للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة الشرقية
تابع المقالات التي نشرناها في المؤيد
بمناسبة حرب إيطالية لطرابلس الغرب
(٢)
(ما يجب على المسلمين والعثمانيين من مساعدة الدولة)
صفة العناصر العثمانية ومكانة السلطة الإسلامية من أهلها
عدوان إيطالية على الدولة العثمانية هو فتح لباب المسألة الشرقية، دفعت إليه
أوربة أشد دولها حماقة وغرورًا وأقلها بصرًا بالعواقب، وإن فرنسة وإنكلترة لا
يطيب لهما مجاورة إيطالية لتونس ومصر لولا الضرورة، وهما تعلمان أن
طرابلس الغرب لا تكون لقمة سائغة لها كما ساغت حماية تونس للأولى واحتلال
مصر للثانية، فسمحتا لها بأعسر اللقم ازدرادًا وهضمًا، وأقبحها أحدوثة وذكرًا،
وأشنعها سُبَّةً وعَارًا. إذا لم يكن مراد أوربة بهذا العدوان فتح باب المسألة الشرقية
بهذا العمل لا يكون أقل من طرق لهذا الباب، وانتظار لما يسمع من الجواب،
فبماذا يجيب العثمانيون والمسلمون؟
العثمانيون مؤلفون من عناصر وملل شتَّى، وقد رضيت دولتهم التركية
العنصر؛ الإسلامية الدين، بأن يكونوا كلهم شركاء لعنصرها فيها، وما قام يحاوله
أولئك الأحداث الأغرار من هضم حقوق عناصرهم، واضطهاد لغاتهم، عرض
يزول بزوالهم، أو زوال سلطتهم المؤقتة، فلا ينبغي أن تؤاخذ الدولة بذنب تلك
الزعنفة التي قذفتنا بها سلانيك وأزمير وأدرنه؛ بل يجب أن يعلم كل عنصر،
وأهل كل ملة أنه لا توجد دولة أوربية تعاملهم بمثل ما تعاملهم به الدولة العثمانية،
وتعطيهم من الحقوق مثل ما تعطيهم هي، فإن الأوربيين قد تألَّهوا بالعظمة
والكبرياء، فهم يرون أنفسهم آلهة للشرقيين، وإن شاركوهم في الدين، فعلى من لم
يعم التعصب الديني قلبه، ولم تفسد الوساوس الأجنبية لبه، أن يفكر بخطر
العبودية، والحرمان من المساواة وحقوق الحاكمية، اللذين يتهددانه بسقوط الدولة
العلية (لا سمح الله تعالى) .
ثم لا يثقل على غير المسلمين من إخواننا العثمانيين أن يكون
المسلمون من غير العثمانيين مشاركين لهم في الغيرة على هذه الدولة
والانتصار لها باسم الإسلام، فإنَّما ذلك مزيد قوة واحترام لدولتهم التي
يعتزون بعزتها ويذلون بذلتها حماها اللهُ تعالى.
الدين الإسلامي دين سلطة وحاكمية، وهذه الصفة من صفاته تكاد
تكون أرسخ من عقيدة التوحيد في نفوس أهله، والمسلمون في مشارق
الأرض ومغاربها يعتقدون أن الدولة العثمانية هي التي تقوم بها هذه الصفة،
وهي سياج عقائد الإسلام وعباداته، وأن ما عرض لها من التقصير في
خدمة الإسلام باستبداد بعض السلاطين وفساد دين بعض الباشوات، أو
بضغط أوربة، هو من الأعراض التي لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها ما
دامت الدولة باقية مستقلة، آخذة على نفسها القيام بمنصب الخلافة.
هذا الاعتقاد سار في جميع الشعوب الإسلامية سريان الدين في
مداركهم وشعورهم، ولبعض همج أفريقية وجزائر المحيط الجنوبي من
الغلو في هذه الدولة وفي سلطانها ما يدخل في باب الخرافات، حتى إن في
البرابرة المقيمين في القاهرة من يعتقدون أن السلطان هو الحافظ لهم في
بلادهم، وهو الذي منع العرابيين وغير العرابيين من الاعتداء عليهم.
هذا الاعتقاد الذي تجهل الدولة كنهه فلم تعرف كيف تستفيد منه قد
أفاد دول الاستعمار، ومهد لها سبيل الاستيلاء على الممالك الإسلامية
الكثيرة والتمكن فيها، بضعف المسلمين في مقاومتهم لها، إذ كان من
أسباب هذا الضعف في كل قطر اعتقاد أهله أنهم ليسوا هم الذين يقيمون
حكم الله؛ وإنما تقيمه دولة الخلافة فهو في أمان واطمئنان، يمكن الالتجاء
إليه في كل آن، فإذا وقعت الواقعة، وبدأت أوربة بتقسيم البلاد العثمانية بالعدوان
المحض، وشعر المسلمون في كل مكان بأن أوربة جعلتهم كاليهود لا دولة لهم ولا
سلطان، فهنالك يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
ليس هذا القول بالتهديد ولا بالوعيد، وليس الذي يقوله جاهلاً بقوة
أوروبة العلمية والصناعية والاجتماعية؛ بل هو يعرفها ويعلم أنها جعلت
بها أكثر المسلمين مسخرين لخدمتها كالسوائم، وأن الجاهلين منهم، وهم
السواد الأعظم لا يعلمون ماذا يعملون، وأن المتعلمين قد أفسدت التعاليم
الأوروبية نفوس الكثيرين منهم، وحلت الرابطة الإسلامية التي تربط كل
قطر من بلادهم منهم بالآخر وهم لا يشعرون، وأحدثت لهم روابط أخرى
بدلاً منها تسمى في مصر الوطنية وفي الآستانة الحاكمية للتركية، وفي
طهران الجنسية الفارسية، وأن من المصريين من صار يفاخر بفرعون
ويعد المسلم السوري والحجازي دخيلاً في أمته، وأن جميع الطبقات
تأثرت بهذا، وأنه وجد في الآستانة أناس يقولون إن أسباب ضعفنا
وتأخرنا جاءتنا من الإسلام، وفي طهران من ينشر تاريخ المجوس
وعظمة ملوكهم، وينفر من الإسلام الذي دفع العرب إلى سلب ذلك الملك
منهم، وأن منهم من استحوذ عليه شيطان الجبن لشدة ما قاسى من
الاضطهاد والظلم، كل هذا أعرفه كما يعرفه الأوربيون الذين زرعوا
بذوره وتعهدوا غرسه بالسقي حتى بدت لهم ثمراته دانيةُ القطوف،
ولكنني أعلم مع هذا كله أن هذه الجنسيات الجديدة لمَّا تَتَمَكَّنَ من نفوس
جميع الذين ابتدعوها، وأن أكثر الذين تدنسوا بها لم يعرفوا أنها مخالفة
لأصول الإسلام وفروعه الذي جعل المسلمين أمة واحدة؛ بل أعضاء
لجسدٍ واحد، وأن الشعور بالخطر على الحكومة الإسلامية كافٍ لمحوِ كل
هذه الوساوس الأوربية من نفوسهم، وزلزال الجبن الذي أَلَمَّ بقلوبهم،
وعودة الرابطة الإسلامية القلبية إلى أشد ما كانت قوةً ومتانةً، وهذا هو
الذي عنيته بقولي: يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى.
إن أوربة قد علمت كنه حرص المسلمين على الحكومة الإسلامية
وشدة نفورهم من الحاكم الأجنبي عنهم، فهي لذلك تخادعهم بنصب أشباح
منهم تجعلهم آلات للحكم عليهم والتصرف بهم، حتى إن إيطالية التي هي
أشد دولها غرارة وغرورًا، وأقلهن علمًا وتجربةً، تبحث عن أمير مسلم
تجعله تمثالاً تحكم طرابلس الغرب باسمه، ولولا أن أوربة تعلم كنه شعور
المسلمين بالحرص على السلطة الإسلامية، لما أطلقت على ذلك لفظ
التعصب الديني وجعلت هذا اللقب مثار البغي والعدوان، والخطر على
نوع الإنسان، تنفر المسلمين منه، وتهددهم بالعقاب عليه، ولكن هل
يخشى أن يكون من سوء تأثير التعصب الإسلامي المخيف أكثر مما كان
من تساهل أوربة وعدلها ورحمتها في دفعها إيطالية إلى اغتصاب مملكة
إسلامية كاملة والسماح لأسطولها بتدمير ما يستطيع تدميره منها ومن
أسطول الدولة العلية؟ كلا إنه لا يوجد عدوان في الأرض أقبح ولا أوضح
ولا أفظع من هذا العدوان.
إنه مهما بالغ كتابنا وكتاب أوربة في إقناع المسلمين بأن أوربة تريد
إزالة ملكهم من الأرض لا لأجل دينهم؛ بل لنفعها المجرد، فلن يستطيعوا
أن يقنعوا بذلك رجلاً واحدًا من كل مليون رجل، نعم إن ضعفنا هو الذي
يجرئهم علينا؛ ولكن حكومات البلقان المسيحية أضعف منَّا فلماذا يعطونها
من أملاكنا، ولا يقتسمون بلادها كما يقتسمون بلادنا؟ يقولون إن إيطالية
حاربت الحبش وأزالت سلطة البابا، ونقول نعم وطالما حارب المسلمون
بعضهم بعضًا، ولو استولت إيطالية على الحبش لما كان ذلك في نظر
أوربة إلا استبدال دولة مسيحية بدولة مسيحية، وأما إزالتها لسلطة البابا
فقد مكنتها أوروبة منه لاعتقادها أن الدين المسيحي لا يعطي البابوات تلك
السلطة الدنيوية التي انتحلوها لأنفسهم، وإن كان فيهم ملحدون ففينا ملحدون،
ومنهم من يريد إزالة سلطة الخلافة ويجعل السلطة دنيوية محضة تقليدًا
لهم، فلماذا يُبَرَّؤُونَ مِنَ التَّعَصُّبِ وَنُرْمَى بِهِ؟
إنني شرحت اعتقاد المسلمين كما هو فما جئتهم بشيء جديد إلا
التذكير بما يجب من إظهار شعورهم وآلامهم من اعتداء أوربة وبغيها على
دولهم الثلاث ومساعدتهم للدولة العلية بكل ما تمكن فيه المساعدة من المال
والحال.
لا أقول: إنه يجوز لهم أن يعتدوا على أحد الأوربيين أو المسيحيين؛ لأن
إيطالية أوربية مسيحية فإن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) وللقتال
طرق قانونية لا ينبغي إلا بها، وهي قتال الجيش المنظم ومن يتطوع
معه فقط، وقد أنبأنا البرق بأن كثيرًا من فضلاء الإنكليز عرضوا على
سفارة دولتنا في لندره أن يتطوعوا لقتال إيطالية معنا، فالمسلمون أولى
بإظهار هذه العاطفة في كل قطر من الأقطار، سواء احتاجت إليهم الدولة أم
لا، فَأَدْعُو المسلمين إلى التطوع.
ثم أدعوهم إلى إظهار شعورهم بالقول والكتابة والمظاهرة
والاحتجاج، وقد رأينا الجرائد الأوربية عندنا ولا سِيَّما الفرنسية منها قد
أظهرت التحيز إلى إيطالية بمدح عدوانها، وإظهار العداوة والبغضاء للدولة
العلية، وكذلك بعض الجرائد المسيحية العربية المتعصبة للدين، وحاشا
الجرائد العثمانية الراقية كالمقطم والأهرام فإنهما قامتا للوطنية العثمانية
بحقها، فلم لا يظهر المسلمون تحيزهم إلى دولتهم وبغضهم ومقتهم
للمعتدين عليها.
ثم أدعوهم إلى مقاطعة التجارة الإيطالية وترك معاملة الطليان بكل
نوع من أنواع المعاملة، وأرى أن كل مسلم في أي بلد يعامل طليانيًّا
معاملة مالية أو زراعية فهو مستحق لِلَعْنَةِ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ.
ثم أدعوهم إلى مساعدة الدولة العلية بالمال وجمعه بالاكتتاب المنظم،
وليتذكروا أن الله تعالى قدم ذكر الجهاد بالأموال على ذكر الجهاد بالأنفس حيث
يمكن الأمران. وأما من عجز عن الجهاد بنفسه فليس له حظ إلا في
الجهاد بماله، فإن تركه فلا عذر له عند الله ولا عند رسوله ولا عند المؤمنين،
ولا يوجد دليل على صدق الإيمان أقوى من بذل المال في سبيل الله ولا
دليل على ضعف الإيمان أو النفاق فيه أقوى من البخل والإمساك عن البذل
في سبيل الله، ومن أهمه أو أهمه حماية الملة وحفظ كيان الأمة والدولة.
إن مسلمي مصر والهند أجدر المسلمين بأن يكونوا أرفع المسلمين
صوتًا وأنداهم كفًّا في الانتصار للدولة العلية؛ لأنهم يمتازون على سائر
المسلمين بثلاث العلم والمال والحرية، وفي هذا المقام نعترف لدولة
إنكلترة بالفضل على جميع دول أوربة التي تضطهد المسلمين وتضيق
عليهم مسالك الحرية الشخصية، وإن كنَّا في مقامٍ نشكو فيه من إقرارها
لإيطالية على عدوانها الوحشي.
للدولة على المصريين حق الأخوة الإسلامية، وحق السيادة السياسية،
ولولاية طرابلس عليهم حق ثالث وهو حق الجوار، فيجب أن يكونوا هم
السابقين إلى كل أنواع المساعدات الممكنة، وهم أهلٌ لذلك، فلا يألون
جهدًا، ولا يدخرون وسعًا، وقد رأينا الاضطراب ظاهرًا على عوامهم
وخواصهم، والغيرة شاملة لجميع طبقاتهم، ويليهم مسلمو تونس فالواجب
عليهم أن يرفعوا أصواتهم، ويمدوا سواعدهم، ويكذبوا هانوتو في زعمه
أن فرنسة قد فصلت ولاية تونس من مكة، أي بترت هذا العضو من جسم
الملة الإسلامية، هذه فرصة يجب أن يغتنموها هم وأهل الجزئر ليظهروا
للعالم الإسلامي كنه صدق فرنسة في قولها إنها بدأت تغير سياستها في
معاملة المسلمين، تغيير تساهل وتحسين، وليعلموا أن الجبن والإحجام في هذا الوقت
لا يزيدهم عند فرنسة إلا مهانةً واحتقارًا، وذلةً وصغارًا، ولا أحتاج إلى تذكيرهم
بقيمتهم في نظر العالم الإسلامي؛ بل العالم الإنساني.
هذا ما أُذَكِّرُ به إخواني المسلمين في الشرق والغرب وأدعوهم مع
سائر الكتاب إليه، ولي معهم قول آخر فيما يجب عليهم من العبرة في هذه
الحادثة، وما يجب أن يعتقدوه في أوربة كلها ويعاملوها به إذا هي بقيت
مصرة على غيِّها في إقرار إيطالية على عدوانها.
وأما أنتم أيها العثمانيون الخُلَّص فإنَّما أَعِظُكُمْ بواحدة أن تقوموا مَثْنَى
وفُرَادَى وجَمَاعَات، ثُمَّ تتفكروا فتجزموا بأنكم مهددون بالزوال، وأنَّ هَذَا
الوقتَ ليسَ وقتَ مطالبةٍ بإصلاح، ولا مؤاخذة على إفساد، وإنما هو وقت
لا يَتَّسِعُ إلا لشيءٍ واحد، وهو تأييد الدولة ببذل الأموال والأرواح.
واعلموا أيها الإخوة الألبانيون أن حكومتنا صائرة بطبعها إلى
اللامركزية فلا تعجلوا، ولا تغوينكم دسيسة أوربة باضطرارها الدولة إلى
إعطاء تلك المطالب للماليسوريين، واصفحوا عن جهل إخوانكم
المغرورين، الذين رجحوا قتالكم وقتال إخوتكم الآخرين، فهذا وقت العفو
والسماح، هذا وقت الاعتصام والاتحاد، فإن الخطر محدق بالجميع،
فيجب أن يتحد الجميع على دفعه.
هذا وإنني أرجو من إخواننا السوريين الكرام في خارج المملكة أن
يظهروا صدق وطنيتهم، ويعرفوا دولتهم بقيمة إخلاصهم، وبأنهم ما
كانوا يشكون إلا من سوء المعاملة، وأنهم حريصون على سلامة الدولة،
ولا يكرهون منها صبغتها الإسلامية؛ لأن هذه الصبغة لم تمنعها من
مشاركتهم فيما يسمونه الحاكمية، ولا من مساواتهم بغيرهم في الحقوق
العمومية، وما كان من التقصير في ذلك فهو من ذنب بعض الأفراد
والإصلاح لا يجيء إلا بالتراخي والتدريج.
... ... ... ... مصر في يوم الجمعة ١٣ شوال سنة ١٣٢٩
* * *
(٣)
(ما يجب من العبرة والاستفادة من هذه الشدة)
لسان الحال أفصح من لسان المقال وأصدق، والحوادث أشدُّ تأثيرًا
في نفوس الناس من الأحاديث والأقوال التي تُلْقَى إِلَيْهِمْ، وحوادث الشدائد
في البأساء والضراء، أَبْلغ في التأثير والعبرة من حوادث النعمة والرخاء،
فيجب على الخطباء والمرشدين أن يغتنموا فرصة نزول البلاء والشدة
لتنبيه شعور الأمة، باستخراج فنون الموعظة والعبرة.
كان الأستاذ الإمام يقول: إن عِلَّةَ هذه اليقظة والحركة الفكرية في
المسلمين هي الحرب الروسية العثمانية الأخيرة، وكانوا قبلها في غفلة لا
يِتَأَلَّمُ قطر من أَقْطَارِهِمْ لِمَا يُصِيبُ قُطْرًا آخر؛ بل لا يكاد يشعر بمصابه،
فقد دخل الإنكليز قبلها بلاد الأفغان محاربين فاتحين ولم تبالِ بذلك الآستانة ولا
مصر، بل ولا الهند ولا إيران جارتا تلك الإمارة، فتلك الحرب هي التي
أيقظت المسلمين هذه اليقظة على ضعفها بانتصار الروسية عليها،
وبلوغ الجيش الروسي ضواحي عاصمتها.
وأعرف كثيرين من أحرار العثمانيين يعتقدون أن انتصار الدولة
على اليونان في حربها الأخيرة كان شرًّا مِنَ الانكسار الذي كانوا يتمنونه
للقضاء به على استبداد عبد الحميد، فهم يقولون: إن ذلك الانتصار هو
الذي كان سبب رسوخ استبداد ذلك المخرب لبناء الدولة، ولولاه لفاز
طلاب الإصلاح بإعلان الدستور قبل الوقت الذي أعلن فيه بسنين كثيرة.
هذا القول معقول وقد بَيَّنَ لنا كِتَابُ اللهِ تعالى ما كان في انكسار
المؤمنين مع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحد من الفوائد، وما كان
من تمحيصه لهم وإرشاده إياهم إلى تدارك ما فَرَّطُوا فيه بغرور بعضهم
في الانتصار.
إن دول أوربة تعلم من فوائد الشدائد ما لا نعلم، فهي تحاول أن تحول بيننا
وبين الانتفاع بما ننزله بنا منها، فلا تقطع منَّا عضوًا إلا بعد تخدير أعصابِنَا،
وإبطال شعورنا، بنحو ما يسميه الجراحون عملية التبنيج، فيسمون
البغي والعدوان والفتح والتمليك بغير أسمائها هزؤا بنا، وضحكًا وسخريةً
مِنَّا، حتَّى إنَّ إيطالية تريد بعد هذا البغي والعدوان المشوه أن تسخر
من الدولة والأمة العثمانية بتسمية امتلاكها لطرابلس احتلالاً تحت سيادةِ
تركيا، وأن تدفع للدولة دريهمات تسميها ثمنا أو أجرة أو خراجا لتلك
المملكة الإسلامية العثمانية ليسخط العثمانيون والمسلمون على الدولة
وييأسوا منها.
إن أخذ إيطالية لطرابلس بالقوة القاهرة لبعدها عن مركز قوتنا أشرف
للدولة وأنفع للأمة من أخذها بثمن بخس، وكل ما تباع به الأوطان فهو
بخس، وفيه من الخسة والضرر لإيطالية بقدر ما فيه من الشرف والفائدة
لنا.
لا عار على من يشتري ملك غيره، ولكن العار الكبير على من
يختلسه اختلاسا عند غيبة من كان يحميه، ولا يغني الأمة مال قليل أو
كثير نأخذه مع الإذلال والإهانة وإضعاف رجائها في الحياة، وإيئاسها من
العزة والشرف، ولكن الأمة تغني وتتسع ثروتها بالمنبهات القوية التي
تعرف بكيد أعدائها وغدرهم، وتقوي شعور الشرف والإباء فيها، وتحفز
همتها إلى اتخاذ جميع الوسائط لحفظ الموجود، ورد المفقود على أن
العثمانيين الصادقين، وغيرهم من المسلمين الغيورين، سيبذلون للدولة
من الإعانة لحفظ شرفها أكثر مما تبذله عدوتها لإضاعته.
علمت من الثقات في عاصمة دولتنا أعزَّها الله تعالى أن بعض
المتفرنجين المارقين الذين نفثوا سموم العصبية الجنسية الجاهلية فيها،
يميلون إلى بيع أوربة بعض الولايات العربية التي في أطراف المملكة
كطرابلس وجنوب بلاد العرب لأجل أن يرقوا بثمنها ولايات الرومللي
والأناضول، وما يتصل بها من البلاد الخصبة ويجعلوها مركز قوة الدولة،
فتكون لهم دولة صغيرة قوية كدول أوربة في كل شيء، لكن بشرط أن
يكون ذلك في غمرة من الحوادث يظهرون للأمة فيها أن الدولة فعلت ذلك
مضطرة لا مختارة، وأنها افتدت رأس الدولة وقلبها ببعض أصابع من
يديها أو رجليها، أو بما هو دون ذلك عندهم.
قد اضطررت إلى بيان هذه المسألة الآن اضطرارًا لنفطن لها الأمة
فتقطع الطريق على وساوس شياطينها، ولا شكَّ أن السواد الأعظم من
الأمة العثمانية يسفه أولئك الزعانف من الأفراد المتفرنجين المارقين،
الذين يقال: إن من آثارهم ترك تحصين طرابلس الغرب، فيرجى أن لا
تلدغ الأمة من جحرهم مرة أخرى.
المسلمون أشجع الناس وأثبتهم في القتال، وقد بشرهم الرسول صلى
الله عليه وسلم، بأنه لا يغلبون من قلة، وما خذلت دولتنا وغلبت في الحرب
الروسية إلا بخيانة من بعض القواد والرؤساء، بعد أن نفث التفرنج
فيهم سم الإلحاد، وجعل همهم من حياتهم التمتع باللذات والشهوات، ولعل إيطالية
ما جمحت إلى هذا العدوان إلا اتكالاً على أفراد من هذا الصنف الممقوت
الذي يهون عليه إضاعة هذه المملكة (طرابلس وبرقة) لذلك الغرض
الوهمي.
مولانا السلطان الأعظم وأعضاء أسرته الكريمة كلهم ينبذون رأي
أولئك الزعانف المارقين إن ظهر، وسروات العنصر التركي المبارك
وجمهور الطبقة المتعلمة، وجميع العامة من هذا العنصر العريق في
الإسلام كلهم يخالفون أولئك الأوشاب الذين لا يعرف لهم الأمة أصل ثابت
ولا أثر صالح.
يظنون أن مثل هذا الرأي الأفين يروج عند بعض طلبة المدارس
الرسمية المغالية في التفرنج، ونرجو أن يكون هذا الدرس الذي ألقته علينا
إيطالية قد أبطل ظنهم، ونَبَّه نابتة تلك المدارس على بطلان ظن آخر وهو
أن تقليد بعض الأوربيين في العادات ونبذ الدين ظِهْرِيًّا يجعلنا مثلهم في
قوتهم وعظمتهم، وكانوا يجاهرون بهذا الظن حتى تجرؤوا على كتابته
في الجرائد، وكتب بعض ساسة الآستانة: إن قومنا الترك والمجر من
أصل واحد؛ فلماذا ارتقوا في المدنية والحضارة ونحن منحطون واستعداد
الجميع واحد؟ يجب أن نسلك مسلكهم حتى نكون مثلهم باحترام أوربة لنا
ومساعدتها إيَّانا ورضاها بأن يكون عنصرنا عنصرًا أوربيًّا.
كان هؤلاء المساكين ومقلدتهم من طلبة المدارس الرسمية يتوهمون
أن أوربة يمكن أن ترقيهم وتجعل لهم دولة قوية كدولها، وأنه لا وسيلة
إلى ذلك إلا بإرضائها بالتفرنج ونبذ الإسلام.
نعم إنه يرضيها منهم التفرنج؛ لأنه هو الذي يجرف ثروتهم إليها،
ويرضيهم منهم ترك الإسلام لأنه هو الذي يحل رابطتهم ويفصلهم من مئات
من الملايين يغارون عليهم ويودون أن يروهم سالكين سبيل الرشاد
ليمدوهم بأموالهم ونفوذهم المعنوي، وكذا بأرواحهم إن وجدوا إلى ذلك
سبيلاً، ولا يرضيها ذلك منهم لأجل أن يرتقوا ويعتزوا؛ بل يناديهم لسان
حالها كل يوم ولسان مقالها في بعض الأوقات بهذا المثل (وجودك ذنب لا
يقاس به ذنب) وهل يمكن أن يوجد نداء أفصح لهجة وأصرح صيحة من
بتر طرابلس الغرب من جسم الدولة.
هؤلاء الذين أفسدت تعاليم أوربة علينا قلوبهم وأفكارهم، وجعلتهم
عونًا لها على إزالة استقلالهم من حيث لا يشعر بذلك أكثرهم، يوجد
أشباه لهم وأمثال في الهند ومصر وتونس والجزائر، يظن أكثرهم أن
بلاده تكون مستقلة بمساعدة أوربة إذا تركت جنسيتها ومقوماتها ومشخصاتها الأولى
واستبدلت بها ما تأخذه عن أوربة من الجنسية الوطنية واللغوية، وقد وطنت نفوس
بعضهم على الرضى بالسلطة الأوربية ظاهرًا وباطنًا لا محاء شعور الدين
والجنس منها وعفاء أثره.
كتبت هذه النبذة لتذكير هؤلاء المتفرنجين بما يجب عليهم من العبرة
في الكارثة النازلة بنا، وتذكير سائر الأمة بالاعتبار بهم، لعلها تقدر على
إبعاد من بقي منهم على غَيِّهِ من مناصب الدولة، ومن النيابة عنها في
مجلس الأمة، ولتذكير الجميع بما يجب أن نأخذه عن أوربة وما يجب أن
ندعه ونتقيه كما نتفي العقارب والثعابين وجراثيم الأمراض (وميكروبات)
الأوبئة أو أشد اتقاء.
كارثة طرابلس الغرب حجة قطعية محسوسة يشترك في إدراكها
السمع والبصر فلا يمكن أن يوجد في الحجج أقوى من دلالتها على حكم
أوربة علينا بالإعدام، واتفاقها على قسمة تركتنا قبل الإجهاز علينا، فيجب
أن يعرف هذا كل فرد من أفراد رجالنا ونسائنا وأولادنا.
وهذه الحجة تدل على بطلان عقيدة نظرية كان يعتقدها بعض ساستنا
والمفكرين منَّا، وهي أن أوربة لا تعتدي على بلد من بلادنا إلا إذا حدثت
فيها فِتْنَةٌ اعْتُدِيَ فيها على بعض الأوربيين من أية أمة منهم، أو على
النصارى منَّا، فإذا قدرنا على منع أسباب الفتن والتعدي وتلافي ما تحدثه
الدسائس فيها فإننا نتقي بذلك تعدي أوربة علينا، ونجعل لأنفسنا فرصة بذلك
نرقي بها أنفسنا. أبطلت كارثة طرابلس الغرب هذه الشبهة وقامت بها
الحجة على أن أوربة تغتصب بلادنا بمحض العدوان وكونها محتاجة إليها
وأحق بها منا، فإرضاؤها عنا متعذر ما دمنا أحياء، وإننا نراها قد استعجلت علينا
بعد أن أظهر لها بعض المتفرنجين منا فسقهم وإلحادهم، كما صرّحَتْ به
بعض الجرائد الفرنسية في المقارنة بين تركيا الفتاة ومصر الفتاة.
إن أوربة تجربنا بهذا البدع الجديد من العدوان هل نرضى أن نقتطع
جسمنا قطعة بعد قطعة كلما هضمت واحدة منها قطعت أخرى والتهمتها
من غير مقاومة منَّا ولا معارضة أم لا، فإن رضينا بهذا الخسف فهو
القصد والغرض والأمنية العليا لأن المملكة تكون كلها غنيمة باردة لها لا
تخسر عليها نقطة من الدماء الأوربية المقدسة التي تفضل كل نقطة منها
على جميع أهل آسية وأفريقية.
وإن أبينا الذل والخسف وقاومنا جهد استطاعتنا، وأثبتنا لها أننا بشر
نحس ونشعر وأن بيننا اتصالاً وتضامنا في الجملة، فهي تكون حينَئِذٍ بيْنَ
أمرين إما أن تحل المسألة الشرقية عاجلاً خشية أن يقوى هذا الشعور
والتضامن فتصعب إبادة أهله، وإمَّا أن يكون الاتفاق لم يصل بين دولها
إلى هذه الدرجة فتتركنا نحن وإيطالية إلى أن يتم لهذه الاستيلاء على
طرابلس بقوتها وحدها أو لا يتم، ويتربصون بباقي بلادنا فرصة أخرى.
والذي أراه أنه لا يمكن أن نموت ميتة شرًّا من أن نقطع قطعًا قطعًا
كالشلو ونؤكل بالتدريج فيكون موتنا إماتة لشعور جميع المسلمين وإيئاسًا
لهم من الحياة، فيجب إذًا أن تبذلَ الدولةُ والأمة كل طاقتها في صد إيطالية
عن طرابلس وإن عَرَّضَتْ كل ما فيها للخراب وكل من فيها للقتل؛ ولأََِنْ
تَأخذها إيطالية أطلالاً دَارِسَةً ليس فيها أنيس، لا من البشر ولا من اليعافير
والعيس، خير من أن تأخذها بقلاعها وحصونها ودورها وأهلها.
وإذا أرادت أوربة بسبب مقاومتنا لإيطالية أن تقتسم بقية بلادنا فخير لنا أن
نُعَرِّضَ جميع جيشنا وجميع أفراد أمتنا للقتل كما قلنا في إخواننا أهل طرابلس، وأن
نُعَرِّضَ جميع بلادنا للخراب، ولا ندعها غنيمة باردة لأوربة الباغية الطاغية، كما
نعرض طرابلس لذلك.
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تموتَ جبانًا
إن تفعل ذلك أوربة وهو ما لا ترضاه لها شعوبها التي يوجد فيها
الجماهير من المهذبين الذين يكرهون العدوان وسفك الدماء حقيقة لا رياء
ونفاقًا كما يدعي ساستُها - يكن ذلك درسًا للشرقيين عامة والمسلمين
خاصة يقرب أن يعلمهم كيف يعاملون هذه الوحوش المفترسة بمثل ما
عاملتنا به، وإنه ليغلب على اعتقادي أن سلب الدولة الإسلامية الكبرى
ملكها حماه الله بمثل هذه الصورة بعد ذلك العدوان على مملكتي إيران
والمغرب الأقصى يكون سببًا قريبًا لحياة المسلمين والصينيين حياة قريبة
وأن القوة الآلية القليل عمالها لا يدوم لها القهر للكثرة العديدة تنفق آحادها.
أيتها القسطنطينية العظمى، اعلمي أنه يجب أن نحيا، وأنك أنت التي
تحكمين اليوم بوجوب حياتنا إذا أبيت أن تبيعي طرابلس ولو بملء الأرض ذهبًا،
وجعلت الدم مع العزة والشرف، أرخص من الذهب مع الذل والهوان،
يجب أن تختاري العز على الذل، وجميع قلوبِ المسلمين معك اليوم،
وسيتبع ذلك أموالهم وأنفسهم.
هذا إذا أقدمت أوربة على الخطر الأخير، وإن هي أحجمت عنه فلا
تأسفي على طرابلس إذا ذهبت وبقي الشرف، ونمي الشعور بالحياة
الاستقلالية، فإنها لا تلبث أن تعود هي وغيرها، والواجب على الأمة
العثمانية في حالة الإحجام، وحفظ كيان الدولة أن تبعد عن كراسي
الوزارة والرياسة والقيادة والنيابة في مجلس الأمة جميع المارقين
المفتونون بالتفرنج، وأن لا تقتبس من أوربة إلا الصناعات والفنون التي
تمدها بالقوة والثروة، دون الآدابِ والعاداتِ والأزياءِ وسائرِ الأمورِ
المعنويةِ، يجب حينئذٍ أن تؤسسي جامعة عثمانية حقيقية، وأن تحفظي
رابطتك الإسلامية أشد الحفظ، وسنبين هذه الواجبات بالتفصيل إن شاء الله
تعالى.
* * *
(٤)
الاعتبار بالمقارنة بينها وبين الجامعة الإسلامية
المسألة الشرقية عبارة عن إزالة ملك المسلمين كالوثنيين واقتسام
أوربة لجميع ممالكهم، وهي من الحقائق الثابتة المقررة لا ينكرها أحد،
ومسألة الجامعة الإسلامية عبارة عن اتفاق المسلمين وتعاونهم على حفظ
سيادتهم والدفاع عن أنفسهم، وهي من الخيالات التي تصورتها أذهان
الأوربيين ورسمتها في لوح الإمكان والاحتمال لأجل الصد عنها، واتقاء
وقوعها، عملاً بقاعدة: اتقاء وقوع المرض خير من معالجته بعد وقوعه.
ترى أوربة أنه لا إثم في حل المسألة الشرقية ولا حرج، ولا يعد من
الطمع ولا من التعدي على حقوق الأمم؛ بل هي فضيلة وكمال إنساني،
وإنما يخشى الإثم والحرج في اختلاف الدول الكبرى في القسمة اختلافًا
يُضْرِمُ نيرانَ الحربِ بينهنَّ.
وأما الجامعة الإسلامية فهي في نظر أوربة أكبر الأنام، وأظهر أمثلة
البغي والعدوان، وأشنع صور التعصب الوحشي؛ لأن المسلمين ميَّالون
إلى الحرب والاستيلاء على الممالك وهذه تجارة خاصة بأوربة يجب عليها
احتكارها.
صَوَّرُوا الجامعة الإسلامية بتلك الصور الشنيعة المشوهة، وتفننوا ما
شاءت بلاغتهم في هجومها وذمها، ووصف مضارها ومفاسدها، حتى
نفروا قومهم منها، ومن المسلمين الذين يتهمونهم بها، بل نفروا المسلمين
أنفسهم منها بضربين من ضروب التنفير أحدهما: تهديدهم بأن أوربة
تسومهم سوء العذاب إذا هي أنست منهم عملاً ما لهذه الجامعة، وثانيهما:
أنها أحدثت لهم جنسيات جديدة، وأحدثت لهم أماني واعتقادات بأنه يمكن
لكل جنس منهم أن يستقل بنفسه، ويكون له دولة عزيزة ممدنة، إذا هو
انسلخ من الجنسية الإسلامية، ونهض بجنسية النسب أو اللغة معًا أو
أحدهما فقط، فكون الترك دولة تركية فقط، والفرس دولة فارسية فقط،
والمصريون دولة مصرية فقط، والسودانيون دولة سودانية فقط بشرط أن
تكون هذه الجنسية بمعزل عن الدين لا شِيَة فيها، وحينئذٍ يجد أهلها من
مساعدة أوربة عاشقة الإنسانية وعدوة التعصب الديني ما يبلغهم أمنيتهم من
هذا الاستقلال.
من عجائب تصرف العلم في الجهل أن وساوس أوربة تروج في
سوق المستمسكين بكل ما يعتقدون أو يظنون أو يتوهمون أنه من الدين،
المبغضين الماقتين لكل ما عليه الأوربيون كما تروج في سوق المتفرنجين
الذين زلزلت التعاليم الأوربية الناقصة عقائدهم وجميع مقوماتهم
ومشخصاتهم الملية؛ بل هي في سوق أولئك المتعصبين لعقائدهم وتقاليدهم
أشد رواجًا وأقبح تأثيرًا.
تعبث أوربة بجميع الشرقيين وتلعب بهم كما يلعب الصبيان بالكرة،
فهم ألعوبة بين يديها، حتى في حال مقاومتهم لها؛ لأن من المقاومة ما لا
بد منه فهي تمهد لهم سبيله، كمقاومة أهل المغرب الأقصى لفرنسة في تلك
المدة القصيرة، هي التي حركتهم للثورة، وهي التي دفعتهم إلى المقاومة؛
لأن الطريقة التي رسمتها للاستيلاء على بلادهم وأعناقهم لا تتم إلا بذلك،
وكم لها من أمثال هذه الوسائل؛ ولكن من تستعملهم فيها لا يدرون كُنْهَ
عَمَلِهِمْ ولا غايتَه ولا يعرفون مَنْ هم الدافعون لهم إليها، ولا أنهم يبخعون
أنفسهم بها (ينتحرون) .
إن المسألة الشرقية حقيقة لا ريب فيها، ومن عجائب غفلة المسلمين
أنهم لا يزالون كالأطفال يدركون الجزئيات عندما تتصل بإحدى حواسهم
ولا يفطنون للكليات التي تندرج هي تحتها ليدركوا كل ما هو محيط بهم
من المصائب والأخطار، حتى إن أوربة تتجادل في قسمة ممالكهم وهم
يسمعون تحاورَها في جدالها، ويكتبون بعضَ أخبارِها في جرائدهم،
وتلوكها ألسنتهم في مجالسهم، ولا ينتقلون من كل جزئية منها إلى الأمر الكلي
الحامل عليها وهو إزالة ما بقي من ملكهم، والاتفاق على قسمة سائر تراث
أجدادهم، وهو ما يسمى بالمسألة الشرقية، فهم يعدون مسألة طرابلس الغرب مسألة
جزئية سببها طمع إيطالية وغرورها، وإقدامها على نكث قتل المعاهدات ونسخ
أصول حقوق الدول، وليس الذنب ذنب إيطالية وحدها، وإنَّما هو عمل أوربة كلها
بدليل إقرارها إياها عليه، وعدم إجابة الدول نداء الدولة العلية إذ استصرختهن
لحماية القوانين والعهود والمواثيق.
لو أن مثل هذا العدوان وقع من الدولة العلية على بعض حكومات
البلقان لقامت قيامة أوربة كلها، وجهزت أساطيلها، وصاحت جرائدها
على اختلاف لغاتها يجب على دول المدنية أن تطهر الأرض من هذه
الدولة الإسلامية الباغية العادية المتعصبة المتوحشة حفظًا للعهود والقوانين
التي يرعاها البشر، ولا يتعدى حدودَها إلا الهمجُ والمتوحشون.
قلت: إن الجامعة الإسلامية مسألة خيالية، وها نحن أولاء نرى
الذين يتهمون المسلمين بها؛ لأجل تنفيرهم عن التوجه إليها، لا يعدون
لهم عملاً ما في سبيلها، وإنما يؤاخذوننا كلنا إذا كتب كاتب منَّا مقالة ذكر فيها
حكومة إسلامية أو بلادًا إسلامية بما يدل على أنه يكره لها الشر، ويحب
لها الخير، كما كانت الجرائد الأوربية هنا تنكر على بعض الجرائد
الإسلامية إلى عهد قريب استنكار نكث فرنسة لمعاهدة الجزيرة بالاعتداء
على مملكة المغرب الأقصى وإرسال جنودها لاحتلال مدينة (فاس) ثم
استنكار عمل ألمانية في حملها فرنسة على امتلاك تلك البلاد امتلاكًا تامًّا
بشرط أن تعطيَها بدلاً عمَّا تستحقه فيها بمقتضى قاعدة المسألة الشرقية،
وهي أن الدول العظمى هي الوارثة لجميع الممالك الشرقية التي تسقطها.
لا يزال يرن في آذاننا صوت تلك الجرائد التي قامت اليوم تتعصب
لإيطالية الباغية على الدولة العثمانية التي بغي عليها، كانت تقول: إنه لا حق
لمسلم في إظهار الشفقة على مملكة مراكش لأنها ليست وطنه فشفقته إذًا
من التعصب الإسلامي المذموم ومن دلائل الميل إلى الجامعة الإسلامية
الممقوتة، وأمَّا تعصب الجرائد الفرنسية والإنكليزية التي تصدر في بلادنا،
لإيطالية الباغية علينا، فهو محمود مشكور وإن لم تكن وطنها لأن التعصب فرض
عليهم ومحرم علينا.
أعجب من هذا أن هذه الجرائد المتعصبة لا تستحي الآن من ذم
المصريين ورميهم بالتعصب لاستنكارهم بغي إيطالية على دولتهم التي
يخفق علمُها فوق رؤوسِهم، ويخطب باسم سلطانها على منابرهم،
وعطفهم على إخوتهم في الدين والعثمانية واللغة، وجيرانهم المتصلين بهم
في الوطن من أهل طرابلس، فمن المنكر العظيم في مدنية أوربة التي تلقي
دروسَها علينا هذه الجرائد أن نتألم لتدمير إيطالية لبلادنا، وسفكها لدماء
إخواننا، وأن نستنكر همجيتها ووحشيتها ونهتم لتخفيف المصائب عن
أولئك الجيران الذين لم يقترفوا ذنبًا تحكم به أوربة عليهم بهدم وطنهم على
رءوسهم! ! أما آن لنا أن نفهم ونعقل ونتدبر هذه الدروس؟ !
قال حكيمُنا: (الناسُ من خوف الذل في الذل) وقد ذللنا حتى إنه
يساء إلينا ونؤمر بالشكر، فإلى متى يَقْذِفُونَ في قلوبنا الرعبَ والخوفَ من
لفظ التعصبِ الذي نجد معنَاه عندهم ولا نجده عندنا، وإنما يخافون أن
نستفيد منه الاتحاد والتكافل كما استفادوا.
إلى متى يقذف في قلوبنا الرعب والخوف من لفظ (الجامعة الإسلامية)
التي نرى مثلها عندهم مشاهدًا محسوسًا بالاتفاق على حل المسألة الشرقية، ولا
نرى لذلك المعنى أثرًا في شعب من شعوبِنا، ولا في قطر من أقطارنا، أنخاف
من سطوتهم أن تفتك بنا بأكثر من البغي باغتصاب بلادنا عنوة واقتدارًا
ليضربوا علينا الذلة والمسكنة إلى الأبد؟ يذبحوننا ويأكلوننا، ويمنُّون
علينا بعد ذلك بأنهم يمدنوننا، لا كانت هذه المدنية ولا كان الراغبون فيها
والناشرون لها.
أراد رجل من المغرب الأقصى أن يُرْسِلَ ولدَه إلى بيروت لِيَتَعَلَّمَ فِيَها،
قبل نزول البلاء عليها باحتلال فرنسة لها، فأنذره الفرنسيون سوءَ عاقبةِ
تعليمِهِ في بيروت وقالوا له: إننا سنملك هذه البلاد فيحرم ولدك من كل
شيء فيها إذا لم تعلمه في مدارسنا، فقال: إن مدارسكم لا تعلمه لغته ولا
دينه وهما أهم ما أريد أن أعلمه إياه، إنه لا يوجد أحدٌ من أهل المغرب
الأقصى يأمن على ما يرسل إليه من خارجه في البريد الفرنسي؛ لأنه يعلم
أنه لا يصل إليه إلا بعد أن يطَّلعَ عليه المفتشون ويرون أنه ليس فيه ما لا
يُحِبُّون أن يقفَ عليه، وسيكون أهلُ تلك المملكةِ عن قريبٍ محرومين من
كل ما لا تريده فرنسةُ لهم، وهذا أهون ما في هذه المدنية.
أنا لا أدعو بهذا إلا إلى شيءٍ واحدٍ، وهو أن نعرفَ أنفسنا، ونعرف
ما حولنا وما يحيق بنا؛ لنكون على بصيرة من أمر هذا البلاء الذي أنذرنا
به بغي إيطالية علينا باتفاق أوربة وإقرارها، ونفهم كنه المسألة الشرقية
قبل أن يتم حل عقدتها، وتنفيذ المقصد منها، ونفهم سرَّ تهديدِنا بلفظ
التعصب ولفظ الجامعة الإسلامية اللَّذَيْنِ هما من الألفاظ المهملة التي لا
معنى لها عندنا.
إن مسلمي المغرب الأقصى كانوا عونًا لفرنسة على فتح الجزائر،
وهي الآن قد احتلت مملكة المغرب بقوة مسلمي الجزائر، فهل كان هذا
من التعصب الإسلامي وفروع الجامعة الإسلامية؟ !
احتلت فرنسة تونس واستولت عليها وهي محاطة بالمسلمين من كل
جانب فهل عارضها أحد من المسلمين أو قاتلها عليها؟ فأين التعصب
الإسلامي والجامعة الإسلامية؟ !
أراد إسماعيل باشا أن يجعل بلاد مصر مملكة أوربية؛ فاعتمد على
أوربة وتدهور في الحفرة التي حفرتها، ولم يمنع ذلك خلفه من الثقة
بأوربة ودعوتها إلى حفظ أريكته من ثائري رعيته، فهل هذا من التعصب الإسلامي
والعمل بالجامعة الإسلامية؟
فصلت إنكلترة مملكة السودان من أختها مملكة مصر ثم فتحتها بجنود
المصريين وأموالهم وهم وادعون ساكنون، لا يكادون يعترضون إلا
على الاستمرار على أخذِ أموال مصر للسودان، مع الاجتهاد بقطع كل
علاقة للسودانيين بمصر وللمصريين بالسودان، ولا يزال الإنكليز يفتحون
بالجيش المصري كل ما أرادوا من السودان، وحفظ كل ما أرادوا حفظه
من بلاد السودان، وكل مصري يعرف أنه لا حظ لبلاده من ذلك، وها
نحن أولاء نرى وفودهم تغشى دار الوكالة الإنكليزية كل يوم لتهنئة فاتح
السودان بتولي إدارة الأعمال في مصر، يأتون هذا في الوقت الذي أحسوا
فيه بالخطر على دولتهم صاحبة السيادة الرسمية والشرعية عليهم، مع
علمهم بأن إنكلترة قطب الرحى في هذا الخطر ولو شاءت لأزالته، فهل
يتوسلون بهذا إلى نَيْل مساعدتها للدولة أم هذا من التعصب الإسلامي
والعمل للجامعة الإسلامية؟
ما هي القوة التي تمد فرنسة بها سلطتها في أحشاء أفريقية وتحفظ بها
ما تستولي عليه وتحفظ به تجارتها؟ أليست من أهالي البلاد المسلمين ليس
معهم إلا عدد قليل من الضباط البيض؟ ما هي قوة إيطالية المستولية بها
على مصوع والتي تطمع بها أن تضم إلى مستعمراتها الأفريقية بلاد اليمن
كلها أو بعضها؟ أليس معظمها من المسلمين، يسوسهم ويسيرهم عدد قليل
من الإيطاليين؟ لو كان هناك تعصب إسلامي أو عمل للجامعة الإسلامية
في الآستانة أو مصر أو الهند أو ما دون هذه البلاد الراقية من بلاد المسلمين، أما
كان يكون منه إرسال المحرضين على هؤلاء الأفراد من الأوربيين الذين
يستعبدون الملايين من المسلمين؟ ما كان شيء من ذلك ولا نعلم أحدًا فكر
في تكوينه، ولم يستطع الأوربيون أن يجدوا شبهة على ذلك يلصقونها بمسلم،
فأين التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية؟
ولو شئت لرجعت إلى تاريخِ الشرقِ وذكرتَ اتفاقَ العثمانيين مع
أعدائهِمْ الروس على اقتسام البلاد الإيرانية عندما تغلب الأفغانيون على
أصفهان في عهد (شاه سلطان حسين) ومحاربتهم للإيرانيين من طريق
بايزيد عندما كان (عباس ميرزا) يدافع الروسية عن بلاده، ثم مكافأة
إيران العثمانيين بمساعدة الروسية عليهم في حربها لهم، فهل هذا من
التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية؟
كان سلطان ميسور (تيبو سلطان) أرسل سفيرًا إلى الدولة العثمانية
يعرض عليها احتلال بلاده لصد إنكلترة عنها فردته خائبًا، ولو أجابته
لهان عليها أن تملك بلاد الهند بلا مشقة ولا عناء.
وإن شاه إيران (فتح علي) أنذر الأفغانيين بالحرب مساعدة للإنكليز عندما
أراد الأفغانيون الزحف على الهند، وإن أمير الأفغان (دوست محمد خان) نكث
عهد (رنجت سنك) صاحب بنجاب ومحالفته على صد الإنكليز، ولولا ذلك
لما ظفر الإنكليز بجيش (رنجت) وأخذوا تلك المملكة بتلك السهولة، كذلك
أمراء البنغالة والكرنانك ولكنهو قد مهدوا للإنكليز السبيل إلى الاستيلاء
على السلطنة التيمورية في الهند فهل كان كل ذلك من التعصب الإسلامي، ومبادئ
العمل للجامعة الإسلامية.
وإذا تحولنا عن الهند إلى الممالك الإسلامية التي استولت عليها
الروسية نراها كلها كانت متخاذلة يشمت بعضها ببعض، فقد سر أهل
بخارى باستيلاء تلك الدولة على بلاد التركمان وخوقند وقابلها هؤلاء
بالمثل عندما استولت عليها هي أيضًا، ولم نر أحدًا من هؤلاء المسلمين
ساعد الآخر على صد الأجنبي عن بلاده، فأين تجدون لنا في التاريخ
الإسلامي جرثومة من جراثيم التعصب النافع لنا أو الضار بكم، وأين
تجدون الدليل على ما سمَّيْتُمُوهُ الجامعة الإسلامية؟ هل اتحد ملوك
المسلمين في الماضي على محاربة النصارى كما اتحد ملوك أوربة على
المسلمين في الحروب الصليبية؟ أو كما اتحدت دولها الآن في المسألة الشرقية؟
إلى متى هذا الغش والتغرير، والسخرية من هؤلاء المسلمين المتخاذلين
المتقاطعين؟ ! !
هذا نذير من النذر الأولى، وهذا نذير من النذر الآخرة، وإن أمامنا
خطرًا كبيرًا فيجب أن ندرك كنهه، وأن نبحث عن مستقبلنا مع الباغين
المعتدين، وإلا ضاع كلُّ شيءٍ وصرنا أذل البشر، وصعب علينا مع هذا
الاتحاد العام علينا أن نرتقي عن طبقة العبيد الأذِلاء، وأول درس عملي
يجب أن نقوم به هو بذل المال لمساعدة طرابلس الغرب على نكبتها، وأن
نستفيد بذلك كيف يكون التكافل والتعاون بيننا.
وإذا كنَّا لم نهتدِ لكل ما أصابنا فيما مضى إلى العمل للجامعة
الإسلامية التي نصون بها أنفسنا ونكون أمة عزيزة فعسى أن تكون
الكارثة الحاضرة مبدأ هذه الهداية، وتكون إيطالية المغرورة هي الملجئة
إلى وضع الحجر الأول في هذا البناء الشريف الذي يوقف بغي أوربة عند
حدِّه ويعيد إلى الشرق أفضل ما سُلِبَ من مجدِه، وقد قال حكماؤنا في
أمثالِهم: الشيءُ إذا جاوزَ حدَّه، جاوزَ ضدَّه، وإلى الله المصير.
* * *
(٥)
ما يجب على العثمانيين المختلفين في اللغة والدين
إن وثوب إيطالية على طرابلس كما يثب الذئب الجائع على الشاة
وتأييد كل من حليفتيها ومن دول الاتفاق الثلاثي لها على عدوانها على ما
بين الفريقين من الخلاف والنزاع برهانٌ قاطعٌ على أنهم يريدون بذلك حل
المسألة الشرقية حلاًّ حاسمًا (إن أمكنَ) وإنه ليس عند أحدٍ من تلك الدول عاطفة
رحمة أو إنسانية أو نزعة عدل أو حق تحملها على كف عادية الظلم،
وإطفاء نائرة البغي، فهن في أرقى وأعلى مدنيتهن التي يسمونها مسيحية أشد قسوة
وأشوه وحشية من أهل البوادي والقِفَار، وأين هم من العرب في جاهليتهم
وأدنى أحوالهم الذين عقدوا حلف الفضول على أن لا يدعوا ظالمًا إلا كفوه عن
ظلمه، ولا مظلومًا إلا أعانوه على حقه، وهن على هذا البغي والوحشية
والهمجية لا يخجلن من حمل قوسٍ بلادهم وكتابها وأساتذتها على مفاخرةِ
الإسلامِ بدينِهم ومدنيتِهم وآدابِهم وفضائِلِهم، أعاذ الله الشرق منهم ومن شر
قوتهم التي يدعون بها كل تلك الدعاوى الكاذبة الخادعة، وأكذبها دعوى
الانتساب إلى دين المسيح عليه الصلاة والسلام.
إن هؤلاء الوحوش الضواري ليس لهم دين إلا الدينار والنار والبارود
والديناميت التي هي وسائل اللذات والشهوات والكبر والفخر والخيلاء، ألا
ترى إلى ملك إيطالية كيف ملأ ماضغيه فخرًا ببغي دولته وعدوانها
الوحشي، وقال: إنه يريد أن يري أوربة عظمتها وقوتها في حرب طرابلس،
لتقر عينها ويسر قلبها ببغي كثرتها على قلة العثمانيين هنالك؟ ولا يخفى
على أحد قرأ الإنجيل وعرف سيرة المسيحيين الأولِيِنَ قبل أن تشوِّه أوربة
الديانةَ المسيحيةَ وتقلِّب أوضاعَها بأن المسيح ما أمر بالبغي والعدوان وسفكِ دماءِ
الأبرياء، وهو ما تفاخر به أوربة، وإنما أمر بالرحمة والرأفة ومحبة الأعداء
المبغضين، ومباركة السابِّيِنَ اللاعِنين، وأنه يجب على المسيحي أن يديرَ خدَّه
الأَيْسَرَ لمن ضربَه على خدِّه الأيمن.
إذا كان أولئك السياسيون السفاكون للدماء، الشديدو الضراوة بتمزيق
الأشلاء أعداء للإسلام باعتدائهم على أهله، فهم أشد عداوة للمسيحية
الحقيقية بقلبهم لوضعها، وتغييرهم لطبعها، ونفثهم لسموم التعصب
الذميم فيها، فهم الذين أبادوا من أوربة جميع الوثنيين، باسم المسيح
الرؤوف الرحيم، وهم الذين أكرهوا بالسيف مسلمي الأندلس على
النصرانية أو الجلاء من البلاد باسم المسيح أيضًا، وهم الذين أنشأوا
محكمة التفتيش لتعذيب العلماء والعقلاء الذين يصرِّحون بما تصل إليه
عقولُهم من حقائق العلوم باسم المسيح أيضًا، وهم الذين أجْرَوا الدماءَ
أنهارًا لاختلاف المذهب في الدين الواحد كما أجْرَوْهَا أنهارًا من قبل
باختلاف الدين، ولا يزالون يضطهدون اليهودَ والمسلمين في بعض البلاد،
ويمنعون الكاثوليك من احتفالاتهم الدينية في إنكلترا.
ثم لما صارت الغلبة للماديين منهم لم يتركوا تلويث المسيحية بقسوتهم
التي ورثوها عن أجدادهم الرومانيين فكانوا إلى هذا العصر يغشون
المتدينين من شعوبهم بأنهم يريدون باعتدائهم على الدولة العثمانية إنقاذ
رعاياها المسيحيين من ظلم المسلمين، والإدالة للصليب من الهلال، حتى
إن الإيطاليين سالبي سلطة البابا عميد الدين الأكبر - ولا يقاس بهذا
تعديهم على الأحباش المخالفين لهم في المذهب - قد أخذوا من أحد
رؤساء الدين (مطران كريمونا) منشورًا يدعو فيه الإيطاليين إلى حرب
المسلمين في طرابلس الغرب ويثبت لهم مشروعيتها باسم المسيح، وقد
جعلت إحدى الجرائد المسيحية بمصر عنوان هذا الخبر كلمة يعزونها إلى
المسيح وهي: ما جئت لألقي سلامًا على الأرض، وتتمتها كما في إنجيل متَّى
(١٠: ٣٤) ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا.
وجملة القول أن دول أوربة دول مادية وحشية غلب عليها الكِبْرُ
والعتو والغطرسة، وما الدين المسيحي عندهم إلا آلة سياسية يغشون بها
المتدينين من شعوبهم، ويتوسلون بها إلى العدوان على غيرهم، فإذا هم
غلبوا على بلادٍ جعلوا أهلها كالعبيد والخدم لهم ولا يرضون أن يساويهم أحد من أهل
الأرض في الحقوق ولا في غير الحقوق؛ بل يترفع الإنكليزي من
أدنى الطبقات عن الركوب في السكة الحديدية مع أشرف الهنود مَحْتَدًّا،
وأعلاهم أدبًا، وأوسعهم ثروةً، على أن الإنكليز أقرب من سائر الأوربيين
إلى حب الحرية والعدل، وهذا الكبر والعتو لم يُعْهَدَا في شعب من شعوب
الشرق؛ حتى في طور البداوة والجهل.
يصف ملطبرون وغيره من مؤرخي أوربة الترك بالكبر والقسوة،
وقد مضى على الترك عدةُ قرونٍ وهم أقوى دول الأرض بأسًا، ولم يفعلوا
في زمن جهلهم ما فعلته أوربة من التعصب الفاحش بإكراه الناس على ترك
أديانهم أو مذاهبهم لاتباع دينها ومذهبها؛ بل ترى هذه الدولة العثمانية ما
زالت أوسع حرية منهم وأشد تساهلاً حتى في هذا العصر الذي بلغوا فيه
أَوْجَ الحرية والمدنية والدليل على ذلك وجود الملل الكثيرة والنحل المتعددة
في بلادها إلى اليوم، وهي الآن قد جعلت حكومتها مشتركة بين المسلمين
وغيرهم من أهل تلك الملل الكثيرة، ولم تكلفهم ما تكلف فرنسة أهل
الجزائر وغيرهم من شروط الجنسية الفرنسية؛ وهي أن يخالفوا اعتقادهم
الديني ويخونوا ضمائرهم بترك أحكام الإسلام في النكاح والطلاق
والميراث وغير ذلك من الأحكام.
إن كثيرًا من جهلة المسيحيين الشرقيين مغرورون بمسيحية أوربة،
فهم يظنون أن الدول الأوربية إذا استولت على البلاد العثمانية تكون خيرًا
لهم من الدولة العلية فتساويهم بالأوربيين في الحقوق ورتب الشرف بحيث
لا يكون بين الفريقين فرق، والدولة العثمانية لَمَّا تصل في المساواة بين
المسلم وغير المسلم إلى هذا الحد، ويخالف أولئك الأغرار في ظنهم هذا
جميع أهل العلم من نصارى الشرق الذين عاشروا الأوربيين واختبروهم،
والذين عملوا معهم حتى في مصر والسودان؛ وهما القطران اللذان قضت
حالتهما السياسية والاجتماعية الممتازة وموقعهما الجغرافي أن يكون
الإنكليز فيهما خيرًا منهم أنفسهم في زنجبار؛ بل وفي الهند، يشهد هؤلاء
أن الإنكليزي المرءوس يرى نفسه فوق رئيسه المصري أو السوري
(الذي ما كان رئيسًا له إلا لأنه أرقى منه علمًا وخبرا في العمل المشترك
بينهما) ، وإن كان هذا الرئيس على دينه ومذهبه، فهو يرى نفسه فوق
كلِّ شرقي لأنه إنكليزي، وهكذا شأن جميع الأوربيين مع جميع الشرقيين،
والإنكليز أحسن أخلاقًا ومعاملة من سائر الأوربيين.
ألا فَلْيَعْلَمْ كلُّ نصراني عثماني أنه إذا وقعت بلادُه تحت سلطةِ دولةٍ
أوربية فقد حرم من حقيقة السلطة وشرف الرياسة وعزة الحكم التي يرجى
أن يكون له منها النصيب الوافر ببقاء الدولة العثمانية دستورية، ولا يذهب
بهذا الرجاء من قلوب غير الترك من العثمانيين ما عرفوا من تعصب
زعماء جمعية الاتحاد والترقي لجنسهم، ومحاولتهم تمييزه على جميع
الأجناس، فإن هذا من الغرور الذي يزول بزوال أولئك الزعماء أو بزوال
نفوذهم العارض أو برجوعهم عنه، وقد زعم صاحب جريدة طنين وهو
لسان حالهم أنهم قد رجعوا عن سياسة تتريك العناصر، فإن كان مخادعًا فسيذهب
الزمان بخداعه، وستؤول حكومة هذه الدولة إلى ما يسمونه اللامركزية
حتمًا؛ إذ لا بقاء لها بغير ذلك إذا هي سَلِمَتْ من بغي أوربة وعدوانها.
فعلينا أيها الإخوان في الوطن والعثمانية أن نمحوَ من أذهاننا وساوسَ
أوربة التي بثَّتْها في بلادنا وفَرَّقَتْ بها كلمتَنا، وأن نكون إلبًا واحدًا على
من يعاديها، ويدًا واحدة في القيام بكل ما يحفظ كيانها ويرقيها، وأن نستفيد من تعلق
قلوب المسلمين غير العثمانيين بها، ونشكر لهم إخلاصهَم لها، علينا أن نظهر
لها في هذه الشدة كل ما نستطيعه من المساعدة بأموالنا وأقوالنا وأفعالنا وشعورنا،
وأن لا نؤاخذها بما ظهر من سوء سياسة بعض رجالها، فإننا إذا جمعنا
كلمتنا على مساعدتها في هذه الأزمة نكون أقوياء بعدها على إحباط كل سعي لأولئك
المسيئين أو لغيرهم بقوة وحدتنا وظهور إخلاصنا الذي يقطع ألسنتهم؛ فلا
يستطيعون أن يتبجَّحوا باحتكار الوطنية العثمانية ورمي غيرهم بالتعصب
للدين أو الجنسية.
هذا ما أُذَكِّرُ به أبناءَ الدولة العلية المخالفين لها في الدين، وأما
أبناؤها المخالفون لأسرة السلطنة في اللغة فقط فلا أراهم يحتاجون إلى
التذكير بوجوب الاتحاد والتعاون على نصرها وتأييدها، وموالاة من
والاها، ومعاداة من عاداها.
أين سروات الألبان ورؤساء عشائر الأكراد، وأمراء العرب الأنجاد،
هذا وقت النجدة، هذا وقت الوحدة؛ {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ
وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: ٤١) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ
قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة: ٣٨-٣٩) .
اعلموا أن أوربة لا تبقي على أحد منكم، وإذا ساغت لها لقمة
طرابلس الغرب فستكون ألبانيا لقمة للنمسة، وبلاد الأكراد لقمة للروسية،
واليمن كالخليج الفارسي لقمة لإنكلترة، أو مشتركة بينها وبين إيطالية،
وأما سورية فيقال إن إنكلترة لا ترضى إلا بجعلها فاصلة بين مصر وبين
الأناطول الذي هو حصة ألمانيا حبيبة الترك، وذلك بأن تكون مستقلة
تحت حماية الدول الكبرى كلها ويكون حاكمها العام أوربيًّا.
هكذا قد اقتسموا البلاد ولا يقيها من تنفيذ القسمة إلا نجدتكم واتحادكم
واستعدادكم بالفعل للذود عن بلادكم، فوالله لئن ظفروا ببغيتهم ليجردن بلادكم كلها
من السلاح، وليتحدن على أن لا يبيعوكم بعد ذلك سلاحًا، ولا يدعوكم
تعملون ولا تتعلمون كيف تعملون، وليسومنكم سوء العذاب، وليحرمنكم
من السلطة والثروة، وليسلطن عليكم قسوسهم ومقامريهم وخماريهم
وبغاياهم ليفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وصحتكم وآدابكم.
أين أنت يا أمير مكة وسيد الشرفاء، أين أنت يا إمام اليمن يا ذا
النجدة والإباء، أين أنتم يا أمراء نجد الأمجاد، أين أنت يا صاحب كويت،
أين أنت يا ابن سعود، أين أنت يا ابن الرشيد، ألا يدعو بعضُكم بعضًا إلى
الاجتماع والتعاون على نصرة الدولة، ألا يجب أن تزحفوا على مصوع
والأرتيرة، ألا تبذلون المال والنفس في هذه الشدة؟
وأنتم يا علماء النجف وكربلاء وإيران، هذا أوان يجب عليكم من خدمة الإسلام
هذا أوان شد أَوَاخِي أُخُوَّةِ الإيمان، والتعاون على حفظ ما بقي له من
الاستقلال، عليكم بما لكم من النفوذ الروحي أن تستلوا من نفوس المتفرنجين نزغة
الجنسية الجاهلية، وأن تجذبوا الأمة الفارسية إلى الأمة العثمانية، كلا إن
الأمة واحدة؛ ولكن فَرَّقَتْها الأهواءُ، وهذا أوانُ جمعِ المُتفرِّق ولَمّ الشتاتِ.
وأنت أيتها الآستانة أما آن لك أن تعلمي أن حمل هؤلاء كلهم للسلاح
خير لك من جمعه منهم، وأن تعلميهم النظام العسكري خير لك من جهلهم
به؟ ! أصلحي ما أفسده المتفرنجون الملحدون، فبالإسلام تجعلين ملايين
من أولئك الليوث فداءً لاستقلالك، كما نصحنا لك إذ كنا في جوارك، وقبل
ذلك وبعد ذلك.
... ... ... ... ... ... ... في ٢١ شوال سنة ١٣٢٩
لها بقية
((يتبع بمقال تالٍ))