للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن جريدة الطان الفرنسية


الجامعة الإسلامية [*]

أرسل إلينا أحد علماء اللغة العربية المقالة الآتية باللغة الفرنسوية في مسألة
هي في الوقت الحاضر أكبر المسائل التي تهم أوربا بمقدار ما تهم المسلمين،
وهي مسألة الجامعة الإسلامية التي نجهل منها أكثر مما نعلم، قال الكاتب:
ولدت الجامعة الإسلامية تحت شمس مصر الحارة وظلت زمانًا طويلاً
محصورة في دائرة عدد صغير من أنصارها، وكانت هذه الجامعة في نشأتها الأولى
دينية محضة أشبه بكنيسة كاثوليكية ترمي إلى ضم جميع الفرق الإسلامية أو
بالحري إلى تجديد ذكرى الوحدة القديمة التي فقدت منذ زمن بعيد، إلا أنها لم يمض
عليها زمن حتى وسعت دائرتها وأصبحت تعقد الرجاء بتكوين دولة إسلامية شديدة
البأس كالدولة التي كانت في زمن الفراعنة لتظهر للعالم في بعض أجزائها أنها
المعيدة بصفة شبه قومية (؟) للتمدن الشرقي الذي توارى خلف مدنية أوربا
المسيحية.
ولما كانت الجامعة الإسلامية لم تزل حديثة النشأة لذلك كانت أعمالها صادرة
عن حمية عمياء حمية الحداثة وعدم الاختبار التي تئن مصر والجزائر من تحتها
إلى أن دخلت في دور السكينة مشتغلة بنشر مبادئها ومنتظرة بلوغ قوتها.
والسيد جمال الدين الأفغاني الحسيني هو أول من اشتغل بنشر فكرة الجامعة
الإسلامية إن لم يكن المحرض على إنشائها وقد ظل زمنًا طويلاً معروفًا بأنه المثال
الحي لتلك الجامعة.
ولد السيد جمال الدين في ولاية كابل في أسعد آباد من أعمال بلاد الأفغان
واشترك في ثورات عديدة أُريقت فيها الدماء، ثم فارق وطنه سائحًا في العالم
خصوصًا في العالم الإسلامي فاخترق الهند الإنكليزية إلى فارس فبلاد العرب
فالسلطنة العثمانية، ثم القطر المصري، ومنه إلى أوربا فراقب كفيلسوف كل
الحوادث العظمى التي شهدها القرن الماضي وراقب أدوار الرقي العقلي في أوربا
بنظر من يود الوقوف على الحقائق، وانخرط في سلك الماسونية في مصر ثم ذهب
إلى الآستانة فتوفي فيها عام ١٨٩٧ وكان السلطان عبد الحميد قد جذبه إليها وغمره
بإحسانه وهداياه، وفي جملة الذين حظي بصداقتهم وودادهم أثناء سياحاته المسيو
رينان حتى اختصه هذا بالمدح والتقريظ في أحد مؤلفاته.
وكان جمال الدين مَهيب الطلعة، ويقال: إنه مع مقدرته الفائقة في فن
الخطابة كان واسع الاطلاع في الشئون العامة حتى إنه خلف تلاميذ كما فعل
أفلاطون ولم يخلف مؤلفات، وكانت سيرته تاريخًا في العالم الإسلامي الذي كان
جمال الدين يسعى إلى تأليفه فكانت الجامعة الإسلامية أملاً له يحلم به في كل أيام
حياته، وكان ينتقل في العالم الإسلامي من بلدة إلى أخرى رسولاً للوحدة والتضامن
يعظ الناس ويدعوهم للعودة إلى التقاليد القديمة ولكن من غير تعصب فكانت غايته
أن يكون الإسلام عامًّا طيبًا ووسيلة للتسامح وحب المدنية والارتقاء.
وكان في القطر المصري جمعية تدعى (جمعية العروة الوثقى) طلبت من
الأفغاني أن يرفع مدة إقامته في باريس صوت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية فأصدر
هناك جريدة (العروة الوثقى) وناط تحريرها بالشيخ محمد عبده الذي ذاع صيته
في ذلك الوقت فظهر منها ثمانية عشر عددًا فقط؛ إذ إن الحكومة الإنكليزية التي
كان يهمها أكثر من غيرها أمر الجامعة الإسلامية الجديدة استعملت الضغط لإيقاف
حركة تلك الجامعة.
ثم ظهرت فكرة عقد مؤتمر إسلامي عام فاتجه نظر الأفغاني نحو مكة
واستحسن العالم الإسلامي ذلك إلا أن السلطان عبد الحميد قد راعه اتجاه الجامعة
الإسلامية نحو بلاد العرب التي أقلقته ثوراتها الماضية فأخفقت فكرة عقد المؤتمر
في مكة.
أما الكواكبي فقد كان مع ذلاقة لسانه في الخطابة صاحب نظر دقيق نير، وقد
أخذ فكرة الأفغاني في عقد المؤتمر الإسلامي فشرحها شرحًا مطولاً في كتابه الذي
صدر باسم (سجل جمعية أم القرى) وضمن هذا الكتاب أعمال المؤتمر الذي لم
يمكن عقده، ووصف بأسلوبه الحسن حالة العالم الإسلامي وشخص أمراضه بكل
انتباه مع ذكر الدواء اللازم لها.
الكواكبي هو العالم النظري الذي نفر للجماعة الإسلامية، وهو المفكر الذي لم
يؤثر فيه الوعيد والتهديد، وإذا كان الأفغاني قد أظهر الميل إلى عبد الحميد بمجيئه
إلى الآستانة حتى مات فيها فإن الكواكبي ظل دائمًا العدو الألد لعبد الحميد حتى ألف
كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) تشنيعًا على حكومته.
أما عبد الحميد فإنه بما اتصف به من الحكمة والدقة أدرك القصد من فكرة
الجامعة الإسلامية فبعد أن كان أول خصم لها أراد أن يرعاها برعايته ليستأثر
بفائدتها، ولذلك جذب الأفغاني وكثيرًا من الأطباء وأئمة الإسلام إلى الآستانة
وأغراهم بالالتحاق به وأجزل الهبات والهدايا والعطايا والألقاب والوسامات وظهر
هو نفسه بمظهر ديني وجعل نفسه نصير الإسلام في العالم ورتب المرتبات للمعاهد
الدينية وللعلماء ومشايخ الطرق وللجوامع والمساجد وشيد أماكن خاصة بضيافة
الحجاج وتسهيل واجباتهم الدينية كما أنشأ السكة الحديدية الحجازية التي لم يكن
ينظر العالم الإسلامي إليها إلا أنها عمل صادر عن شفقة على المسلمين وحنان
عليهم، فتبرع لها المسلمون بمبالغ طائلة إعانة على إتمام هذا المشروع.
ولم يقتصر الأمر على جذب المسلمين والحصول على انعطافهم بل كان من
اللازم أيضًا تنويرهم وضم بعضهم إلى بعض والقبض عليهم فأرسل خليفة الآستانة
إلى أنحاء العالم الإسلامي أولئك العلماء الذين التفوا حوله وجعلهم رسلاً للجامعة
الإسلامية التي كانت محيط أحلامه.
وفوق ذلك فإنه أراد أن يراقب الدول الأجنبية التي كانت تضم بين رعاياها أو
في مستعمراتها فريقًا من المسلمين فبث في كل جهة حتى في الجزر الصغيرة رسله
السريين الذين لم يكن يشعر أحد بوجودهم، وتمكن أيضًا من الحصول على
مخبرين سريين في الدوائر العليا لتلك البلاد، وكان ينقدهم المبالغ الطائلة أجرة
على عملهم.
ولما خلع السلطان عبد الحميد أصبح كل الذين يعيشون من هذا الطريق لا
مورد لهم، والحكومة الدستورية الجديدة لم تشأ أن تعترف بهم، وقطع أعضاء
جمعية الاتحاد والترقي الصلة بينهم وبين الجامعة الإسلامية منذ قاطعوا شخص عبد
الحميد وتظاهروا أيضًا بمقاومة هذه الجامعة ونسخ اللغة العربية وهي لغة الدين
المقدسة بل هي لغة المسلمين العامة التي بزوالها يزول الإسلام وببقائها يبقى ويحيا.
ظل هؤلاء دائبين وراء أمانيهم الجميلة فابتكروا مشروع الإقدام على صبغ
السلطنة العثمانية بالصبغة التركية، وهذا المشروع لم يخطر في بال السلاطين
الفاتحين ولا عللوا النفس بتحقيقه مع ما كان لديهم من القوة التي إن لم تكن أعظم
من قوة أحداث سلانيك الغارقين في الأوهام فهي على الأقل تساويها، وبهذا صارت
الجامعة الإسلامية بلا سند وعادت حقًّا مشاعًا فبدأ كتاب الصحف وحدهم يشتغلون
بها وقوة هؤلاء لا يستخف بها.
انتشرت الصحف الإسلامية في العالم بكيفية غير محسوسة وأكثر هذه
الصحف عربية فتجد منها بآسيا وأفريقيا وأميركا وأوروبا بل في الأوقيانوسية ولو
بنسبة غير متساوية، ولما كانت هذه الصحف حديثة النشأة لذلك ترى لها عيوبًا كما
أن لها مزايا وفوائد، فإذا كان ينقصها الأخبار السريعة من جهة فهي من جهة ثانية
ذات سلطة على قرائها وهي التي تكون الرأي العام بدل أن تردد صداه.
تكثر الصحف العربية بنوع خاص في القطر المصري، وكانت في سوريا قد
نهضت بنشاط في مدة قصيرة حتى جاءها الحكم الحميدي ووقف في وجهها فجعلها
نسيًا منسيًّا إلى أن أعلن الدستور سنة ١٩٠٨ وكان الكتاب السوريون ينزلون ضيوفًا
في مصر، وهي الأخت الشقيقة لسوريا فانتشرت الصحافة في وادي النيل
وفازت فوزًا باهرًا.
صورة مصطفى باشا كامل تتقدم بما لها من المكانة صحف الجامعة الإسلامية
في القطر المصري، وهذه الجامعة الإسلامية هي الجامعة المدنية التخيلية القريبة
الوصول لكل من بذل ذاته وأبدى سخاء وعلو همة إلا أن هذه الجامعة مصرية أكثر
منها عمومية وقومية أكثر منها دينية.
أما المثل الحي المقدام للجامعة الإسلامية الدينية فهو بلا نزاع الكواكبي
والأفغاني والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان مرمى آمال الشيخ محمد
عبده أن يكون الإسلام عامًّا حيًّا يرجع إلى حاله الأولى ويتجرد مما زيد فيه بمرور
الزمان.
ومما قاله - رحمه الله - في كتابه (الإسلام والنصرانية) ص ١١٧ إن ما
يؤخذ على المسلمين في الوقت الحاضر ليس هو من الإسلام في شيء ولكنه شيء
آخر أدخله أهل البدع على الإسلام ودليلنا على ذلك القرآن الذي انصرفوا عن تدبره
واتباع سننه.
إن الجامعة الإسلامية الدينية التي خلفها الشيخ محمد عبده لتلاميذه عند وفاته
يتوسل للعمل لها بثلاث وسائل المؤتمرات والصحافة والتعليم بالمبادئ الصحيحة،
وقد كانت آمال الجامعة الإسلامية ترمي إلى عقد مؤتمر يجمع جميع الطوائف
الإسلامية، وقد سبق لنا الكلام على السبب الذي من أجله لم يفلح مؤتمر أم القرى،
إلا أن العزيمة لم تفتر في هذا الشأن حتى قام قبل بضع سنوات إسماعيل غصبر
نسكي مدير جريدة ترجمان التي تطبع في بغجه سراي في القريم فاقترح عقد
المؤتمر في القطر المصري وقابل المصريون هذا الاقتراح بحمية ونشروا على
العالم الإسلامي منشورات حماسية إلا أن هذا المؤتمر أخفق أيضًا.
وقد قرأت في أحد أعداد مجلة المنار التي تصدر في مصر، وقد تفضل
بإرسالها إليَّ المسيو ماسينيوس اقتراحًا لأحد المكاتبين يقترح به عقد المؤتمر إلا أنه
لم يكن سببَ إخفاق المشروع فسادٌ في إدارته بل كانت هنالك صعوبات مادية تحف
به من كل جانب.
وأما الوسيلة الثانية وهي الصحافة فإنها جعلت فكرة الجامعة الإسلامية تتقدم
تقدمًا سريعًا؛ لأن كل الجرائد الإسلامية في العالم ترمي إلى هذا الغرض وهي
منتشرة في كل مكان. وإذا فتح الإنسان واحدة من هذه الجرائد أو المجلات يأخذه
العجب من الخطوات التي اجتازتها الصحف العربية، وإن كانت إربًا لا تكاد
تحسب لوجودها حسابًا.
وتهتم الصحافة العربية باستعراض أحوال العالم الإسلامي بأسره وتشرحها
وتعلق عليها وتشير بإصلاح المعوج وتشجعها وتحنو عليها حنو الوالدة على رضيعها
وتفيض هذه الصحف بالبحث في تاريخ الإسلام وعلومه وتقاليده في قالب يسهل
فهمه على جميع القراء؛ لأنه يكتب بأسلوب بسيط حديث. وإن مجلة كمجلة
المقتبس تعد كدائرة معارف حقيقية يهم المسلمين الاطلاع عليها وهي تقرأ في كل
جهة من البلاد العربية كما تقرأ في الأوقيانوسية والهند وأميركا.
وقد وقف أحد مسلمي الهند في لاهور مائة نسخة من كتاب تفسير القرآن
الحكيم الذي يكتبه الشيخ رشيد رضا لتوزع هذه النسخ على المساجد وتتلى فيها.
ولدينا أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدل على وجود روح التضامن التي تبثها هذه
الصحف بين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم.
وأما الوسيلة الثالثة فهي التعليم الذي اشتد الميل إليه والشوق إلى نشره
فانتشرت المدارس في كل مكان. وكان الإنسان يقرأ منذ حين على كل جدر في كل
مدينة من مدن سوريا هذه الجملة: (تعلم يا فتى فالجهل عار) .
والجامعة الإسلامية لا تكتفي بتأسيس المدارس البسيطة بل هبت لتأسيس
مدارس الجامعة الكبرى. فهذا الجامع الأزهر قد تأهب لتجديد عهد شبابه واستعد
للقيام بالوسائل الحديثة. وهنالك مشروع تأسيس جامعة في الهند وأخرى في سوريا،
وقد تكلموا في هذه منذ مدة ولكن لم يتم شيء من ذلك بعد.
ويرجع فضل حركة النهضة الإسلامية في الهند لأحمد خان الذي ولد في سنة
١٨٧١ وتوفي سنة ١٨٩٧ وهو المؤسس لجمعية الترجمة التي صارت بعد ذلك
باسم جمعية عليكرة العلمية، وهو الذي اهتم بإنشاء جامعة إسلامية ورغَّب الناس
فيها بواسطة جريدته وجسم هذه النهضة الدينية بعمله وكتاباته وخطاباته، وقد
أنشئت في كلكتا مؤتمرات للتربية الإسلامية حتى انتشرت هذه الحركة. وقد تحصل
الراجا محمود أباد أخيرًا على رضاء حكومة الهند بتأسيس مدرسة جامعة إسلامية
كبرى في عليكرة وهو المشروع الذي كان يشتغل به منذ زمن.
وأما مسلمو الأوقيانوسية فقد أسسوا الآن مدرسة إسلامية لتعليم اللغة العربية
في صومطرة، وفي جاوا تنشر الجرائد العربية.
أما المشروع الذي يفوق المشروعات الأخرى ويدل على الجامعة الإسلامية
قبل غيره فهو مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي قام به الشيخ رشيد رضا تلميذ
الشيخ محمد عبده الذي سبق لنا الكلام عليه، وكان قصده من هذا المشروع في بادئ
الأمر أن يكون في الآستانة إلا أن حزب الاتحاد والترقي كان يظهر له القبول
والترحاب إلى أن انقلب عليه فعاد السيد رشيد رضا لأرض مصر الكريمة فألف
فيها جماعة الدعوة والإرشاد ووضع بمساعدتها أساس مدرسة كلية إسلامية كبرى
مجانية وتبدأ المدرسة بسنة تمهيدية، ثم يكون لها صنفان مدة كل واحد منهما ثلاث
سنوات أحدهما صنف المرشدين الذي سيحيي بلاغة منبر الخطابة الإسلامية الراقد
منذ أجيال، والصنف الثاني لتعليم الدعاة إلى الإسلام، وهؤلاء ينتخبون من عِلْية
متخرجي صنف المرشدين فيتممون في السنوات الثلاث المعارف اللازمة لتأدية مثل
هذه المهمة العظيمة.
من هذا نعلم أن الجامعة الإسلامية تشعر أنها قادرة ليس على الدفاع عن نفسها
فقط بل على الشروع بفتوحات جديدة.
قال محمد أحمد في مقدمته لكتاب (الإسلام والنصرانية) تأليف الشيخ محمد
عبده: إن هذه الديانة السمحة ستمحو كل دين آخر وتزيل كل طريقة وتبقى وحدها
على الأرض.
والواقع أن الدين الإسلامي ينتشر في أواسط أفريقيا ومن الممكن أن ينتشر
أكثر. ويتضح من إحصائية الحج الأخيرة أن قد ظهرت في الوجود حركة دينية
شديدة. فإن عدد الحجاج صار ١٧٥٠٠ بعد أن كان ٧٥٠٠ وعدد الحجاج الذين
مروا بالقطر المصري ١٦٠٠٠.
إن الجامعة الإسلامية تسير بصراحة، وأنا أعرف جامعة أخرى لا صلة لها
بالدين. وهذه الجامعة أهلية محضة، والغرض منها إحياء تلك المدنية الإسلامية
الشرقية القديمة وإظهار جمالها وريحها العاطر القديم. وذلك أمل تشترك فيه ضفاف
الفرات الغنية الخصبة ودمشق القديمة من ورائه أن تتجدد عجائب مدائن الأندلس.
وليس هذا الأمل إسلاميًّا فقط بل إن الحمية التي يبديها الكتاب المسيحيون
حديثو السن لا تقل عن حمية إخوانهم المسلمين قوة وشغفًا. إلا أن هذا الميل لا
يمكن اشتراكه بالجامعة الإسلامية الدينية بدون تكلف في الألفاظ وتوسيع للدائرة إلى
حد لا يسعه مجال مقالة واحدة. ومع ذلك فإني أردت أن أشير إلى هذا الميل الذي
يهم البحث فيه كل من يهتم بشئون هذا الشرق القديم الذي لم تزل شهرته قليلة.
... ... ... ... ... ... ك. ت. خير الله
(المنار)
كتب هذا الكاتب اللبناني البليغ مقالته في الطان لتزداد فرنسا وسائر دول
أوروبة مقاومة لكل ما يرتقي به المسلمون ولذلك كبر الصغير، واستعان بالإيهام
والتهويل، فجعل عبد الحميد مؤيدًا لما يسمونه الجامعة الإسلامية وباثًّا لدعاتها،
وهو أشد خصومها وأكبر أعدائها، وإنما كان يصطنع بعض أصحاب الصحف في
البلاد الإسلامية ليمدحوه ويدافعوا عنه بلقب الخلافة كما اصطنع أمثالهم في أوروبة
للدفاع عنه ومدحه، وهو لم يحتل على جذب السيد جمال الدين إلى الآستانة إلا
ليحبسه فيها ويبطل عمله، ومن كلام السيد فيه (إنه سُلّ في رئة الدولة) .
كذلك جعل المقتبس من الصحف الجامعة الإسلامية وأوهم أن قراءه في
الأقطار الأمريكية والأوقيانوسية من أركان الجامعة الإسلامية وأنهم كثيرون يعدون
بالألوف، والصواب أن جلهم إن لم نقل كلهم من النصارى وهم قليلون. وقد صرح
في الجزء الأول من المقتبس بأنه علمي مجرد من النزعات الدينية، وقد صدق،
فإذا كان مع هذا يعد من صحف الجامعة الإسلامية فالمقتطف والهلال منها كذلك! !
وفى المقالة مبالغات أخرى خرج بها الكاتب عن محيط الحقيقة فمثّلها لأوربة
من وراء زجاجة الآلة المكبرة (الميكروسكوب) ولكنه أراد أن يجعل منها مسألة
الحج فأخطأ في الأرقام وجعل الكثير قليلاً والكبير صغيراً.
جعل السيد جمال الدين هو الواضع الأول لأساس هذه الجامعة وقال: إنها
أسست في مصر وأنها كانت دينية محضة. والصواب أن السيد رحمه الله تعالى لم
يَدع في مصر إلى جامعة دينية محضة بل أسس في مصر جامعة شرقية وحزباً
وطنياً دخل فيه السوريون وغيرهم من سكان مصر الشرقيين.
ومن أغلاطه ما ذكره عن جمعية الاتحاد والترقي من مقاومة الجامعة
الإسلامية، وهذا الغلط مبني على الخطأ في دعوى أن السلطان عبد الحميد كان
نصير الجامعة الإسلامية يبث الدعاة لها في أقطار العالم. والصواب أن الاتحاديين
هم الذين حاولوا دون جميع أصحاب السلطة قبلهم أن يستفيدوا من تعلق قلوب
المسلمين بالدولة فبثوا الدعاة لذلك في جميع أقطار العالم الإسلامي في الوقت الذي
يبذلون فيه جهدهم بإضعاف الدين ورجاله في المملكة نفسها، فزعماؤهم المشهورون
يقاومون نفوذ الدين ونشره من حيث هو دين ويحاولون الانتفاع به من حيث علاقته
بالسياسة.
ومن أغلاطه ذكر اسم مصطفى كامل في بحث الجامعة الإسلامية ووطنية
مصطفى كامل والجامعة الإسلامية ضدان لا يجتمعان، وإنما كان يقدس عبد الحميد
لأجل الانتفال بذهبه، وأوسمته ورتبه، وكذلك خليفته محمد فريد نصير زعماء
الاتحاديين ومقاوم مشروع الدعوة والإرشاد بإغرائهم.
وهنالك أغلاط أخرى لا حاجة إلى تتبعها، ومنها ما لا يترتب عليه شيء
كقوله: إن الكواكبي كان خطيباً مصقعًا وهو لم يكن خطيبًا، وقوله: إنه كان في
القطر المصري جمعية تُدعى العروة الوثقى طلبت من الأفغاني كذا وكذا،
والصواب أن الأفغاني هو الذي ألف جمعية العروة الوثقى.
وجملة القول أن الكاتب يعد كل عمل يعمله المسلمون سعيًا إلى الجامعة
الإسلامية، فإذا قرأوا أو كتبوا، أو أكلوا أو شربوا، يقول: إن كل ذلك استعداد
للجامعة الإسلامية , والمسلمون نائمون يغطون، لم يستيقظ منهم إلا نفر قليلون، قد
رأوا ملكهم ورزقهم يُغتال، وكل ما هو لهم مهدد بالزوال، فهم يقولون لهم في
بعض البقاع استيقظوا، وانظروا كيف تعيشون مع من معكم، ومن جاءكم من
فوقكم، ولا أعرف أحداً يسعى إلى اتحاد حكوماتهم، على أن أوروبا لم تدع لهم
حكومات، وإنما بقي لهم هذه الدولة المنكوبة التي يخربها أصحاب النفوذ فيها من
الداخل، وأوروبا من الخارج، كما قال المرحوم فؤاد باشا الشهير، ونسأل الله
وقايتها من هذه الأرزاء، فقد وصل الأمر إلى حد الدعاء.