفسه , وإنما أقول كلمات يصح أن تكون لمن
وعاها من أسباب الحكم الصحيح فيه , وهي:
(١) إن عمران بلادنا يتوقف على استعمال الأموال الأوربية فيها، وزمام
هذه الأموال في أيدي اليهود , وأضرب لذلك مثالاً وقع بمصر؛ وهو أن بعض
الناس قال لتاجر يهودي وقد ساومه في (ساعة) : إنني لا أريد أن أشتري شيئًا
يربح منه اليهود , فقال اليهودي: إذًا لا تشتر شيئًا قط. ولأجل هذا يصانع
الاتحاديون اليهود الصهيونيين وغير الصهيونيين , فإذا كان إخواننا السوريون لا
يقبلون مشروعًا فيه أموال لليهود، فيعلموا أن معنى هذا أنهم لا يقبلون مشروعًا
عمرانيًّا كبيرًا في بلادهم مطلقًا , وبعبارة أخرى لا يقبلون أن تعمر بلادهم.
(٢) إن أهل بلادنا السورية بل العثمانية كلها عاجزون عن القيام
بالمشروعات الكبيرة من زراعية وصناعية وتجارية لا لقلة ما لهم فقط , بل لذلك
ولجهلهم بما تتوقف عليه تلك المشروعات من العلوم والفنون والأعمال الهندسية
والآلية , فهم في أشد الحاجة إلى الاستعانة على تلك المشروعات بأموال الأوربيين
ورجالهم , وإلى الاحتكاك بهم والاشتغال معهم لأجل التعلم منه.
(٣) إن الخطر من الصهيونيين ينحصر عندي في شيء واحد؛ وهو
امتلاكهم للأرض المقدسة، فينبغي لكل من يقدر على حمل الحكومة العثمانية على
منعهم من ذلك أن لا يألو فيه جهدًا ولا يدخر سعيًا.
(٤) إن الخطر من استعمال أموال الأجانب اليهود وغيرهم ينحصر عندي
أيضًا في أمرين: أحدهما غرق الأهالي والحكومة في الديون , وثانيهما تمليكهم
لرقبة البلاد , بأن يكون أكثر الأرض أو الكثير منها لهم.
(٥) إذا عدوْنا هذين الخطرين، فلا يضرنا أن نستخدم أموال اليهود
العثمانيين وأموال الأجانب من اليهود وغيرهم؛ في المشروعات التي تعمر بها
بلادنا بالزراعة واستخراج المعادن وغير ذلك , بل ذلك نافع لنا بل لا بد لنا منه إلا
إذا اخترنا الخراب على العمران , والفقر على الغنى , وماذا نخاف بعد هذا؟
إننا رأينا العبرة في مصر بأعيننا، زادت ثروة هذا القطر بأموال الأوربيين
وأعمالهم أضعافًا مضاعفة , وكثر فيها الأغنياء , ولولا جراءة الفلاح المصري على
الاستدانة بالربا الفاحش وغير الفاحش بغير حساب يوازن فيه بين دخله وبين ربا
الدين الذي يأخذه بغير حاجة شديدة إليه في الغالب، ولولا الإسراف والقمار
والمضاربات لما كان على المصريين دين يذكر بالنسبة إلى ثروتهم العامة , ولكانوا
أغنى شعوب الأرض. على أنهم إذا ثابوا إلى رشدهم , وعني المتعلمون منهم
بالثروة والاقتصاد بعض ما يعنون بالسياسة , فإنه يمكن لهم أن يفوا ديونهم في زمن
قريب , وعند ذلك يكون لهم شأن صحيح في السياسة , أساسه القوة الحقيقية لا القوة
الكلامية.
فاضت أنهار الذهب الأوربي على مصر في زمن لم يكن لمصر فيه مثال
سابق تقيس حالها عليه لشبهها به , ولا منار تهتدي به في حياتها الاقتصادية ,
ولكنها أنشأت تتعلم بالتجارب ونفقات علم التجارب كثيرة , وقد ظهرت بواكر ثمرة
علمها بالتوجه إلى إنشاء النقابات الزراعية؛ لوقاية الفلاحين من غوائل الربا
الفاحش وحفظ ثروتهم , وإنشاء الشركات التجارية والصناعية , وأنشأوا يعملون بما
تعلموا من الأوربيين، فكانوا في أول عملهم كالطفل الذي بدأ يتعلم المشي يمشي
خطوة ويسقط , وقد كنا كتبنا في المنار مقالات ونبذًا في ذلك عنوانها (طفولية
الأمة) .
أما العثمانيون وأخص منهم السوريين، فأمامهم المثال الظاهر والمنار
المضيء وهو مصر , فليعتبروا بحالها , ولا يقبلوا في أمثال هذه الأمور كل رأي ,
ولا يتبعوا فيها كل ناعق , وليحذروا ممن يستميلون العامة إليهم بما يروج عادة في
سوقهم , وهو الإنذار والتخويف وإذاعة السوء، فإن الجمهور يرجح دائمًا خبر
الشر على خبر الخير.
ليس أمر مشروع الأصفر بيد الجرائد التي تراه نافعًا ولا التي تراه ضارًا،
وإنما أمرها إلى مجلس الأمة وحكومتها العليا , فلتقل كل جريدة ما تشاء في بيان
نفعه وضره , من غير طعن ولا لعن , فإذا نفذ بعد ذلك كان أهل البلاد على بصيرة
من الانتفاع به والتوقي من ضرره , وإذا ردته نثلت الكنائن , وفاءت السكائن ,
وكفى الله المؤمنين القتال.
* * *
(مسألة اليمن واتفاق الحكومة مع الإمام)
كنا اقترحنا على الدولة قولاً وكتابة أن تتفق مع الإمام، فتعترف له بزعامته
وتقره على إمامته في قومه حسب اعتقادهم , وترضى منه بما يقبله في مقابلة ذلك
من الاعتراف بسيادة الدولة على اليمن، وكونه هو تابعًا لها. وبعد الاتفاق على
هذين الركنين يسهل الاتفاق على كل شيء , بل نبهنا الدولة على ما هو أعم من
ذلك؛ لتمكين سلطتها في جزيرة العرب كلها بمثل هذا الاتفاق مع أمرائها.
كان من سعيي في مسألة اليمن أن اقترحت على رءوف باشا المعتمد العثماني
بمصر - والفتنة في ريعانها والعسكر يساق إلى اليمن تباعًا - أن يخاطب حكومة
الآستانة في أمر الاتفاق مع الإمام بلسان البرق , وقلت له: إنني موقن بأن الإمام
يرضى بالاتفاق، ويكره أن يحارب الدولة باختياره , وإنني أتجرأ أن أضمن ذلك
بشرط أن تعترف الدولة بإمامة الإمام وزعامته في قومه وعدم نزع السلاح منهم ,
والإمام يعاهدها على عدم الخروج عليها وعلى تأمين البلاد , وما زالت العرب تدين
بالوفاء في الجاهلية والإسلام إلخ ما ذكرته له. فقال: إن الخطابات البرقية وغير
البرقية لا تكفي للإقناع في مثل هذه المسألة، ولعلنا نتكلم فيها عندما نذهب إلى
الآستانة في فصل الصيف.
أما الأصول التي قررتها اللجنة التي ألفت في الباب العالي؛ لأجل وضع
النظام لإصلاح اليمن، فهي على ما نشر في الجرائد عشرة:
(١) تقسيم اليمن وعسير إلى ثلاث ولايات.
(٢) أن يعين مشايخ القبائل حكامًا إداريين أي متصرفين في الألوية
وقائمقامين في الأقضية، ومديرين في النواحي.
(٣) أن يصرف النظر عن أصول المحاكمات التي عليها العمل في الدولة
هنالك، ويستبدل بها محاكم شرعية تحكم في الدعاوي.
(٤) أن تنشأ الطرق والمعابر الكافية، وتؤسس المدارس وأخصها
الابتدائية.
(٥) أن يُمنَح الإمام يحيى رياسة اليمن الروحية.
(٦) أن تبتاع نسافات تحافظ على السواحل، وتكون سدًا دون تهريب
السلاح والذخائر الحربية، وأن تنشأ المعاقل العسكرية اللازمة.
(٧) أن يعفى اليمانيون كافة من الخدمة العسكرية، ويوفد من سورية
وطرابلس أناس يقومون بها هناك , أو يأخذ لها أناس من العربان بالأجرة.
(٨) أن يسمح للعربان بحمل السلاح مؤقتًا.
(٩) أن تلغى الضرائب ويحصر التبغ (الدخان) ؛ لأنه يسهل تهريب
السلاح.
(١٠) أن يعين الولاة من أصحاب الفطنة والحنكة والدراية، ويمنحوا
السلطة الواسعة.
هذه الأصول ليست فيما نرى إصلاحًا كافيًا لليمن، ولكنها ترضي اليمانيين
وتسكن ثأرتهم إلى أن تتمكن الدولة من ضبط السواحل ومنع السلاح ومن امتلاك
أعنة الرؤساء والمشايخ بالوظائف والرواتب , وإعداد القوة العسكرية من غير أهل
البلاد؛ لتنفيذ كل ما تريده الحكومة بالقوة. وبعد هذا يجمع السلاح من الأهالي
ويحملون على كل ما تريده الحكومة منهم ومساواتهم بسائر العثمانيين. ولو كان لنا
أن نقترح لاقترحنا، ولكننا نتمنى أن توفق الدولة إلى اختيار الولاة من الرجال
الموصوفين بما ذكر في الأصل العاشر وبالديانة والإخلاص في العمل , فعلى هذا
جل المعوّل , وما حرك الفتن هنالك في كل زمن إلا أولئك الولاة الطغاة العتاة الذين
يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وسوف نرى ما هي المدارس التي تنشأ هناك، وماذا يعلم فيها , وما هي
الطرق والمعابر التي تنشأ للعسكر وللزراعة والتجارة , وكيف تكون المحاكم ,
ونبدي رأينا في ذلك فإنه هو كل حظ اليمانيين من الإصلاح العملي. وكان من
مصلحتهم ومصلحة الدولة أن يدخلوا في الخدمة العسكرية ويتعلموا في بلادهم ,
ويقوموا فيها بكل ما تحتاجه الحكومة من الجند في الداخل , وينفروا إذا استنفروا
لمحاربة كل عدو مهاجم , وإذا جرى الإصلاح في طريقه المستقيم وزالت مخاوف
القوم، وريبتهم التي غرستها في نفوسهم المظالم السابقة، فإنهم يطلبون ذلك من
تلقاء أنفسهم.
أما مسألة عسير فكادت تكون أعسر من مسألة اليمن وأعقد , وأعصى على
من يحلها وأبعد , فقد عظم فيها نفوذ السيد الإدريسي الروحي، وارتابت فيه الدولة
فحاربته , واستعانت عليه بأمير مكة الشريف حسين المشهور بالروية والحزم
والإخلاص للدولة , فسار إلى عسير بنفسه وبعض أنجاله، يقود جيشًا مؤلفًا من
عسكره الخاص وعسكر الدولة النظامي، فحارب الإدريسي بقوتيه العسكرية
والمعنوية، حتى فك الحصار عن أبها عاصمة بلاد عسير، وأجلى الإدريسي إلى
عصم الجبال فامتنع فيها , والأمير - أعزه الله - كان أجدر من قواد الحروب
بإيثار الصلح والسلام , وحفظ الدماء بالنفوذ الروحي وقوة الخطابة والبرهان , ويقال:
إنه كان يريد هذا، وأن الإدريسي أبى عليه فتح باب الكلام , وقد داوى الأمير ما
جرح بالإحسان إلى أهل البلاد التي دخلها في عسير وإنشاء المساجد والمدارس
لأهلها , ثم عاد إلى الحجاز مؤيدًا منصورًا , ولكن الدولة ترى أن عقدة عسير
العسكرية لما تنحل.
* * *
(الأزهر وملحقاته بعد القانون الجديد)
أتممنا نشر قانون الأزهر والمعاهد الدينية التابعة له في القطر المصري. وقد
قامت قيامة الأحزاب لهذا القانون وقعدت , واجتمعت وافترقت , وصوبت وخطأت ,
وأرى أن المعارضين للحكومة وقد تركوا الباب، فلم يظهروا الاهتمام به في
جرائدهم ولا في مجلس الشورى , وكان بعض أعضاء مجلس الشورى اعترضوا
على جعل حق اختيار شيخ الجامع للأمير، وعلى انعقاد مجلس الأزهر الأعلى
تحت رياسته , فأطلقت جرائد الأحزاب المعارضة على هؤلاء الأعضاء لقب
الحزب الحرّ، واحتفلوا بهم احتفال التكريم.
أما لب اللباب , والأمر الجديد في هذا الباب , الذي سكت عنه رجال هؤلاء
الأحزاب , فكان سكوتهم العجب العجاب , فهو أن الأزهر وملحقاته كانت من
المدارس الحرة المستقلة في أمرها دون الحكومة الواقعة تحت سيطرة الاحتلال ,
فأصبح الآن مصلحة من المصالح التابعة للحكومة كسائر مصالحها , وهذا ما كان
يتقيه ويحذره الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، كما صرحت به في المنار من قبل.
فالمعارضون للحكومة إما أن يكونوا لم يفهموا هذا الأمر الجديد العظيم وذلك
منتهى الجهل والغفلة , وإما أن يكونوا قد اعتقدوا أن إصلاح التعليم الديني في البلاد
لا يمكن أن يكون إلا بيد الحكومة؛ لأن الأمة عاجزة عنه، ومحتاجة إلى مراقبة
الاحتلال بواسطة الحكومة، حتى على شئونها العلمية الدينية , وهذا يناقض ما
يقولون كل يوم , فهل عندهم من وجه ثالث فيظهروه لنا وللأمة كلها إن كانوا
لخدمتها يحسنون.
* * *
(رأي فاضل في الإنفاق النافع والمنار)
جاءنا الكتاب الآتي من ذلك المحسن المستتر الذي تبرع بستة جنيهات مصرية
لإدارة المنار؛ لتوزع بقيمتها نسخًا منه على من تراهم أحق بها , وقد رأينا أنه يود
نشره ليظهر رأيه للقراء، وينبههم إلى القدوة الصالحة، وهذا نص الخطاب:
القاهرة في ٦ أغسطس سنة ١٩١١
حضرة الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله وزاده هدى وتوفيقًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأرسل إلى حضرتكم الجنيه الباقي
من الستة جنيهات التي تخصصت للعشرة اشتراكات في مجلة المنار. ولعلي بذلك
أكون جئت بمثال حسن لمسلمي هذا القطر وسائر مسلمي الأقطار الذين يبغون
الإنفاق؛ حبًا في الخير وتقربًا من الله، فلا يهتدون لسبله القويمة وطرقه الصحيحة
فكم من أموال تنفق في النذور , وكم يضيع منها في المآتم والأفراح , وكم يذهب
في تشييد الحيشان والقبور , وكم يصرف في زيارة المقابر في الأعياد والمواسم ,
وكم في إحياء الليالي للأولياء الميتين في الموالد وغير الموالد , وكم من صدقات
تعطى لغير مستحقيها وغير ذلك , إنما أعني هذا الصنف من المسلمين فقط؛ لأنهم
إنما يفعلون ذلك إجابة لداعي الخير الذي يناديهم، فيلبون نداءه في الجملة، ولكن
بدون أن يقفوا على كنه ما يدعون إليه.
ولا أعني غيرهم من المسرفين المبذرين الذين يلقون أموالهم في مهاوي اللذات
والشهوات والشرور والمضرات , ولا غير هؤلاء من البخلاء الجامدين. لعمري لو
أنفق عشر معشار ما ينفق من هذه الأموال فيما يحييهم من الأخذ بيد المصلحين
ومساعدة ما يقومون به من المشروعات العامة لوجدنا بفضل الله أمة الإسلام غيرها
اليوم , ولزال ما ألم بها من البؤس والشقاء , لا أقول هذا محاباة ولا نفاقًا؛ فإني
أخاطبكم مختفيًا عنكم وعن الناس , بحثت فلم أجد في الدنيا دعوة إلى الحق والإسلام
مثل ما تقوم به مجلتكم، ولا شخصًا حيًّا وقف نفسه لخدمة الإسلام والحق والإنسانية
كشخصكم المحبوب. فهل آن للناس أن يعرفوا شأنكم وشأن مجلتكم؟ ألا إنهم (لو)
عرفوا ذلك لالتفتوا حول لوائكم جميعًا، وكانوا لكم من الناصرين , فصبرًا إن الله مع
الصابرين , والعاقبة للمتقين، والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المصري