للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


أسئلة من الهند

بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم صاحب المنار المنير دام
إقباله ثم سلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فقد اطلعت على الجزء الرابع
من المجلد الثاني عشر لمناركم المنير، ورأيت في باب الفتاوى السؤال الذي هو
لأحد أبناء البلاد العربية في صدد (الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر)
والجواب عليه من علماء الأزهر الشريف مع تذييلكم عليه بما فيه من التشديد
والنكير على الإطلاق وتكفير فاعله ومن حضره [١] . فعجبت جدًّا لهذا الجواب
الذي لا يشوبه أدنى ريب؛ لأن أمثال هذا في نواحينا كثير، والعلماء أكثر، وكلهم
من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي يجوِّز ذلك ويعده من الشعائر الدينية.
والحقيقة يا سيدي أن الإنسان لَيحار جدًّا وتكاد تُشكل عليه أمور دينه من حيث
إن الأزهريين ومن أشرت إليهم من علمائنا كل منهم مقلد لمذهب من هذه المذاهب
ومع ذلك نرى الفرق كبيرًا بين ما يقوله هؤلاء وأولئك من جواز وتحريم، فلَيْت
شِعري ما هذا الخلف وما هذا الإشكال؟ وليت شعري كم لمالك من مذهب وكم
للشافعي وأخويه من مذاهب؟ أرشدونا إلى الطريق القويم أرشدكم الله إلى خير
الدارين. ثم يقول الأساتذة الأزهريون (وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة
والنغمات المطربة فهو حرام لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال -إلى قولهم- قال
الإمام الأذرعي: إني أرجح تحريم النغمات وسماعها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:
(إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) إني أسلم بتحريم النغمات
إذا كان يراد منها الأشعار المحدثة والنغمات المطربة، ولكن ما قول سيدي الأستاذ
في خطبة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم حيث إن الاثنين لا يتلوان إلا بالألحان كما لا
يخفاكم، فهل هذا الفسق والنفاق والكفر يتناول هذين أم لا؟ وإذا كان ذلك فما هو
ذنب من حضره -أعني السامع- وما هو إلا متبع ومقلد، كما أن الخطيب في
نواحينا وسائر الأقطار الإسلامية إلا القليل لا يُدعى خطيبًا إلا إذا كان ذا صوت
جميل وكذلك تالي القرآن الحكيم فما هو قولكم في ذلك؟ وما هو معنى قوله تعالى:
{وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: ٤) أجيبونا عن ذلك وسامحني يا سيدي إذا
أخذت جانبًا من وقتكم النفيس أدامكم الله سراج هدى يهتدي به من ضل عن محجة
الصواب واقبلوا في الختام فائق احترام المخلص ناصر مبارك الخيري.

(أجوبة المنار عن هذه الأسئلة)
المذاهب واختلاف فقهائها
اعلم يا أخي أن المجتهد لا يكون له في المسألة إلا رأي واحد ومن نُقِلَ عنه
قولان أو أكثر في مسألة واحدة فإما أن يكون قد قال أحدهما في وقت ثم رجع عنه
فقال القول الآخر في وقت آخر، وإما أن يكون النقل عنه غير صحيح، والمسائل
التي يتردد فيها ليس له فيها رأي.
والمذهب له في عرف الناس إطلاقان، عامي وخاصي (فالأول) هو نقل
الأحكام التي قررها أو أفتى بها المجتهد، فمن عرفها وعمل بها من غير وقوف
على دليل المجتهد عليها واقتناعه به يسمى مقلدًا له، وهذا هو معنى المذهب الذي
يدعيه الآن جميع المنتسبين إلى المذاهب؛ لأنهم يظنون أن ما يقوله فقهاء مذاهبهم
وما هو منقول في كتبهم كله مروي عن أئمتهم، وأن هؤلاء الفقهاء لا حظ لهم منه
إلا نقله وتفسيره، وعلى هذا بنيتم تعجبكم من تناقض فقهاء كل مذهب في المسألة
الواحدة. والصواب أنه يقل في هؤلاء الفقهاء من اطلع على كتاب للإمام الذي
يدعي أنه درس فقهه أو قرأ شيئًا مما نقله عنه تلاميذه ككتاب الأم للشافعي والمدونة
لمالك وكتب أبى يوسف ومحمد صاحبي أبى حنيفة رحمهم الله ورضي عنهم،
وإنما قرءوا بعض كتب المتأخرين التي سنذكر لها وصف أصحابها، وما فهموها
حق فهمها، وكلهم يتجرأ على الفُتيا فتختلف فتاواهم، وتتناقض آراؤهم، وفي كل
قطر أفراد منهم، يثق بهم عوام بلادهم، كما هي عادة جميع العوام من جميع
الملل مع رؤسائهم، يقلدونهم كيفما كانوا ومهما كانت درجة علمهم أو جهلهم، فإن
قاعدة التقليد والاتباع هي أن يثق الأدنى بمن هو أرقى منه ولو في القراءة والكتابة
مطلقًا، فالأمي يرى متعلم القراءة أو الكتابة أرقى منه، وإن كان عاميًّا مثله. وكل
هؤلاء المفتين عاميهم ومثقفهم وفقيههم (إن وجد) ينسبون كل ما يفتون به إلى أئمة
المذاهب ويتعززون بأسمائهم ويتخذون هذه الأسماء أتراسًا ومجانَّ يدافعون بها كل
من يتصدى لإرشاد العامة وينهاها عن البدع والخرافات، بل يتخذونها سلاحًا
يحاربون به السنة وأنصارها.
الإطلاق الثاني هو بمعنى ما يسمونه الآن بالمسلك والمبدأ وهو طريقة المجتهد
في استنباطه للأحكام وأصوله التي يفرع عنها كما بين ذلك في علم الأصول، وهذا
هو المعنى الذي كان يقصده أصحاب أولئك الأئمة من الانتماء إليهم في عصرهم.
ولم يكن أصحابهم مقلدين لهم يأخذون كلامهم قضايا مسلَّمة بغير دليل بل تعلموا منهم
الاستدلال، ونقلوا عنهم علمهم ليكون مثالاً يُحتذى في استنباط الأحكام، كما صرح
بذلك المُزَني صاحب الشافعي في أول مختصره إذ قال: (اختصرت هذا الكتاب
من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلامية
نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) .
ثم جرى على ذلك من بعدهم من العلماء ووسعوا دائرة الاجتهاد والاستنباط
على ذلك النحو والمذهب، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف رضوا أن يكونوا عيالاً
على من قبلهم واستنبطوا الأحكام من عباراتهم، وفشت بدعة التقليد والأخذ بقول
من يوثق بشهرته من غير دليل، وما زال الناس يتدلون إلى أن وصلوا إلى قرار
الهُوة التي تعجب السائل من اضطرابهم واختلافهم فيها. وسننشر إن شاء الله تعالى
في جزء تالٍ جملة مفيدة في هذا البحث عن كتاب الإرشاد للعماد السكري رحمه الله
تعالى.
وجملة القول أن سبب اختلاف من يسمونهم الفقهاء من أهل المذهب الواحد،
هو أنهم ليسوا ملتزمين للنقل عن إمام أو عالم معين كما هو مقتضى التقليد الذي
يدَّعونه ولا جارين على أصول واحدة في الاجتهاد الذي يأتونه وينكرونه، فلا
عجب إذًا في اختلافهم واضطرابهم، ولا عبرة في دعواهم الانتساب إلى أولئك
الأئمة رضي الله عنهم.
وهاهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي دعوى المقلدين أن فائدة التقليد منع
تشعب الخلاف في عامة الأمة، وخاصة إذا حصر في عدد قليل كالأربعة. وهذه
الدعوى ممنوعة لا في مجموع المذاهب فقط بل في مقلدة كل مذهب مذهب أيضًا
كما بين السائل، وكما هو مشاهد لكل ناظر، وسبب ذلك أنه لم يتفق للمنتمين إلى
مذهب من المذاهب المشهورة، المنتشرة في أقطار كثيرة، أن يتفقوا على دراسة
كتاب أو كتب معينة ويعملوا بها على سواء، سواء كانت كتب إمام ذلك المذهب أو
كتب بعض المؤلفين المنتمين إليه، وإنما يتبعون في كل قطر من تصدروا فيهم
للتعليم والفتوى فيحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا، ويجرون على ما
أقروهم عليه من البدع، ويتركون ما تركوا من السنن، وهؤلاء المتصدرون
يتفاوتون في علمهم واجتهادهم - وكل منهم يجتهد في الوقائع التي تحدث في عصره،
وإن أنكر الاجتهاد بلسانه وقلمه، وإنما ينكره على غيره إذا خالف هواه فيه؛
ولذلك تتفاوت أعمال المتبعين لهم.
وثَمَّ مسألة أخرى يغفل عنها الناس وهي أن علم الفتوى عند كثير من المتفقهة
في أكثر البلاد الإسلامية لا صلة له بالعمل، فترى أحدهم يحضر الدعوات
والاحتفالات، التي تؤتى فيها البدع والمنكرات، ويهنئ أهلها ويدعو لهم، ولا ينكر
عليهم شيئًا من عملهم، ولكنه قد يقرر في الدرس أو يكتب في الفتوى أو المصنفات
أن هذه الأشياء من البدع والمنكرات، وربما يصفها بأنها مما عمت به البلوى،
ومنها ما يحلونه بالتأويل، ومنها ما لا يجدون له تأويلاً، فإذا فطن السائل لما ذكرنا
يذهب تعجبه ويزول استغرابه مما ذكره. وسيرى في الفتوى السادسة بعد هذه أن
بعضهم أحل أكل أموال المعاهدين والمستأمنين ولو بالخيانة والسرقة، وهذا من
أغرب شواهد المسألتين.
ويدلنا ما ذكر على أن الهداية التي يجب الرجوع إليها إذا اختلفت الأدلاء،
وعمي الأمر على الناس، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وسيرة السلف الصالح في العمل بها {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} (النساء: ٥٩) .
إنشاد الشعر بالنغمات
إذا حكَّمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة لا نجد
فيهما دليلاً على تحريم إنشاد الشعر بالنغمات والحديث الذي ذكروه لا يصح فقد رواه
أبو داود والبيهقي عن ابن مسعود وفي إسناده شيخ لم يسمَّ، وفي بعض طرقه ليث
بن أبي سليم قال النووي: إنه متفق على ضعفه. وقد فصلنا القول في هذه المسألة
تفصيلاً في الجزء الأول وما بعده من مجلد المنار التاسع وفيه أن الغناء قد يحرم
حرمة عارضة ويكره الاستكثار منه ولكن الأصل فيه الإباحة. ويستحب في الزفاف
والعيد وعند قدوم المسافر كما بيناه هنالك فلا هو فسق ولا كفر ولا نفاق.
الخطبة بالألحان والسنة فيها
روى مسلم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أنه قال (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر
جيش يقول: صبحكم مساكم) الحديث فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة، وهذا ما
يُرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرعت لأجله، وكل أداء يخالفه فهو مكروه وأشده
كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم، وإذا قيل بحرمة
هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيدًا؛ لأنه على مخالفته للسنة
الصحيحة تشبُّه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم، ولو من بعض الوجوه فإن لم يكن
تشبهًا؛ لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركًا لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال
هذه الأمور، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له: إن
اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده؛ ولأنه مفوت لحكمة الدين في
الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب، والوعظ الذي يزع النفوس، وهذه النغمات
من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه، وترويح النفوس بالمباح غير محظور
ولكن الخطبة لم تُشرع له والمساجد لم تبن لأجله.
وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسومًا تقليدية مؤلفة من أسجاع
متكلفة كسجع الكهان، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان، وقد قارب
السنة فيها بعض الخطباء المصريين والسوريين، ولم أر خطيبًا ذكَّرني خطبة النبي
صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. زارني سيد عراقي مثَّل لي تحريض العرب
على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات
النفوس.
تلاوة القرآن بالألحان
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) رواه البخاري
عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وأبو داود عن أبي لبابة
بن عبد المنذر والحاكم من حديث البراء بن عازب وصححه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا) .
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التغني بالقرآن معناه الاستغناء به عن غيره،
وهذا غير صحيح بدليل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد
وسنن أبي داود والنسائي (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى
بالقرآن) فأي علاقة للاستغناء بحسن الصوت. ودليل قول أبي موسى الأشعري
للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره أنه استمع ليلة لقراءته: لو كنت أعلم أنك
تسمعه لحبَّرته لك تحبيرًا.
على أن علماء السلف قد اختلفوا في هذه المسألة فأنكر قراءة الألحان بعضهم
وعرفها آخرون. وقد أورد حجج الفريقين ابن القيم في (زاد المعاد) وجمع بينها
بأن المنكر هو تكلُّف الألحان الموسيقية، والتطريبات غير الطبيعية، والمعروف
هو ما اقتضته الطبيعة من التطريب والتحزين والتشويق إلى ما يشوق إليه،
والتنفير مما ينفر منه، وهذا هو الصواب الذي يتفق مع حكمة الشرع ومقصد الدين،
أعني الاهتداء بالقرآن وتدبره والاتعاظ به. ومن شاء التفصيل في ذلك فليراجع
كتاب زاد المعاد، وربما ننقله في فرصة أخرى، إذا اقتضته الذكرى.

ترتيل القرآن
الترتيل من الرتَل (بالتحريك) وهو انتظام الشيء واتساقه وحسن تنضيده
يقال: ثغر رتِل ومرتَّل إذا كانت الأسنان حسنة النظام والتنضيد. فترتيل القرآن
عبارة عن تجويد قراءته وإرساله من الفم بالسهولة والتمكث وحسن البيان {لاَ
تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (القيامة: ١٦) {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
عَلَى مُكْثٍ} (الإسراء: ١٠٦) والغرض من الترتيل الذي ينافي العجلة ويقتضي
المكث والتأني هو أن يفهمه السامع كالقارئ ويتمكن كل منهما من تدبره وفهمه،
ويصل تأثيره إلى أعماق قلبه، وحَسَن الصوت أقدر على إتقان الترتيل، وفصيح
اللسان أملك لحسن البيان والتجويد، وأجدر بقوة الإفهام والتأثير، وإنما كرهت
النغمات المتكلفة، والألحان المتعملة؛ لأنها تشغل القارئ والسامع بالصوت
والصناعة فيه، عن تدبر الكلام والاتعاظ به، فالفرق بين التغني المحمود والتغني
المذموم، والتلحين المعروف والتلحين المنكر، هو أن المحمود المعروف ما يشغل
نفسك بالفهم والتدبر، والاتعاظ والتأثر، والمذموم المنكر ما يشغلها بالصوت،
وإتقان الصناعة في اللفظ، والله أعلم وأحكم.