للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة الشرقية
(٦)
(بعض ما يجب من العبرة في الحالة الحاضرة)

قد أتى علينا حين من الدهر ونحن في غمة من أمرنا، وأوربة تتصرف فينا
كما يتصرف الأوصياء الخونة في كفالة المعتوهين والقاصرين عن درجة الرشد،
لا همَّ لهم إلا بقاء الحجر عليهم؛ ليتمتعوا بأموالهم وما ورثوا من آبائهم وأجدادهم.
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا بجميع فتن السياسة. وزينت لهم تقليدهم في
زخرف مدنيتها، وأوهمتهم أنها تهديهم إلى سبيل الرشاد التي يصلون بسلوكها إلى
ما وصلت هي إليه؛ من المدنية الجميلة التي تدهش الأبصار وتفتن الألباب، حتى
سلبت ممالكهم، وثلت عروشهم، فمنهم من ذهب من سلطانه العين والأثر، ومنهم
من بقي له الاسم والرسم دون التصرف والحكم، ولم يعتبر اللاحق منهم بما حل
بالسابق، وأنى لهم العبرة وهم بين قاصر العقل وفاقد الرشد، وقد عمهم كلهم
الجهل، وحيل بينهم وبين ما يجب عليهم من العلم.
فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا، ولم تقصر في فتنة شعوبنا، فقد هاجمتنا بجنود
من القسوس والمعلمين، والتجار والسماسرة والمرابين، والبغايا (المومسات)
والقوادين والقوادات، وأصحاب الملاهي والحانات، فحاربتنا في عقائدنا الدينية،
وفي مقوماتنا ومشخصاتنا الملية، وفي آدابنا وعادتنا القومية، وفي رزقنا وثروتنا
العمومية، تريد بهذا كله الفتح والاستعمار باسم المدنية.
راجت في سوقنا كل هذه الفتن، فحلت روابطنا، وأضعفت جامعتنا،
ومزقت نسيج وحدتنا، واغتالت معظم ثروتنا، ونحن نتوهم أننا نرقي بذلك أنفسنا
ويظن الذين تفرنجوا منا أنهم صاروا أرقى من سائرنا عقولاً، وأعلى آدابًا،
وأصلح أعمالاً، حتى إن بعض أحداث المدارس منهم يرون أنفسهم بتأثير فتنة
التفرنج أنهم أرقى من سلفنا الصالح الذين فتحوا الممالك ومصروا الأمصار،
ودونوا العلوم، وبنوا لنا ذلك المجد الذي ساعدنا أعداءنا على هدمه منذ قرون ولما
ينهدم كله، ألا إننا قوم جاهلون مخدوعون، نخرب بيوتنا بأيدينا، وأيدي أولئك
الفاتحين المخادعين لنا، ولا ندري ماذا نفعل.
كان سفراء أوربا ووكلاؤها، وقسوسها وعلماؤها، وتجارها ومومساتها، هم
القواد الفاتحين، والملوك السائدين، الذين ما دخلوا قرية من ممالكنا إلا أفسدوها،
وجعلوا أعزة أهلها أذله وكذلك يفعلون، ومن عجائب جهلنا وغفلتنا أن أمرنا معهم
لا يزال غمه علينا، ولا نزال نرجو الخير منهم، والترقي بتعلم لغاتهم، واتباع
عاداتهم.
ما صخت العبر آذاننا، وخطفت أبصارنا، وقرعت أذهاننا، كما فعلت في
هذا العام الذي تواطأت فيه أوربة على مرأى منا ومسمع، متفقة على ابتلاع
الممالك الثلاث التي كانت باقيه لنا، وهي الدولة المغربية والدولة الإيرانية والدولة
العثمانية، بدأت أوربة بالجناحين (إيران ومراكش) فلم تر في المجموع
الإسلامي شعور ألم يذكر، ولا حركة دفاع تخشى، فتجرأت على القلب. وإذا
جاز أن يعيش من قطعت أطرافه كما فعلت أوربة بجسم ملكنا، فهل يجوز أن
يعيش الجسم بغير قلب، فمتى نفيق، ومتى نشعر؟
وصل البغي والعدوان علينا إلى هذه الدرجة، ولم تزل الغشاوة كلها عن
أبصارنا، ولا الرين عن قلوبنا، ولا يزال في آذاننا وقر، وبيننا وبين الحقيقة
حجاب، ولا تزال أوربة تنظر إلينا نظرة الوصي القوي المنة الشديد الطمع إلى
الغلام السفيه، وهي ترجو أن لا تحمل في الإجهاز علينا كبير عناء ببركة اتحادها
وتخاذلنا، وحزمها وتواكلنا، ثم خلابة من ربت لنا من تلاميذها الذين يزينون لنا
أن مدنيتنا لا تتحقق إلا بتقطيع أوصال جامعتنا الملية الأولى، وصيرورة كل عضو
منا جسدًا كاملاً باستقلال كل قطر من أقطارنا بجنسية جديدة، وبراءته من سائر
الأقطار؛ إرضاء لأوربة التي أرشدتنا إلى هذه الحياة الجديدة وحببتها إلى تلاميذها
منا، وبغضت إليهم رابطتنا الملية الأولى؛ لأنها من التعصب المذموم في عرف
مدنيتها الشريفة المبنية بزعمها على حب الإنسانية وإرادة الخير لجميع البشر.
أفيقوا أفيقوا أيها المساكين المخدوعون، وانظروا إلى ما تفعل أوربة بكم،
إنها ما قطعتكم أفلاذًا لتمدن كل واحدة منكم على حدتها حبًّا في الإنسانية، وإنما
قطعتكم كما تقطع الحمل المشويّ لتأكله لقمة بعد لقمة، لستم بأعلم بحب هؤلاء القوم
للإنسانية من فيلسوفهم الأكبر الحكيم هربرت سبنسر، الذي نصح لليابانيين بأن لا
يتحدوا بقومه الإنكليز، ولا يجعلوا لهم موطئًا في بلادهم؛ لئلا يفسدوا عليهم أمرهم،
ويلتهموا ثروتهم، ويزيلوا ملكهم من الأرض، أو يجعلوه أثرًا بعد عين، ليس
لهم منه إلا الاسم.
اعلموا أن أمر أوربة كله في أيدي رجال السياسة ورجال المال، وهؤلاء كلهم
من أصحاب الأثرة والبغي، لا يعرفون الحق إلا للقوة القاهرة، وكل ما يتشدقون به
من ألفاظ الإنسانية والمدنية والحق والعدل والقانون وما يشاكل هذه الكلمات؛ فهو
من خدعة الحرب وغش التجارة، ومن يوجد في أوربة من أهل الفضيلة ومحبي
الحق والعدل مخدوعون مثلكم بأكاذيب السياسيين والماليين، ودعاة الدين الذين
ينفرونهم من الشرق والشرقيين والإسلام والمسلمين، فرجاؤنا في استقلالهم أن
ينفعنا قليل، ليس عليه تعويل.
لماذا تقوم قيامة الشعوب الأوربية كلها إذا حارب العثمانيون حكومة من
حكومات البلقان المسيحية، أو حاولوا إخماد ثورة كتلك الثورة الأرمنية، لماذا
تستنفر تلك الشعوب حكوماتها على دولتنا، وتساعدها بالمال والتطوع لمحاربتنا،
ولماذا نراها وادعة ساكنة، وقد بغت إيطالية واعتدت علينا، وتنظر بعين الرضا
والارتياح إلى أسطولها وهو يمطر على ولاية من ولايتنا قذائفة الجهنمية؟ وهذا مع
إجماعها على بغي إيطالية واحتقارها للقوانين ونكثها للعهود الدولية (هذا وما كيف
لو) هذا وما جاءت إيطالية بشبه من الشبه التي اعتادت أوربة أن تدلي بها إلى
شعوبها، ليوافقوها على الاعتداء علينا، كإنقاذ المسيحيين من تعصب المسلمين أو
منع الثورات، وتأييد عروش الحكومات، فكيف كان يكون تأييدهم لها لو جاءت
بمثل ذلك.
ألا إن الخطب كبير والبلاء عظيم، وكل من ظهر من تأثيره فينا فهو قليل
بالنسبة إلى ما يراد به منا، ماذا عملنا، جمعنا شيئًا من الإعانة بمصر لإنقاذ
جيراننا وإخواننا أهل طرابلس من براثن الموت مصابرة أو صبرًا، ولكن لما يبلغ
ما دفعه العشرات والمِئِين من أمرائنا وسرواتنا ومثرينا نصف ما دفعه غني واحد
من أغنيائنا الذين أفسدهم التفرنج في هذه السنة وحدها لمقامري أوربة ومومساتها؟
إن الجرائد الأوربية التي تصدر عندنا تنفرنا من إعانة دولتنا والعطف عليها،
وتظهر أنها قد استكبرت منا ما تصدينا له، وهي إنما تسخر منا وتستصغر ما
تظهر أنها تستكبره، وتعرف حقيقة ما تظهر أنها تستنكره، وترى كدولها أننا نعمل
عمل الصغار، فهي كدولها تعبث بنا كما يعبث الرجال بالأطفال {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: ٢) .
إن الأمة التي تعرف قيمة الحياة هي التي تحتقر الحياة والمال، في سبيل
الشرف والاستقلال، فيجب أن تعرف أوربة منا في مثل هذه الحال أننا أمة واحدة
وأننا لا نحمل الضغط إلا إلى درجة معينة، وأنها إذا تجاوزت بنا تلك الدرجة فما
ثم إلا الانفجار، الذي لا يعلم عاقبته إلا الله الواحد القهار، فلتربع على ظلمها،
ولتقف عند هذا الحد في طمعها، وإذا لم تكف عنا بغي دولة الفوضويين
واللصوص، فلتتركنا وشأننا معها، ولا تعارضنا فيما نفعله في بلادنا من إرسال المدد
والذخيرة من مصر، وعن طريق مصر إلى طرابلس الغرب، ومن معاملة الطليان
في بلادنا، بما يجوز لكل أمة وحكومة منهم أن تفعله في بلادها. أما إذا كانت
ألمانية تمنعنا من مقاطعتهم أو إخراجهم من ديارنا، وإنكلترة تمنعنا من إرسال
الرجال والذخائر من مصر، فلا تكون إيطالية وحدها هي المحاربة لنا، وإنما
تحاربنا أوربة بأسرها، وهل لنا ذنب يقتضي كل هذا إلا ديننا؟ فأين التعصب؟
ومن هم المتعصبون؟ ألا تعتبرون أيها الغافلون.
أظهرت إيطالية من الجبن شجاعة ومن العجز قوة، وبغت وتكبرت في
إنذارها لدولتنا، وإنما جرأها على ذلك علمها بأن دول أوربة الكبرى كلها معها،
واعتقادها أنها تنصرها أولاً وآخرًا عملاً بقاعدة: ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود
إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب، يجب أن يعود إلى الصليب.
ولأجل هذه القاعدة قالت: إنها لا تقبل مناقشة ولا مذاكرة في مسألة طرابلس
إلا بعد احتلال عسكرها فيها، ونتيجة القياس المنطقي الذي يتألف من هذه القاعدة
ومن استحلال أوربة وإقدامها على مثل هذا التعدي؛ أنه يجب أن لا يبقى للهلال
ملك في الأرض.
إن إيطالية لم تحتقرنا بجمع البحرية والبرية وهجومها بها على طرابلس
العزلاء الخالية من الحامية والاستعداد، بل احتقرت نفسها والدول المساعدة لها،
وأقامت الحجة على أنه لا قيمة للحق ولا للفضيلة ولا للإنسانية عندها، وإنما
تحتقرنا هي وحليفتها ألمانية بمساومتنا في بيع شرفنا وديننا بثمن بخس تعرضه
على دولتنا؛ لتقر إيطالية الباغية على بغيها، وتجعل طرابلس ملكًا شرعيًّا لها،
ولعل عاهل ألمانية صديق السلطان والدولة والمسلمين (؟ ؟) لا يجهل أن نصيحته
هذه تكون أشأم على الدولة من زيارته لطنجة وإظهاره الميل والمساعدة لسلطان
مراكش، لعله يعلم أن العمل بنصيحته يسخط العالم الإسلامي كله على (صديقته)
الدولة، ويثير عليها رعيتها، وإذا ترتب على ذلك (لا سمح الله أن يكون) هلاكها
تكتفي أوربة أمرها، وتسلم من تبعتها أمام العالم الإسلامي.
ألا فيعلم الإمبراطور العظيم وحليفه الملك المتعظم، أن الدولة العثمانية ليست
الآن في يد عبد الحميد فينالا منه ما أراد، ولا بيد تلك الزعنفة التي خدعتهم ألمانية
بمكر يهودها الصهيونيين، وإنما أمرها إلى مجلس كبير، لا يبيع دينه وشرفه بمال
اليهود ولا ينخدع بمكرهم، وقد انكشف له الستار عن كنه صداقة ألمانية لنا التي
جرت علينا كل هذا البلاء، فإن استطاع مجلسنا أن يؤلف وزارة تقدر أن تقنع
إنكلترة وصديقتيها بذلك، ويكف بغي دول التحالف الثلاثي عنا فذاك ما نحب من
السلم والحق، وإلا فالرأي ما بينا من قبل، ورأينا كلَّ من نعرف من المسلمين
متفقين معنا عليه، وهو أن نحب الموت في سبيل حفظ ما هو لنا أكثر مما يحبه
غيرنا في سلب ما ليس له، وحينئذ إما نبقى أصحاب دولة وشرف، وإما أن نموت
كما يموت الكرام، بعد أن نميت أضعافنا من أعدائنا البغاة.
أيها المبعوثون المخلصون، إنكم تعلمون أن بيع طرابلس بيع للدولة كلها
وقضاء عليها، فإذا عجزتم عن إنقاذها ولم تجدوا من أوربة مساعدًا، فاعلموا أنه
ليس بعد اليوم كوفة، فادفعونا إلى عمل اليائس من الحياة، ووزعوا كل ما عند
الدولة من السلاح علينا، واطردوا جميع أعدائنا من بلادنا، وتعرضوا لجهر أوربة
كلها بمحاربتنا، فذلك أشرف لنا من إسرارها لذلك، وربما كان خيرًا وأبقى. ٢٣
شوال.
* * *
(٧)
(أماني إيطالية وظنونها في مسألة طرابلس الغرب)

صرّح علماء الحرب الذين عرفوا طرابلس الغرب من ألمانيين وغيرهم؛ أنه
ليس في استطاعة إيطالية أن تتجاوز سواحلها، وتتوغل في داخليتها بالقوة العسكرية
لأسباب متعددة:
(منها) شجاعة عرب هذه الولاية الخارقة للعادة، وتصديهم للحرب والكفاح
من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة، مع وفرة السلاح عندهم وتمرنهم على استعماله
وبراعتهم فيه، وكراهتهم لسلطة الأجنبي المخالف لهم في الدين والجنس والعادات
واللغة.
(ومنها) أن العسكر الأوربي إذا تجاوز الساحل دخل في صحاري رملية
وعثاء يعوزه فيها الماء، وما ثَمَّ إلا آبار قليلة ماؤها خمجرير (ثقيل) ، لا يعرف
مواقعها إلا الوطني الخرّيت. وقد يطمونها ويطمسون معالمها فلا يهتدي إليها
غيرهم، على أن ماءها يؤذي الأوربي ولا يؤذيهم.
(ومنها) قلة الزاد، فليس هناك أسواق ولا أهراء، يأخذ منها الجند
الأوربي ما اعتاد التغذي به من الخبز والبطاطس والحبوب والخضر واللحم والخمر،
وأما العربي الوطني فهو يكتفي من الزاد في يومه بكسرة من الخبز أو قبضة من
الشعير أو التمر، ويحارب على ذلك طول العمر.
(ومنها) أن عرب البلاد يستمدون ممن وراءهم من البلاد السودانية وكلها
إسلامية؛ تمدهم وتساعدهم على جهاد عدوهم الذي فرض الله عليهم قتاله بعد تعديه
عليهم، ولا سيما إذا استنجدهم السنوسيون وعرفوهم أن الجهاد يكون فرض عين
على كل مسلم ومسلمة؛ إذا دخل الكفار بلاد المسلمين محاربين فاتحين.
ولا يعقل أن تجهل إيطالية من حالة هذه البلاد ما عرفه الألمان والإنكليز،
فإنها منذ عشرات السنين تمهد السبيل لامتلاكها، وفيها كثير من تجارها وعلمائها،
وكم أرسلت إليها من الضباط للوقوف على شؤونها الحربية، فلماذا أقدمت الآن
على فعلتها الشنعاء بهذه الصورة الشوهاء؟ أفلم تحسب لتلك الأسباب حسابًا، أم
ترضى من الغنيمة باحتلال السواحل، وجعل الأسطول أمامها يحميها إلى ما شاء
الله، أم لها في ذلك رأي آخر رازه ساستها، واعتمد عليه قادتها؟
أقوال حكومة إيطالية وجرائدها تدل على أنها تعتقد أن أهالي طرابلس لا
يحاربونها حربًا ذات بال يخشى أن يطول أمرها، ويتفاهم شرها، وقد استنبطنا
من هذه الأقوال ومما نعرف من سعيها ودسائسها في طرابلس أنها تبني اعتقادها هذا
على عدة دعائم:
(١) ما بذلته من المال والدسائس لاستمالة شيوخ العرب وزعمائهم إليها
وتنفيرهم من الترك، ولاستمالة الشيخ السيد السنوسي وإقناعه بأن إيطالية محبة له
وللإسلام والمسلمين! ! وقد أتعبتها الوسائل حتى استطاعت إرسال هدية إلى الشيخ
السنوسي، وأقنعته بقبولها بسعي أحد التجار المسلمين بمصر، بعدما أخفق سعي
جاسوس وكالتها السياسية هنا في ذلك.
ونحن نرى أن هذه الدعامة متداعية لا تمسك هذا البناء، فهدية ملك إيطالية
إلى الشيخ السنوسي لم تفد ذلك الملك أدنى ميل من السنوسي إليه ولا إلى دولته،
وكل ما بذل لمشايخ العربان يمكن أن يهدم بكلمة واحدة تلقى إليهم وتذاع بينهم،
وهي أن هؤلاء الإيطاليين يريدون إزالة حكم القرآن من هذه البلاد وإخضاع
المسلمين لأحكامهم وإزالة سلطانهم، والتمهيد بذلك لإذلال دولة الخلافة ومحوها من
الأرض.
(٢) مخادعة العرب وغشهم بإيهامهم أنها تريد أن تجعل حكمهم لشيوخهم
وزعائمهم تحت حمايتها، وأنها تحترم شعائر دينهم وتمكنهم من إقامته والعمل به
كما يشاؤون، وقد أوصت الحكومة الإيطالية جيشها الذي أرسلته لاحتلال هذه البلاد
بأن يحترم المساجد وكل ما هو ديني، وأن يبلغوا مشايخ العرب وسائر الأهالي نحو
ما شرحناه من الخداع، ويقيس الإيطاليون مسلمي طرابلس على غيرها من
المسلمين الذين خدعوا من قبل بمثل هذه الوعود، حتى إذا تمكن نفوذ الأجنبي فيهم
هدم أكثر مساجدهم، واغتصب جميع أوقافهم، ومنعهم من تعلم أحكام دينهم، وإنما
يأذن ببعضها دون بعض، وضيق عليهم الخناق لأجل أن يتركوا أحكامهم في النكاح
والطلاق والميراث، وبث فيهم دعاة دينه يفترون على الإسلام وينفرون عنه هذا
ولا يجعل لأحد منهم أدنى سلطة في حكومة بلاده، وشبهته أن هذه حكومة مدنية
وأن المسلمين جاهلون متوحشون، لا يصلحون لإدارة الأحكام وإقامة العدل فيها ما
داموا كذلك.
وهذه الدعامة أوهى من تلك؛ فإن في طرابلس على غلبة الجهل عليها كثيرًا
من العلماء ومشايخ السنوسيين، يعرفون حقيقة ما عليه كثير من إخوانهم المسلمين
الذين سقطوا تحت سلطة الدول الأوربية التي هي أقرب إلى الحرية والعلم والمدنية
والشرف من إيطالية الماكرة الغادرة المجاهرة بالبغي عليهم وعلى دولتهم، وما هم
عليه من الذل والفقر والجهل والحرمان من الحرية والمدنية، ويعلمون أن تلك
الدول لم تف لهم عهدًا، ولم تصدقهم وعدًا، وأنها لا ترقيهم، ولا تمكنهم من ترقية
أنفسهم، وقد يوجد الآن من يبلغهم أن البلاء المبين الذي تدخره إيطالية لهم؛ هو
أضعاف ما يشكو منه غيرهم من المسلمين الذين يعرفون أخبارهم، وغيرهم ممن لا
يكادون يعرفون عنهم شيئًا، وأين المدينة التي أقامت أركانها إيطالية في الإرتيره؟
وكيف وأكثر بلادها الجنوبية نفسها في قارة أوربة (المقدسة) محرومة من المدنية
والعمران، يفر أهلها منها إلى أميركة وغيرها من البلاد، كما يفر الموسوس من
الأرض الموبوءة.
(٣) بثها في هذه الولاية وسوسة الجنسية العربية، والتنفير من الترك
بأنهم أهل ظلم وجور، يبغضون العرب ولا يعرفون لهم حقهم ولا ما يوجبه الإسلام
لهم وقد كادت تقوى هذه الفتنة في طرابلس الغرب وفي غيرها من البلاد بسوء
ذكرى الحكام المستبدين في العصر الماضي، وبما ذاع من أمر السياسة الجنسية
السوءى التي بها عرف زعماء جمعية الاتحاد والترقي في الثلاث السنين الماضية
وحذرناهم من سوء عاقبتها، وأنذرناهم مغبتها، فتماروا بالنذر، وأقدموا على ما
أقدموا عليه من الأقوال والأعمال السياسية والحربية، وهذه التفرقة الجنسية بين
المسلمين، وتقطعهم أممًا مختلفة في الوطن أو اللغة هي أقتل آلات الفتك التي
حاربتهم بها أوربة؛ بإعانة تلاميذها المتفرنجين الذين لا يزالون يبالغون ما
لا يبالغ الإفرنج في التنفير من الرابطة الإسلامية والجامعة الدينية.
كنت أخشى أن تكون هذه الدعامة أقوى الدعائم التي تمهد لأوربة تقطيع
أوصال الدولة العلية، وجعل كل إقليم من مملكتها يغلب فيه جنس من الأجناس
مملكة مستقلة بالاسم فقط، كنت أخشى هذا وهو الذي كان يمكن لإيطالية فيه أن
تزيل سلطة الدولة العلية من طرابلس بمعونة أهل طرابلس أنفسهم. ولكنني أحمد
الله أن استعجلت أوربة باستيفاء جميع غلة هذه الشجرة الخبيثة الملعونة في القرآن
(شجرة عصبية الجنسية) ، فكانت إيطالية هي السبب في اجتثاثها من طرابلس
قبل رسوخ جذورها فيها.
نزعة الجنسية الشيطانية لم تنتشر كثيرًا في طرابلس؛ لأنه قلما يوجد فيها من
قرأ جريدة عبيد الله التي سماها (العرب) وجريدة (طنين) وأمثالها، فلا تزال
الرابطة الإسلامية هي الحاكمة على قلوبهم. وما وصل إليهم من جواسيس إيطالية
ضعيف، ويوجد فيهم من يرشدهم إلى أن الترك إخوتهم في الإسلام، وإن كان الظلم
الذي عرفوه منهم؛ سببه الجهل بأحكام الدين وبالمصلحة العامة، وأنهم كانوا
يظلمون في بلادهم كما يظلمون في البلاد العربية ونحوها. وأن الدولة دخلت الآن
في طور جديد يرجى أن يصلح به حال الجميع، ولكن أعداءها وأعداء الإسلام،
يريدون أن يقضوا عليها قبل إصلاح شأنها؛ لأنهم يكرهون صلاح الشرقيين عامة
والمسلمين خاصة، ويريدون أن يظلوا ضعفاء فقراء ليكونوا خدمًا بل عبيدًا
لأوربة.
إن إيطالية لم تجتث شجرة عصبية الجنسية من طرابلس الغرب فقط، بل
هي قد زعزعت هذه الشجرة الخبيثة في سائر البلاد الإسلامية بهذه البغي والطغيان
وتبع ذلك رسوخ شجرة الرابطة الإسلامية الطيبة، وتشعب أفنانها في مصر
وتونس والجزائر واليمن وسورية والأناطول والأرنؤط وبلاد التتار وإيران
والهند. كان يقول القائل ويكتب الكاتب في الجنسية المصرية وانفصالها من الجنسية
التركية أو العثمانية، واستقلال أهلها دون إخوانهم العثمانيين وغيرهم، وتفضيل
القبط عليهم، فلا يلقى إلا التحبيذ والتصفيق، فنبه هذا العدوان الذي أصفقت عليه
أوربة مسلمي مصر إلى أنهم مسلمون قبل كل شيء، فمن عرض الآن بصرف
المصري عن الاتحاد بالعثماني ومساعدته بماله ونفسه، وعن اعتقاد كون مصلحته
عين مصلحته، وحياته مرتبطة بحياته، لا يلقى إلا اللعن والتحقير من الكبير
والصغير إلا أفراد من غلاة التفرنج أو من المنافقين.
تبيّن بهذا فساد ما كانت تظنه إيطالية؛ من أن عرب طرابلس لا يقاتلونها
قتالاً شديدًا يطول أمره بضعف الدعائم التي بنته عليها، وكانت ترى أن الأمر
ينحصر في مقاومة الجند النظامي، وقد مهدت السبيل إلى جعل هذه المقاومة لا
تأثير لها باستعمال حقي باشا وغيره من أنصاره، كما تستعمل الآلات التي تمهد بها
الطرق التي تمشي عليها، أولئك الأنصار الذين يبخلون بالمال أن ينفق على مثل
طرابلس لحمايتها أو لترقيتها، ولكنهم لا يبخلون به أن ينفق على محاربة الدولة
لأبنائها وأخواتها؛ كما فعلوا في اليمن وغيرها لغير سبب موجب وغير نتيجة
صالحة.
أهمل تحصين طرابلس، وفرق شمل الألايات الحميدية الأهلية التي كانت
مرابطة فيها، ولم يوضع فيها من الجند إلا ما قد يحتاج إليه؛ لأجل تحصيل
العشور والضرائب وحفظ هيبة الحكومة في نفوس الأهالي، وما كان هذا وحده هو
الذي أطمع إيطالية وجرأها على مهاجمة البلاد وإنزال عساكرها فيها، وإنذار الدولة
صاحبة البلاد بأنها تريد ضمها إلى أملاكها، وطلب إقرارها إياها على ذلك بالتهديد
والوعيد.
نعم.. ما كان المجرئ لإيطالية على فعلتها؛ هو خلو البلاد من الحصون
المنيعة والحامية الكافية، ولا الظن بأن مدافعة العرب لا تكون شديدة طويلة، ولا
مشايعة أوروبة لها في الباطن؛ فإن أوربة وإن سكتت لها على عملها ولم تعارضها
فيه لا يمكن أن تعترف لها به رسميًّا، وتعدها به صاحبة البلاد الشرعية، إذ لا
يعقل أن تغمط جميع الدول الكبرى أمام شعوبها الحق بصفة رسمية إلى هذه الدركة
السافلة، وفرق عظيم بين السكوت للمبطل بين السكوت للمبطل على باطله، وبين
الإجماع على تسمية باطله حقًّا بالتصريح الرسمي. وإذا لم تعترف الدول بامتلاكها
لتلك البلاد بمثل هذا البغي والعدوان، يكون للدولة صاحبة البلاد الرسمية أن تطالب
بحقها بالقوة الحربية أو بغيرها في كل وقت، وتكون الباغية في مركز حرج في
جميع تصرفاتها.
إيطالية تعلم هذا، وتعلم أنه إذا تيسر لها احتلال ما وراء الثغور البحرية من
البلاد في زمن قريب أو بعيد بعد خسارة كبيرة أو صغيرة، فإنه لا يتيسر لها أن
تسوسها وتدبر شؤونها، وتكون آمنة مطمئنة فيها، تأتيها المكاسب رغدًا من كل
مكان وهي ليس لها صفة رسمية فيها، تلك أمنية لا ينالها الغاصب لأرض يعلم هو
وأهله وجيرانه والعاملون في الأرض، وجميع من يريد معاملتهم فيها أنه غاصب
ناهب، وأن تصرفاته غير شرعية، ويخشى في كل وقت أن تعصف ريح الحق
فتزلزله أو تزيله منها، فماذا أعدت إيطالية لذلك؟ وما هي الوسيلة التي تتوسل بها
لحمل الدولة العلية على إقرارها على عملها، وجعل مقامها في طرابلس جائزًا في
قانون حقوق الدول؟ ولا تكون اللقمة سائغة هنيئة بل لا يسهل ازدرادها بدون ذلك؟
يمكننا أن نستنبط جواب هذا السؤال العويص من فحوى الأقوال، ومن قرائن
الأحوال، ومن الوقوف على بعض مخبآت السياسة، ومذاهب الزعماء وأهل
الرياسة، وهو أن إيطالية ترى أنها إذا احتلت طرابلس بالفعل، فإن حمل الدولة
العثمانية على إقرارها على الاحتلال أمر يسير غير عسير لأربعة أسباب:
(أحدها) علمها بأنه لا يمكنها إخراجها بالقوة؛ لضعف أسطولها، ومنع
إنكلترة لها من إرسال جندها بطريق مصر.
(ثانيها) علمها بأن أوربة لا تكره إيطالية على الخروج عملاً بالقاعدة (ما
أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال) .
(ثالثها) إن بعض أصحاب النفوذ من المتفرنجين العثمانيين؛ يرون مثل
هذا الولاية من الأطراف البعيدة عن كرسي السلطنة، لا تستحق أن ينفق عليها
شيء من المال لأجل حمايتها أو ترقيتها، وأنه إذا أمكن الاستعاضة عنها بمال ينفق
في العاصمة وما يليها يكون أولى، وأن بيع طرابلس الغرب أسهل وأولى من بيع
البوسنة والهرسك.
(رابعها) مساعدة الحزب الألماني في الدولة على ذلك. ونفوذ هذا الحزب
في جمعية الاتحاد والترقي وفي ضباط الجيش العثماني عظيم، ومن رجاله المؤثرين
دهاقين اليهودية في سلانيك والآستانة وأبناء عمهم من الصابئين. هذه هي آراء
إيطالية أو أمانيها.
أما الصورة التي رسمتها بإرشاد حليفتها ألمانية لتنفيذ ذلك فهي - على ما
ظهر لنا - أن إيطالية تدعي بعد احتلال طرابلس؛ أنها تريد جعلها ملكًا خالصًا لها
وتنذر الدولة العثمانية بطشتها الكبرى إذ لم تقرها على ذلك، بأن تأذن لأسطولها
بضرب ما شاء من موانيها وجزرها واحتلال ما شاء منها، فعند ذلك تنبري ألمانية
للصلح باسم الصداقة والمحبة الخالصة لهذه الدولة ولجميع العثمانيين والمسلمين؛
لأجلها كما قيل: لأجل عين ألف عين تكرم، وتخدمها كما خدمتها في مسألة بيع
البوسنة لحليفتها الأخرى النمسة، فتأخذ لها مبلغًا من المال، وتحمل إيطالية على
الاعتراف بسيادة السلطان الاسمية على طرابلس.
نعم.. تذيع إيطالية أنها لا ترضى بأن يبقى للسيادة العثمانية هنالك اسم ولا
رسم، وهذا تمويه تمهد به السبيل لإرضاء العثمانيين باسم السيادة؛ ليقال: إن
إيطالية تنازلت عن بعض مطالبها في الصلح؛ إكرامًا لحليفتها ألمانية، وحبًّا
في السلام وكراهة الحرب.
ربما يكون قد بدا لإيطالية ما لم تكن تحتسب في هذه الأسباب الأربعة، كما
بدا لها ما لم تكن تحتسب في تلك الدعائم الثلاث، فخاب من ظنها في الترك مثلما
خاب ظنها في العرب، وربما كان اعتمادها الظاهر على نفوذ ألمانية في الدولة،
هو الذي يزلزل هذا النفوذ منها أو ينسفه في اليم نسفًا، ولم يبق في هذه المقالة
مجال للإطالة في هذه المسألة، ولكن لا بد من ختمها ببيان كون إيطالية لا تريد أن
تزيل اسم السيادة العثمانية كما تزيل جميع رسومها، ولا سيما إذا كان بغير إقرار
الدولة العثمانية ورضاها.
تعلمت أوربة من إنكلترة داهية الاستعمار وفيلسوفته أن حكم الشعوب ولا
سيما الإسلامية منها باسم الحماية أو الاحتلال المؤقت أو غير المؤقت، وإدارة
بلادها بواسطة رجال من أفرادها، هو أسلس قيادًا وأسهل طريقًا، وأسلم عاقبة
وأخف تبعة، وأفعل في تخدير الشعور واطمئنان القلوب، وصرف العقل عن
استنباط الحيل للمقاومة والخروج، ولهذا تريد أن تسوس فرنسة المغرب الأقصى
كما تسوس دابة تونس السلسة المذللة، لا كما تسوس دابة الجزائر الجموح الصعبة.
لم تدخل أوربة بلادًا شرقية أوسع علماء ومدنية من مصر، ومع هذا ترى
إيطالية أن أحزاب مصر السياسية لا يشكون من الإنكليز المتصرفين في كل شيء
عشر معشار ما يشكون من الحكام الوطنيين في جميع الأعمال، فالإنكليز يعملون
والتبعة واللائمة على غيرهم فيما ينتقد، والعالم كله ينسب إليهم كل ما يستحسن،
ولم يضر مصالحهم اعترافهم بسيادة الدولة العثمانية على البلاد، بل هو نافع لهم
ومضعف للنفور منهم.
بعد كتابة ما تقدم بشرتنا أنباء الآستانة بأن الوزارة قد أبرمت العزم على
مقاومة إيطالية، وعدم الجنوح لسلم يضيع به شيء من البلاد، وصلح يذهب به
شرف الأمة والدولة، وأن مجلس المبعوثين أيد الوزارة بناء على عزمها هذا،
فحمدنا الله تعالى أن حقق رجاءنا في دولتنا وحكومتنا، وخيب ظنون الدولة الباغية
علينا، وسوف على الباغي تدور الدوائر.
وههنا نصرّح لحكومتنا العلية بما وصل إليه علمنا واختبارنا، وهو أن بيع
طرابلس لإيطالية المهينة لنا التي عجزت عن حرب الحبشة من قبلنا، يعد بمثابة
انتحار الدولة (حماها الله تعالى) ، سواء كان استيلاء هذه الباغية على طرابلس
باسم الاحتلال أو باسم آخر، نعم.. إنه انتحار لأنه يسقط قيمة الدولة ونفوذها
وقيمتها الدينية والسياسية من نفوس رعيتها ومن نفوس جميع المسلمين، بل يخشى
أن تكون عاقبته شرًّا من ذلك، أعز الله الدولة ووفقها لما فيه قوتها وشرفها دائمين
ما دامت السموات والأرض.
... ... ... ... ... ... ... ... في آخر شوال ١٣٢٩
(للمقالات بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))