للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار

جاءنا في أوائل العام أسئلة من (لنجه في خليج فارس) أجبنا عنها في الجزء
الثالث، وكانت تلك الأسئلة مبنية على انتقاد بعض الناس على المنار الاستقلال
بتفسير القرآن وإتيانه بمعان فيه لم تنقل عن المفسرين، وقد سئل عن ذلك عالم
لنجه الشيخ عبد الرحمن يوسف الملقب بسلطان العلماء فأجاب عنها، وقد كتب إلينا
ولده بعد ذلك أن المنتقد أنكر من جواب المنار أمورًا.
(أحدها) قول المنار (ص ١٨٦) : (الذي يؤخذ من مجموع الروايات في
تفسير السلف لهذه الآية: أن اللام في العدل ليست للجنس) .. إلخ. قال المنتقد: إن
الآية ليس فيها لفظ العدل فيبحث عن لامه، وإن العبارة تدل على أن صاحب المنار
مضطر إلى التقليد (وتوقيف الذهن على ما ذكره المفسرون) (كذا) .
(ثانيها) قول المنار (ص١٨٧) : إن العدل الذي يدخل في استطاعة
الإنسان واجب حتى في معاملة الأعداء وقال: (يا لله العجب إذا فرق زيد صدقته
المندوبة، فأعطى عمرًا مئة وخالداً ألفًا، هل يعد مخالفًا للواجب.. . وإنما العدل
الواجب في الأقضية) .
(ثالثها) قول المنار: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيدان
المأمور والمنهي علمًا، يبعث إرادته إلى العمل به) قال المنتقد: (إنه استنباط
معنى من النص يخصصه؛ وهو وإن كان مختلفًا فيه عند الأصوليين، إلا أن قولنا:
إن العالم بما يفعل لا يؤمر ولا ينهى، قول منكر ينهى عنه) .
(رابعها) قول المنار: (ولهذا كان واجبًا) أي: لأنه يفيد ما ذكر. قال
المنتقد: (هو استنتاج عجيب، ولا شك أنه من عثرة القلم سيما حصره علة
الوجوب) .
ثم طلب الكاتب دفع خرافات هذا المنتقد ووصفه بعدة أوصاف لا نذكر منها
إلا أنزهها، وهو أنه متهور يؤذي العلماء والدين، وإن دفع خرافاته يفيد أهل تلك
البلاد. فأقول:
يظهر أن هذا المنتقد من أهل المراء والجدال لا من طلاب الحق فيما يقوله أو
ينتقده، ومن كان كذلك ينبغي عدم الالتفات إلى انتقاده إلا إذا كان يؤذي الناس. فإذا
كان همه موجهًا إلى تخطئة المنار في بعض المسائل، فالخطب سهل؛ فالمنار غير
مؤيد بالعصمة، وليدلنا على كتاب من تأليف البشر ليس فيه خطأ ولا غلط، ولم
ينتقد أحد عليه شيئًا.
أما عبارة المنار في لام (العدل) فالمراد بها ظاهر لغير المماري الذي
يلتمس حرفًا ينكره، ولا ينظر في جملة القول والمراد منه؛ ذلك بأنه علل في
السؤال كون العدل غير واجب (بإخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع) هذه
عبارته، فإذا كان الفعل لا يدل على المصدر عنده ولا يؤول به وإن اقترن بأن
المصدرية، فلماذا صرح هو نفسه بأن الله أخبر بأن العدل غير مستطاع، ولفظ
العدل لم يرد في الآية؟ وإذا كانت عبارة المنار جوابًا عن قوله هذا، فلم لم يجوِّز
أن تكون كلمة العدل فيها قد ذكرت حكاية للفظه هو؟ وأن يكون تقدير الكلام أن
العدل الذي قلت: إن الله تعالى قد أخبر بأنه غير مستطاع، ليس هو جنس العدل
وإنما هو عدل خاص.. إلخ ما هناك، أي: فلا يتم زعمك أنه غير واجب، على
أن لفظ العدل ورد في بعض روايات تفسير الآية، فيجوز أن تحمل عبارة المنار
على حكاية ذلك.
وأما زعمه أن نقل المنار روايات المفسرين يدل على اضطرار صاحبه إلى
القليد، فهو بديهي البطلان؛ فما كل من نقل مضطر إلي تسليم ما نقله، وما كل
من سلم ما نقله وقبله يكون مقلدًا لمن نقله عنه؛ لجواز أن يقبله لقوة دليله، وقد
اشترط بعض الأصوليين في الاجتهاد العلم بفروع الفقه منهم: الأستاذ أبو إسحاق
الإسفرايني والأستاذ أبو منصور وأبو حامد الغزالي وخصه هذا بمثل أهل زمنه -
وزمننا أولى - فإذا جاز أن يتوقف اجتهاد الإنسان على وقوفه على اجتهاد غيره،
أفلا يجوز أن يتوقف على ما روي عن السلف في فهم القرآن، وهو أقرب إلى
تحرير اللغة وتفسير الاصطلاحات الشرعية منه إلى الاجتهاد والاستنباط؟
وأما إنكاره ما أوجب الله من العدل الممكن في المعاملة، وحصره العدل
الواجب في الأقضية، فهو أغرب ضروب تهافته وأدلة جهله، وأقرب الحجج
الدامغة له ما يجادل ويماري في موضوعه، وهو العدل بين النساء، فهل يصل به
التهور الذي وصف به إلى أن يزعم أن العدل لا يجب بين الزوجتين إلا في
القضاء بين يدي الحاكم؟ وقال الله تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: ٨) وليس في الآية قرينة تخص هذا
العدل بالحكم، وصرح المفسرون بعموم العدل فيها مع الأعداء وشموله للأحكام
والأعمال، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: ١٥٢)
كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: ٥٨) فهذا هو العدل في الأحكام، وذاك هو العدل
بالأقوال، ومن الأمر بالعدل العام الشامل لكل قول وفعل وحكم، قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: ٩٠) وقال صلى الله عليه وسلم: إن
الله كتب الإحسان في كل شيء. أي بنص هذه الآية وأمثالها، والعدل أولى بأن
يكتب، لأنه أهم، والحاجة إليه أعم، وعدمه سبب الخراب والدمار.
وأما شبهة المنتقد التي أوردها، فتدل على أن المِراء قد أفسد عليه فهم
ضروريات اللغة والعرف، فإن صدقة التطوع وإعطاء بعض الفقراء منها أكثر من
بعض ليست مما يدخل في باب العدل والظلم؛ إذ ليس لأحد الفقيرين حق على هذا
المتصدق المتطوع ولا ماله شركة بينهما فيقسمه بالعدل والمساواة، وإنما هو محسن
والله تعالى يقول: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: ٩١) .
وأما قوله: إن المنار قد استنبط معنى من النص يخصصه.. إلخ، فهو قول
من لم يفهم عبارة المنار، وما أظن أن يستطيع أن يفهمها وهو يجهل ضروريات
اللغة والشرع، فهذه عبارة تهدم أقوى شبهات فلاسفة هذا العصر التي يؤيدون
بها مذهب الجبر، وهي قولهم بالأفعال المنعكسة المركبة، ومن إضاعة الوقت
وخسارة الصحف أن نطيل الكلام مع مثل هذا المماري في مثل هذه المسألة.
* * *
(التبرك بزيارة الصالحين)
كتب إلينا بعض القراء من دمشق يقول بعد الثناء:
قرأت في مناركم الأغر في الجزء الرابع من المجلد الرابع عشر جوابكم على
سؤال الاستمداد من الأنبياء، قلتم: ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على
نوعين: نوع يعدّ شركًا كطلب الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من
الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد أشركه معه. وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان،
وأما الذي غمض عليَّ، فهو قولكم: (ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة
الأسباب، وهو ما يطلبه المتصدقون من أهل العلم بزيارة الصالحين، وقربهم أو
ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى
ويعبرون عن هذه الزيادة الذي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا
يدعونهم من دون الله، ولا يفعلون ما لم يفعله السلف) وإني أرى هذا هو عين
الشرك؛ بدليل قولكم: وهو ما يطلبه المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين
وذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم، وهذا الطلب لا يكون إلا من الأموات،
ومعلوم أن الاستمداد من الأموات شرك لا مرية فيه. وأما قولكم: ولا يفعلون ما لا
يفعله السلف، ففيه أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح زيارة الأموات مع ذكر
المناقب بل الأمر بالعكس، كانوا يناضلون هذه البدع أشد المناضلة، وإني أعتقد أن
من جملة الأسباب التي أوقعت الإسلام في الكسل والخمول هو سموم بعض أفكار
المتصوفة الذين ظنوا أن الدين بالتقشف واعتزال الناس، ثم سرت في أفئدتنا حتى
أصحبنا نظن أن كل ما قاله المتصوفون حق. هذا، وأرجو من إخلاصكم إظهار
هذه الحقيقة حتى يتبين الصبح لذي عينين، وإن الله مع المتقين.
(المنار)
يظهر أنكم فهمتم من كلمة (يطلبه المتصوفون) الدعاء والطلب
القولي، وأننا أبحنا دعاءهم كما يدعى الله عز وجل، مع علمكم بأننا نصرف معظم
العمر في مقاومة أمثال هذه البدع، وغفلتم عن تصريحنا بكونهم (لا يدعونهم) ،
وعن قولنا: (بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وتصور أحوالهم) وهو
متعلق بيطلبه المراد منه، يقصده ويبغيه. والمعنى أن الصوفي العالم بدينه الملتزم
لسيرة السلف، يبغي ويقصد من زيارة الصالحين والقرب منهم في حال حياتهم،
ويذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد مماتهم أن ينمو في نفسه حب الخير
والصلاح والتقوى التي هي صفات الصالحين، وذلك أن رؤية الصالحين والقرب
منهم ومشاهدة سمتهم وهديهم يؤثر في النفس ويبعث فيها القدوة، وكذلك ذكر
مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد موتهم، وبضد ذلك معاشرة الفساق والأشرار
وقراءة أخبارهم، وتصور أحوالهم في فسقهم وإسرافهم، يشوق النفس إلى المعاصي
ويقودها إلى الاقتداء بهم؛ ولذلك صرحنا بأن هؤلاء الذين أجزنا فعلهم، وبينا
قصدهم، يلتزمون سيرة السلف الاستمساك بالسنة واتقاء البدعة، ولا يدعون
مع الله أحدًا، وما كل المتصوفة هكذا.
* * *
(الذكر بالألفاظ المفردة)
كتب إلينا صديقنا الشيخ أحمد محمد الألفي ينتقد ما كتبناه في الجزء الثاني؛
ردًّا عليه في عدم مشروعية الذكر بالألفاظ المفردة، فنترك مما كتبه مناقشاته في
أقوال زيد وعمرو، ممن ليس قولهم حجة في الدين بإجماع المسلمين، ومنهم
الفقهاء والصوفية الذي نقل عنهم، بل عزى إليهم مشروعية ما ذكر، وقال: إنه لا
يعقل أن يبنوا عملهم على غير أصل ثابت، فإنهم هم لا يدعون أن كلامهم حجة،
ونترك دعواه: (إن المذاهب الأربعة أجمعت على مشروعية الذكر بالاسم المفرد
مطلقًا) فإن المذاهب لا يعزى إليها الإجماع، وإنما يعزى إلى جميع المجتهدين،
فإن أراد أن الأئمة الأربعة هم الذين أجمعوا، فليأتنا بنصوصهم وإن كان إجماعهم
وحدهم ليس حجة عند الأصوليين؛ ولنترك البحث في نقله عن أبي حنيفة أنه
أوصى أبا يوسف بما نصه: (وأكثر ذكر الله فيما بين الناس ليعلموا ذلك منك)
فإن هذا لو كان نصًّا في محل النزاع لكان له غنى عنه بمثله في القرآن الكريم،
فهنالك الحجة البالغة، ولكنه ليس نصًّا وإلا لما كان ثمَّ محل للخلاف، وإذا كان
يسمي مثل هذه العبارة نصًّا في المسألة، فلا يعتد بشيء من فهمه ولا نقله بالمعنى؛
نبرئه من قصد هذا، ونترك مثل ما أشرنا إليه من قوله، ونكتفي منه بما هو
مظنة الدليل، ونبحث فيه وهو:
(١) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: ١٨٠)
قال: أي نادُوه بها بأن تقولوا: يا الله، كما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه -
وأقول: إن صديقنا حفظه الله قد ذهل ذهولاً ما كان ينتظر منه؛ إذ جعل النداء
ذكرًا مفردًا، ونسي نصوص النجاة في ذلك، وما عهده بدراسة النحو وتدريسه
ببعيد.
قوله: حديث الأنوار وارد في فضائل الأعمال، ولا يخفاكم جواز العمل فيها
بالحديث الضعيف، ولم نعلم أن أحدًا من الحفاظ قال بوضعه، وإن قال أحد فليس
متفقًا عليه، وحينئذ فلا معنى لمنع الاستدلال به اهـ.
أقول: يعني بحديث الأنوار ما تقدم في (ص١٠٠) وهو: (إذا قال العبد الله
خلق الله من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يقول الله الله حتى يغيب في علم الله، وهو
يقول: الله الله) ومن العجائب أن يشترط اتفاق المحدثين على القول بوضع الحديث
لمنع الاستدلال به، ولا يكتفي بقول واحد منهم: إنه موضوع. وهذا شرط ليس له فيه سلف ولا يجد له فيه خلفًا. وهبْ أنّه لم يقل أحد قط بوضعه ولا بتصحيحه
ولا بتحسينه ولا بتضعيفه، فهل يكون حجة على مشروعية عبادة من العبادات
بمجرد ذكره في كتاب مثل الأنوار بغير سند؟ ليذكر لنا المنتقد الفاضل من
خرج هذا الحديث من الحفاظ أصحاب الصحاح أو السنن أو المسانيد ذات الأسانيد
المعروفة. وأما الذين جوزوا العمل بالحديث الضعيف في الفضائل، فقد اشترطوا
فيه شروطًا ثلاثة:
(أولها) أن لا يكون ضعفه شديدًا.
(وثانيها) أن يكون العمل الذي يحث عليه، قد ثبتت مشروعية جنسه.
وعبارة السخاوي نقلاً عن شيخ الحافظ ابن حجر: أن يكون مندرجًا تحت أصل عام،
فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. قال السخاوي عن شيخه:
(الثالث) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - ما لم يقله. قال: والأخيران عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن
دقيق العيد، والأول نقل العلائي والاتفاق عليه اهـ. ونقل قبل ذلك عن ابن
العربي المالكي أن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقًا. وأما الموضوع فلم يقل أحد
بجواز العمل به في حال من الاحوال، والشروط الثاني والثالث أن الحديث
الضعيف يعد مقويًا لتلك الفضيلة التي ثبتت بدليل آخر، وموضوع بحثنا إثبات
الحكم بالحديث الضعيف استقلالاً، وهو لا يدخل في ذلك، ولا يقال: إن تكرار
الأسماء المفردة داخل في عموم الأمر بالذكر، فيتحقق فيه الشرط الثاني؛ لأنه محل
النزاع، ومثل هذا نهي الفقهاء عن صلاة الرغائب وصلاة شعبان وعدهما بدعتين،
ولم يقولوا: إنهما داخلتان في عموم صلاة التطوع.
هذا، وإن الحديث الذي يتعلق به المنتقد على عدم جواز الاحتجاج به، ليس
نصًّا في محل النزاع؛ لجواز أن يكون المراد بذكر العبد اسم الله: ذكره في صيغ
الأذكار لمشروعه كالتهليل والتسبيح، إلا أن يقال: إن ما يرد من أقوال الملائكة
في أخبار عجائب الخلق، يعد من العبادات التي يكلفنا الله إياها. وإنما ذكرنا هذه
العبارة عنه لأجل التذكير بهذه الفوائد، وإلا فالحديث ليس مما يجعل محل البحث.
وجملة القول في هذه المسألة: أن الكتاب والسنة حثَّا على ذكر الله -عز
وجل- وورد فيهما تفسير ذلك وبيانه مفصلاً تفصيلاً: كالتهليل والتكبير والتسبيح
والتحميد والتلاوة والدعاء والاستغفار؛ ففي حديث أبي هريرة في الصحيحين (إن
لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون
الله، تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، قال: فيسألهم
ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي؟ قال يقولون: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك
ويمجدونك) الحديث وهذا لفظ البخاري وزاد مسلم: ويهللونك ويسألونك. ورواه
البزّار من حديث أنس بلفظ آخر أوله إن لله سيّارة من الملائكة يطلبون حِلَقَ الذّكر
وفيه أنهم يقولون لله - عز وجل -: ربنا أتينا عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون
كتابك، ويصلون على نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم؛
فهذا هو تفسير الذكر وبيان ما يكون في مجالس الذكر وحلق الذكر كما أخبر
الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن خطاب الملائكة لرب العالمين، ولم نجد
في حديث ما أنهم عدوا منه: هو هو هو، حق حق، وما أشبه ذلك من الألفاظ
المفردة كما أننا لم نجد في شيء من كتب الحديث الأمر الصريح بذكر هذه
الألفاظ المفردة وتكراراها، ولا ذكر ثواب لمن يقولها، ولا أن النبي صلى الله عليه
وسلم أو أصحابه رضي الله عنهم كانوا يكررونها كما نعهد من أهل الطريق، ولكن
الأحاديث كثيرة في التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار المركبة
ذات المعاني، فلماذا لم يروِ لنا أصحاب الصحاح والسنن حديثًا في
الترغيب بذكر اسم من الأسماء يكرر مفردًا؟ ولماذا يترك أهل الطريق الأذكار
الواردة ويلتزمون هذه الألفاظ المفردة، وتُلحُّون في الانتصار لهم، وتحيلون وقوع
الخطأ منهم، مع مشاهدة كثير من البدع فيهم؟
أما حديث السنن في قيام الساعة، فقد بينا معناه في الجزء الثاني، وهو لم
يرد في سياق تشريع من ترغيب أو ترهيب، وإنما ورد في الخبر عن الغيب
وكيف يكون الناس عند قيام الساعة، أي: إنهم يكونون ملاحدة أشرار لا يقول أحد
منهم: الله فعل كذا، الله أنعم بكذا. وإنما يضيفون كل شيء إلى سببه أو إلى نفسه أو
إلى الطبيعة، ولا يذكرون خالقهم وخالق الأسباب كلها رب الطبيعة ورب كل شيء
ومليكه، ولا يعقل أن يكون معنى الحديث أن شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة
هم الذين لا يكرون ذكر لفظ الجلالة مفردًا غير واقع في كلام مركب مفيد؛ لأن هذا
ليس عنوانًا على منتهى الكفر والشر، وزوال الخير من الأرض، بل ولا على
التقصير في عبادة الله عز وجل، فقد كان السلف الصالحون أعبد الناس وأقواهم
إيمانًا، ولم ينقل عنهم المحدثون مثل هذا.
ثم إنني أختم هذا الجواب بتذكير أخينا المنتقد؛ بأنه إذا كان يريد أن يكون
على بصيرة في أي حكم أو مسألة دينية ويأخذها بدليلها، فعليه أن يراجع فيها كتاب
الله ودواوين السنة المعتمدة، وألا يجعل من أصول الدين ودلائل الشرع ما فشا بين
الناس في شر القرون، وإن شايعهم فيه المؤلفون وأوله لهم المؤولون. وأما إن كان
لا يعقل أن ما يقوله: زيد وعمرو، وخالد وبكر، وما دون في مثل كتاب الأنوار
والأسرار، ونزهة المجالس وربيع الأبرار، إلا أنه هو الحق، الذي شرعه الله
للخلق. فعليه أن يترك الدلائل، ويجاري الناس فيما هم عليه، فالمقلد ليس من
أهل الاستدلال، ثم إذا كان يرى أنه معذور في اتباع رأي كل مؤلف أو بعض
المؤلفين الذين يثق بهم، هو ومن تربى بينهم، كما يفعل جماهير الناس من أهل
كل ملة، فعليه أن يعذر من يتبع نص الكتاب والسنة؛ إذ هو أحق بأن يعذر
والسلام.