للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات
(١٠)
لكل شيء مادح وقادح، ولكل كلام مقرظ ومنتقد، ولقد رأيت أن أختم هذا
المقال بشكر الراضين عن مقالات المسألة الشرقية، والاعتذار عما اقترحوا،
وتفصيل القول في نقد الناقدين والعفو عما اجترحوا.
رأيت أكثر من عرفت راضين عن هذه المقالات ناقلين أحاديث الرضاء بل
الإطراء عن غيرهم، معتقدين أنها مثلت الحقيقة، وبينت الطريقة، واقترح
بعضهم ترجمتها ونشرها ببعض اللغات الأوروبية، وبعضهم طبعها على حدتها
باللغة العربية، شافهنا بذلك كثيرون، وكاتبنا به قليلون، فنشكر لهم ذلك ونعتذر
عن طبعها على حدتها، ولكننا ننشرها في مجلتنا (المنار) وعن ترجمتها ولكننا
نأذن بالترجمة وطبعها بغير العربية لمن شاء ذلك.
أما الساخطون فهم أعداء الدولة والملة، وأنصار إيطالية الباغية، وأما
المنتقدون فمنهم المخلص في انتقاده، المستقل في رأيه مع احترام رأي غيره،
ومنهم غير ذلك، وقد كانت تظهر أمارات وعبارات السخط من بعض الجرائد
الإفرنجية وجريدة (الأخبار) العربية، وكتب إلينا رئيس جمعية قبطية (بأبي
حنظل ومصر والإسكندرية) كتابًا قال فيه: (خط يراعك كلمة شلت يد كاتبها
الذي يصف قومًا أعزاء كرماء وصفوا بالصلاح والتقوى والإنسانية (لا التوحش
كما تقول) وحب الخير (يعني الإيطاليين) بأنهم متوحشون وإنك تعلم أيها
الفيلسوف الكبير أنه لا يقدر على الحكم على قوم إلا من كان منهم (؟) وإن تكن
إساءة الدخيل الذي أوجدناه من العدم (؟) وفتحنا له صدورنا ورفعنا له اسمًا ومنارًا لا
تحتمل [١] ! ! ثم قال الكاتب: إنه يعفو عن ذنبي هذا الذي أسأت به إلى
المصريين (بزعمه) وأنا دخيل فيهم. هذا ملخص ما كتبه. والعقلاء المنصفون
يعرفون أينا أحق بالعفو عن إساءته إلى الآخر، وقد ظهر بعد أن أشرنا إلى وحشية
الإيطاليين بزمن غير بعيد أن الجرائد في جميع الممالك الأوروبية والأمريكية وافقتنا
على قولنا وأيدته بروايات مراسليها في طرابلس الغرب، وبتصويرها لعدوانهم
الوحشي على النساء والأطفال والشيوخ وتقتيلهم والتمثيل بهم. وإنني قد عفوت
عن ذلك الساخط الساخر الساب الشاتم، بعد أن ظهر أنني على الحق وهو على
الباطل.
وبعد هذا وذاك أذكر جميع ما بلغني من الانتقاد في محاورة مع منتقد وهو من
عدة مصادر وأجيب عنه: قال لي صديق لا أرتاب في إخلاصه: إنك قد اشتهرت في
الاعتدال فيما تكتب وأراك قد بالغت في هذه المقالات - أو قال تطرفت - حتى
شايعت العلم والمؤيد في ذكر الجهاد والحرب الدينية وأنحيت باللائمة على أوربة
كلها، وهذه السياسة ضارة بنا.
فقلت له: إن صورة البغي المنكرة التي فاجأتنا بها إيطالية قد كانت صاخَّةً
أصمت المسامع، وقارعةً صدعت القلوب، وإن ما تضمنته من مخالفة حقوق
الدول وإبطال العهود الضامنة لسلامة دولتنا، وما أجابت به الدول الكبرى حكومتنا
حين راجعتها في ذلك من أنها على الحياد، لا تعارض إيطالية في نسخ القانون الدولي
وإبطال المعاهدات، كل من هذا الجواب، وذلك العدوان الصريح قد دلنا وأشعرنا بأننا
مهددون بزوال دولتنا، وذهاب ما بقي من ملكنا، وبأن القوم قد أنفقوا
على حل المسألة الشرقية حلاًّ سريعًا حالاً إذا لم يروا فينا من الحياة ولوازمها ما
يقتضي التلبث في ذلك والرجوع عنه، فقل لي بحقك ماذا يخاف الذي أنذر بزواله
من الوجود إذا هو دافع عن نفسه بكل ما يستطيع؟ أليس كل ما دون الزوال أسهل
منه؟ ألم يصدق علينا في هذه الحال، قول شاعرنا الذي سار مسير الأمثال (أنا
الغريق فما خوفي من البلل) ؟ بلى إنني بتأثير هذه القارعة التي ظهر أن أوربة متفقة
عليها أردت أن أبين لأوربة نفسها ولجميع العثمانيين والمسلمين أننا نعتقد أن أوربة
كلها تكون خصمًا لنا إذا ساعدت إيطالية علينا، ومكنتها من كل ما تريده من البغي
والعدوان على بلادنا.
كتبت هذا معتقدًا أن تذكير المسلمين في جميع بقاع الأرض بما أوجبه الإسلام
في مثل هذه الحال، وظهور أثر هذا التذكير فيهم - هو أرجى ما ترجو من أسباب
حذر أوروبة من مساعدة إيطالية على كل ما تريد من بغيها، واستمالة الدول الذي
بهما إرضاء المسلمين وحسن اعتقادهم فيها، وأولاهن بذلك إنكلترة ثم فرنسة
وروسية المتفقتان معها في السياسة والمصلحة، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث
مستولية على عشرات الملايين من المسلمين. وقد صرحت بمقصدي هذا في
المقالات الأولى، ولم أقطع الأمل من مساعدة كل الدول.
قال صديقي المنتقد: إن المسلمين الرازحين تحت سيطرة هذه الدول كلهم
ضعفاء بالجهل والتفرق، فالدول إذا أرادت إنفاذ هذا الأمر (حل المسألة الشرقية)
لا تبالي رضاهم ولا سخطهم، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، قلت: إني لا أرى
هذا الرأي بل إنها تبالي وتهتم أشد الاهتمام برضاهم، وتحسب ألف حساب
لسخطهم، إذا كان سببه اعتقادهم أنها تريد إزالة دولة الخلافة وإبطال حكم الإسلام
من الأرض.
إن رأيك هذا يشبه رأي لطفي بك السيد مدير (الجريدة) إذ قال: إن إظهار
مسلمي مصر لعواطف الميل إلى الدولة العلية وإعانة أهل طرابلس على حرب
عدوهم ينافي مصلحة مصر، فهو من ترجيح سياسة العواطف على سياسة المنافع،
التي تتبعها كل العقلاء من أمم المدنية ودولها، وأنا أرى أن العواطف والمنافع متفقة
في هذه الحال فإذا جرى جميع المسلمين على ما طالب لطفي بك به المصريين،
وعلمت دول أوروبة أن تقسيم بلاد الدولة العثمانية بينهن لا يهيج لمسلم عاطفة، بل
يرى كل شعب منهم أن رضاه بزوال هذه الدولة عين المنفعة له والمصلحة، فإنها
لا تتلبث بقسمة هذه البلاد إلا ريثما تتفق على توزيع الحصص، وليت شعري ما
هي المنفعة التي تنالها مصر من هذا التقسيم، وخرت سقوفها على أهلها، وأتاهم
العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وشمائلهم.
قال المنتقد: أما ينبغي أن نخاف أن تشدد أوروبة وطأتها على المسلمين، إذا
هم أظهروا العطف على الدولة بباعث الدين؟ قلت: إنني لا أرى هذا الخوف في
محله، ولو فعلت أوروبة ذلك لكان أنفع للمسلمين، فإنه لا شيء يربي الأمم ويجمع
كلمتها مثل الضغط عليها في وقت تهيج شعورها، ومصادرتها فيما يتعلق باعتقادها،
على أن كل بلاء يمكن أن يحل بالمسلمين في مثل هذه الحال يجب أن يحتمل في
سبيل الدفاع عن كيان الدولة كما فهمت من جوابي السابق - الخوف من الذل مجلبة
للذل، وإنما السلامة في الشجاعة لا في الجبن، ولكن.
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم

وأقول الآن إن ما جرينا عليه، ووجهنا النفوس إليه، من كون عدوان إيطالية
يعد طرقًا لباب المسالة الشرقية، قد ذكر بعد ذلك في كثير من الصحف الشرقية
والغربية. وإن ما ارتأيناه من تحريك شعور المسلمين لاتقاء الخطر به قد وافقنا فيه
العارفون بالسياسة من المسلمين المقيمين الآن في عواصم أوربة ومسلمي الهند
وتونس وغيرهم، وأشهر هؤلاء القاضي أمير علي الشهير. وكان من مسلمي
الهند ورأس الرجاء الصالح أن عقدوا الاجتماعات الكثيرة لإظهار استيائهم
وتألمهم لحكومتهم ومطالبتها بالسعي إلى منع هذه الحرب الجائرة ومساعدة الدولة
العلية.
وكان من تأثير ذلك أن إنكلترة لم تضغط على مسلمي مصر، وفرنسة لم
تضغط على مسلمي تونس والجزائر، ولم تمنعهم هذه ولا تلك من جمع الإعانات
لإخوانهم مسلمي طرابلس حتى إن جرائد إيطالية قد رفعت عقيرتها بالشكوى من
هاتين الدولتين وطالبتهما بالتشدد في منع إنجاد طرابلس وبنغازي من تونس
ومصر [١] .
بل كان من تأثير ذلك ما هو أعظم مما ذكرنا وهو ظهور مبادئ الاتفاق بين
دولتنا وإنكلترة بإرسال سلطاننا أكبر أنجاله ضياء الدين أفندي لتحية ملك وملكة
الإنكليز في سفينتهما التي تحملهما إلى الهند عند وصولهما إلى ثغر بورسعيد
ذاهبين على الهند بقصد الاحتفال في عاصمتها القديمة دهلي بنصب الملك
إمبراطورًا على الهند. وكان لقاء وفد نجل سلطاننا لملك الإنكليز مع أميرنا خديو
مصر بالغًا منتهى الوداد اللائق بالزائر والمزور وجواب الملك عن كتاب السلطان
وخطبته في مقابلة خطبة نجله، وإهداؤه الوسام الخاص بأسرة الملك إلى هذا النجل
السعيد بعد الزيارة - كل ذلك قد بشرنا بقرب تحقق ما أشرنا به من استمالة دول
الاتفاق الثلاثي إلينا وفي مقدمتهم إنكلترة [٢] وهذا ما صرحنا به في أوائل هذه
المقالات منذ شهرين كاملين.
وجملة القول أننا رأينا العدوان من إيطالية إحدى دعائم التحالف الثلاثي،
ورأينا دول التواد الثلاثي قد سكتن لها، ولم يجبن نداءنا وطلبنا المحافظة على
القوانين والمعاهدات الدولية، فصحنا من شدة الألم أن أوروبة كلها متفقة علينا،
واستصرخنا الشعور الإسلامي وذكرناه بالخطر على ما بقي للإسلام من السلطة،
لنستعين بذلك على استمالة إنكلترة ووديدتيها إلى مساعدتنا، ودفع الخطر الأكبر عنا،
ولما قيل لنا: إن الدول حصرت الحرب في طرابلس الغرب ورأينا مبادئ الرجاء
في إنكلترة وغيرها تومض أمامنا، سكتنا عن الشكوى من أوروبة كلها، ولم نشرح
ما كنا عزمنا على شرحه.
قال المنتقد: إنك صبغت المسألة الشرقية بصبغة الدين فجعلتها
كالحروب الصليبية كما تقول جريدة العلم المتطرفة المغالية وهي مسألة سياسية كان
ينبغي أن تستصرخ فيها العثمانيين خاصة، فاتفاق المعتدلين بتلك مع المتطرفين على
صبغ هذه الحرب بصبغة الدين قد أخاف نصارى بلادنا أن يتضمن ذلك التحريض
عليهم والإيقاع بهم، فيجب الإقلاع عن تسمية هذه الحرب بالجهاد
وجعلها دينية فإنها ليست إلا سياسية.
قلت: إنني قلما أقرأ جريدة العلم وقلما أراها فأنا لا أدري ما هو حكمها في
هذه المسألة وأرى أننا إذا جعلنا حربنا لإيطالية دينية فذلك خير لإيطالية ولجميع
البشر لا لنصارى بلادنا فقط، وليت إيطالية نفسها تتبع أحكام الإسلام في الجهاد
فإن القاعدة الأساسية عندنا في ذلك هي قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) فلا يجوز لنا أن
نقاتل غير المعتدي علينا.
والمعتدي هو المحارب لا جميع أهل جنسه فلا يجوز لنا أن نقاتل من
الإيطاليين أنفسهم من لا يقاتلون كالرهبان والنساء والشيوخ والولدان. وإيطالية لا
تبقي على أحد من هؤلاء ولا تذر إلا من تعجز عن الوصول إليه، وأما الحرب
الدينية والجهاد الذي معناه أن يقاتل إنسان كل من يخالفه في الدين وإن كان ذميًّا أو
معاهدًا أو مستأمنًا فهذا معنى بثته أوروبة في الشرق بحروبها الصليبية ولم يقل أحد
من المسلمين به، ولو تجردنا من أحكام الدين لاستبحنا في هذه الحرب كل ما نقدر
عليه من إيذاء خصمنا والإسلام لا يبيح لنا كل ذلك.
قال المنتقد: إن النصارى لا يفهمون الجهاد الديني في الإسلام بمعناه الشرعي
الذي تعنيه بل يفهمون عنه ما هو مشهور عندهم وكثير من عوام المسلمين يفهمون
منه مثل فهمهم فيجب أن لا يذكر الدين والإسلام في الكلام عن هذه الحرب لأجل
ذلك.
قلت: إنني بينت حكم الإسلام وأنه لا يجيز لنا أن نقاتل في هذه الحرب غير
العسكر الإيطالي وسأزيد ذلك بيانًا في مقالة خاصة (وكان هذا قبل كتابة مقالة
الجهاد في الإسلام في الشهر الماضي) ومهما قال المسلم منا فهو لا يمكن أن
يرضي بعض المتعصبين منهم، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، أو يدَّعون ذلك
لتحريض أوروبة علينا كصاحب جريدة (الأخبار) ، ولو شئت لنقلت من كلام
نصارى الشرق والغرب ما صرحوا به من كون المسألة الشرقية مسألة دينية كقول
أمين شميل (شقيق صديقنا الدكتور شميل) في كتابه الوافي: إن هذه المسألة ولدت
بولادة نبي الإسلام، وترعرعت من ابتداء ترعرع ملك خلفائه إلى الآن. وعندي
نُقول كثيرة عن الأوروبيين في ذلك لا أحب الآن أن أنشرها، ونسأل الله أن يكفينا
شرها.
لا يسع أحدًا أن ينكر أن المراد من هذه المسألة أن لا يبقى للمسلمين ملك على
وجه الأرض، فإذا فرضنا أن هذا لا يضر الإسلام في عباداته، فهل يقول عاقل
مسلم أو غير مسلم: إنه لا يبطل سلطته وأحكامه القضائية والسياسية؟ كلا إن هذا
هو الذي نعنيه بكون المسألة الشرقية عداوة للإسلام وأهله، فحسب أوربة ما
سلبت من ملكه، ونقصت من أرضه، ولتترك لنا هذه البقية القليلة، فإن أبت إلا
الاعتداء عليها، وجب أن نبين لها أننا عارفون مستيقظون، وأن لا تلومنا هي على
ما نفعل للمحافظة على هذا الذماء، فهل يصح أن نلوم نحن أنفسنا، ونتخاذل في
المحافظة على رمقنا؟
ولا يمنعنا السعي لذلك أن نستصرخ سائر الشعوب الشرقية ونتعاون معها سرًّا
أو جهرًا على هذا الدفاع الشريف، فكلما اعتُدي على قطر إسلامي تحرك شعور
المسلمين باسم الإسلام، وتحرك شعور غيرهم من الشرقيين باسم الشرق، ونحب
أن تكفينا أوروبة مؤنة ذلك بمنع بعضها بعضاً عن الإجهاز على الدولة العثمانية
والدولة الإيرانية، وإطلاق حرية الدين والعلم والاجتماع في البلاد الإسلامية التي
أدخلتها في حمايتها كمراكش وتونس وزنجبار وفي البلاد التي ضمتها إلى
مستعمراتها كالجزائر وجاوه.
إننا الآن بين الخوف من أوروبة والرجاء فيها، والرجاء في إنكلترة أقوى كما
بينت ذلك في المقالات السابقة، ومن أسباب قوة الرجاء فيها ما ظهر من التواد بين
المسلمين والوثنيين في الهند منذ ظهر عدوان إيطالية بعد اشتداد العداوة بينهم في
السنين الأخيرة لمخالفة المسلمين الهندوس فيما يقاومون به الحكومة الإنكليزية وإنني
أورد في هذا المقام جملة من كتاب خاص كتبه إليّ سائح من حيدرآباد الدكن بعد ما
ساح في كثير من تلك الممالك. قال: (أفيدكم أن الهند كلها بقضها وقضيضها،
مسلميها على اختلاف نحلهم، وكفارها على تشعب مللهم، لا أستثني غير
الأوروبيين وميتي الشعور من همج الهمج وأشباههم، قد تغيظوا وتحمسوا أشد
الغيظ والتحمس لما صار من إيطالية في الترك، وقد عقدت المؤتمرات العديدة
وأرسلت الاحتجاجات ولا حديث للقوم إلا في هذه المسألة، وهم لا يفهمون منها إلا
أنها عداء من أوروبة لآسيا، وظلم من القوي للضعيف، ودرس في التعصب
يجب على الشرقي حفظه في سويداء قلبه لا خلاف في ذلك بين مسلم وبين برهمي أو
مجوسي أو وثني، حتى لقد أنسى القوم ما بينهم من الإحن والحزازات.
وتتجلى هذه المظاهر بأتم وضوح في البلاد التي تحكمها الإنكليز مباشرةً،
وهي أقل ظهورًا فيما تحكمه مهراجات الهندوس، وهي أقل في الممالك المحكومة
بأمراء (نواب) مسلمين، ولعل السبب في هذا هو خوف هؤلاء من غول التعصب
الذي يقذفهم به الأجانب عند كل صغيرة وكبيرة.
ولو كان المنار صحيفة إخبارية لأطلت النفس وشرحت له الأخبار. ثم إن ما
صار وظهر في جميع أقطار الهند من هذه الحركة المباركة لما أفزع رجال الإنكليز
وحسبوا له ألف حساب، وإذا لم ترضهم الإنكليز بأفعالها -؛ لأن دور الإرضاء
بالأقوال قد ذهب - لتندمن حيث لا ينفع الندم، وستكون بعملها إذ ذاك جامعة لكفار
الهند ومسلميها، وفي ذلك من الضرر عليها ما تعرفه هي أكثر من غيرها ولا
يرضاه لها محبوها ومحبو الإنسانية، سيما مع قرب موعد الدربار (الاحتفال
بإلباس الملك تاج إمبراطورية الهند، وفي العبارة ما يدل على ميل الكاتب على
إنكلترة) .
نعم إن رجال ساستها يزعمون أن اتفاق المسلمين مع الهندوس مضر
بالمسلمين؛ لأنهم الآن نحو مائة مليون نفس فقط (أي بحسب إحصاء هذا العام
الذي لما يعلن رسميًّا) مع أن الهندوس أكثر من ضِعفيهم، ولكن هل درى سادتنا
الساسة أن المسلمين قد حكموا الهندوس في وقت لم يكونوا فيه إلا نحو خمسة في
المائة؟ ثم زاد الآن عدد المسلمين مع مغلوبيتهم كما تضاعف عددهم بالصين كذلك،
فلهذا لا يعلّق المسلمون كبير أهمية على نحو هذا، وإنهم لكما كانوا شجاعة وشدة،
وأكثر مما كانوا علمًا وحبًّا للإسلام واستماتة في نصره (وما راءٍ كمن سمع) .
إن أهل الهند لم يروا من آثار الترك سوى الطرابيش المجلوبة من النمسا ولو
كان للترك في الهند مدارس عالية كما لأكثر الدول في سائر القارات لكان نفوذ
الدولة هناك مما ترجف له أعصاب أعدائها، وإني أنصح للدولة بأن لا تبقي جهدًا
في فتح مدارس دينية علمية في جميع الأقطار التي خضعت لنير الأجنبي وبها
مسلمون وإن ضعفت ماليتها وكلفها هذا الاقتراح ما كلفها، فلابد دون الشهد من إبر
النحل) اهـ.
هذا ما كتبه إلينا السائح الذكي الذي نعلم من سياسته الميل إلى اتفاق مسلمي
الهند مع حكومتهم دون الاتفاق مع أهل وطنهم عليها، ولكنه مسلم قبل كل شيء
ولو كره المتفرنجون المفتونون بالجنسية، أما اقتراحه على الدولة فما هو بالذي
يسمع ولا الدولة بقادرة عليه لا لقلة المال، بل لعدم الرجال، وأقرب منه أن تنشئ
الدولة هذه المدارس العالية في الحرمين الشريفين أو تسمح للقادرين على إنشائها من
المسلمين بذلك من أموالهم، ويكون لها الغنم، وعليهم الجهد والغرم.
(النتيجة العامة) إن مقالاتنا في المسألة الشرقية لم نقصد بها إلا ما ذكرنا
من دفع الخطر عن دولتنا وأمتنا، وقد دعونا فيها غير المسلمين من أهل مملكتنا
لمشاركتنا في هذا الدفاع عن الدولة من حيث الجامعة العثمانية، كما دعونا فيها
المسلمين إلى مشاركتنا من حيث الجامعة الإسلامية، والشرقيين إلى مساعدتنا من
حيث الجامعة الشرقية، وإن غير المسلمين من العثمانيين لم يكونوا أشد غيرة وحدبًا
علينا من وثنيي الهند، ومع هذا كله لا ندعو إلا إلى تقوية الرابطة بهم، وحفظ
الحقوق الوطنية بيننا وبينهم، ونحن مع من يساعدنا من الأوربيين، ولا ينكر علينا
أحد أننا نشكر للمحسن إحسانه، ونعرف لصاحب الجميل جميله ولا ننكره، بدليل
توددنا إلى إنكلترة مع جفوتها لنا زمنًا طويلاً، ونجعل ذنب هذه الجفوة على سلطاننا
السابق بتودده إلى خصيمتها ألمانيا. فهذه هي سياستنا فمن أنكر علينا منها شيئًا
فليبده لنجيب عنه بالإنصاف وقواعد العقل، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح
العقل على الهوى.
... ... ... ... ... ... ... ٢٠ ذي الحجة سنة ١٣٢٩
(المنار)
بعد أن نشرنا هذه المقالة في المؤيد تذكرنا أن جريدة معروفة بالتعصب على
المسلمين حتى لإيطالية في عدوانها وبغيها قد أنكرت علينا كلمتين من تلك المقالات،
ولما كنا نتحرى الأدب والحق في كلامنا وأن لا يوجد فيه ما ينكره الخصم وإن
نظر إليه بعين السخط كتبنا الاستدراك الآتى:
استدراك في الانتقاد على مقالات المسألة الشرقية
إنني أتحامى بطبعي وسجيتي كل ما تأباه مصلحة الارتباط بيننا وبين أهل
الملل التي تشاركنا في وطننا، وكل ما لا يرضاه الذوق والأدب في التعبير عن
الحقائق التي أعتقدها، وإن من القوم من ينظر في كلام كل كاتب مسلم بعين السخط
من وراء نظارة مكبرة، ولم يصل إليَّ من الانتقاد على هذه المقالات الطويلة إلا
إنكار بعض هؤلاء الذين يجعلون الحبة قبة , عبارتين اثنتين أذكرهما وأجيب عنهما.
إحداهما: نقلي لقول الفقهاء الذي أتوقع أن يبلغه شيوخ السنوسية للناس
حيث الحرب تشتعل نيرانها، وهو أن الكفار إذا دخلوا دار الإسلام فاتحين وجب
على كل مسلم فيها مدافعتهم.
قال الساخط: إنني عبرت عن الإيطاليين بالكفار وهم أهل كتاب وعدّ هذا
إهانة لجميع المشاركين لهم في دينهم.
وإنني أجيب عن هذا: بأنني نشرت في الأعداد الأولى من السنة الأولى
للمنار نبذًا متسلسلة في بيان اصطلاحات كتاب العصر بينت في الأولى منها وهي
في العدد الأول أن لفظ الكفر قد أطلق في الشرع على ما يقابل الإيمان والإسلام ولم
يرد بهذا الإطلاق الإهانة ولا السب والشتم؛ لأن اللفظ لا يدل في اللغة على شيء
قبيح ولا معيب فإن معناه العام هو الستر والتغطية، ولذلك سمي الليل كافرًا والبحر
كافرًا، وأطلق في القرآن الكريم لفظ الكفار على الزراع؛ لأنهم يكفرون الحَبّ
بالتراب أي يسترونه، وذلك قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: ٢٠) ثم بينت بعد ذلك أن هذا اللفظ صار في عرف أهل هذا العصر
مرادفًا للإلحاد والتعطيل وصار يعد من ألفاظ السب والإهانة، وأفتيت بحرمة
إطلاقه في التخاطب على من حرم الإسلام إيذاءهم كالذميين والمعاهدين، ونقلت
مثل هذا الإفتاء عن بعض الفقهاء. ولكن هذا لا يمنعنا من ذكر الاصطلاحات
الشرعية في كتبها وعند البحث فيها كما هي، ومن هذا الباب العبارة الفقهية التي
انتقدها الساخط هنا، على أن الحربيين كالإيطاليين لا يجب علينا مجاملتهم في
الخطاب والتعبير عنهم ولا تجنب إيذائهم كما يجب مثل هذا في خطاب الذميين
والمعاهدين.
يشبه هذا الانتقاد إن كان عن جهل بالاصطلاح ما رأيته في بعض جرائد
السوريين في أمريكة من إنكار ذكر الجرائد التركية لفظ الملة والأمور الملية ظنًا من
المنتقد أنهم يعنون بالملة الدين وإنما يعنون به الأمة، وما رأيته في بعضها من
استنكار عزل شيخ الإسلام لبعض النواب ظنًا من الكاتب أن المراد بهم المبعوثون.
والعبارة الثانية هي ذكر البغايا مع الخمارين والمقامرين والتجار والقسوس
ووكلاء الدول في سياق ما أصابنا من ضرر هذه الأصناف في أموالنا وآدابنا
وسياستنا وديننا.
وإنني ترويت في كتابة تلك العبارة خشية أن يكون فيها سوء أدب، وبعد
التروي رأيت مثل هذا في أبلغ الكلام وأنزهه، رأيت ذكر اسم الجلالة الكريم، في
الآيات التي فيها ذكر الشيطان اللعين، وذكر الطيبين والطيبات، مع الخبيثين
والخبيثات، معطوفًا بعضهم على بعض، وقال الشاعر:
ثلاثة تشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزار

فذكر أولئك الأصناف من قبيل الأشياء المذكورة في البيت، أي أن كل صنف
منها آذانا نوعًا من الإيذاء وإن كان لكل منها مقام في نفسه ليس للآخر، كما أن
العرس ضد المأتم، وإنما ذُكرا معًا؛ لأن في كل منهما ضررًا ماليًّا لما اعتيد فيهما
من الإسراف، وفي الزار أيضًا ضرر مالي وهو مع ذلك معيب مذموم عند أهل
الدين والعقل. فهل يقول أحد: إن الشاعر جعل هذه الثلاثة في مرتبة واحدة من كل
وجه؟ ؟
كلا، إن الذي انتقد تلك العبارة وعابها هو معروف بسوء القصد وتتبع
العثرات واستقراء الزلات في أقوال المسلمين المشهورين وأفعالهم، وهو معهم من
الذين قال فيهم الشاعر:
إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

فهو لما لم يجد في مقالات المسألة الشرقية كلمة يستدل بها على ما يرمي به
كل كاتب مسلم يغار على ملته من التعصب وتحقير النصارى والإغراء بهم زعم
أنني أهنتهم بإهانة إيطالية لأنني قلت: إن السنوسية سيقولون للناس: إن دفاع
الكفار وصدهم عن المسلمين إذا دخلوا بلادهم مقاتلين فرض عين، ولأنني ذكرت
وكلاء الدول والقسوس في سياق ذكرت فيه أصحاب الحانات والقمار! ! ولو لم
ينخدع بكلامه بعض القوم ويشر إليه بعض دعاة النصرانية في مقالة له رماني فيها
بالخروج عن الأدب معهم في بعض العبارات، لما كتبت هذه الكلمات في بيان أن
تلك العبارة ليس فيها شيء من سوء الأدب؛ لأن مثلها معهود في أفصح الكلام العربي
وأنزهه. وهب أن فيها شيئًا من ذلك فأنا بريء من القصد إليه وتعمده
لأنني أكرم نفسي وأربأ بها أن تأتي ذلك.