للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية


اتفاقيات سريةعلى مراكش والعجم
وطرابلس الغرب [*]

من المعلوم أن في بلاد الإنكليز حزبين كبيرين يعود تاريخ إنشائهما إلى مئات
من السنين. وهذان الحزبان هما حزب الأحرار المتولي اليوم زمام الأحكام وحزب
المحافظين. ومن المعلوم أيضًا أن سياسة أوروبة في الوقت الحاضر تحوم حول
قوتين هائلتين إحداهما ألمانية ومناصروها من النمساويين وغيرهم والثانية إنكلترة
وأصدقاؤها من فرنسيين وغيرهم. وكل ما يجري في العالم السياسي تكون علله
ومعلولاته راجعة إلى إحدى هاتين الدولتين.
ولا جَرَمَ أن توازن القوات هو ما يحدو برجال السياسة المفكرين إلى الخوف
من نشوب حرب طاحنة ببين تينك الدولتين وحليفاتهما على نحو ما جرى بين
فرنسة وإنكلترة في زمن نابليون بونابرت وما جرى بين روسية وإنكلترة في
النصف الأخير من القرن الماضي. فإن الحروب العظيمة التي أفنت قوى أوربة
على زمن بونابرت لم تكن سوى نتيجة معقولة لسبب كبير هو اختلال التوازن
الدولي وسعي رجل أوروبة العظيم نابليون الأول لجعل فرنسة نقطة الدائرة في
سياسة العالم يومئذ وقيام الإنكليز بوجه ذلك النابغة خوفًا على الهند وسائر
مستعمراتهم بل خوفًا على كيانهم أمة مستقلة تشغل المقام الأول بين الأمم. وما
الحرب الروسية اليابانية الأخيرة سوى تكرار ما فعله الإنكليز مع نابليون الأول
وأعني ضرب مطامع الروس ضربة هائلة من قبل إنكلترة وحليفاتها حتى تبقى
الكفة الراجحة في جانب الإنكليز وخصوصًا في المشاكل الاستعمارية.
وبعد هذا التمهيد فلنعد إلى الحزبين الكبيرين عند الإنكليز وهما الأحرار
والمحافظون كما قلنا. فالمحافظون سقطوا بسبب حرب الترنسفال وأصبحت
الأكثرية في جانب الأحرار منذ ذلك الحين ولا يزال هؤلاء أصحاب الحَوْل والطَّوْل
حتى هذه الساعة. ومن المعلوم أن اختلاف الأحزاب السياسية ضروري لجلاء
الحقائق وبقاء معارضة تكون شبه شكيمة تردع الحكام والمتفذين عن الانقياد إلى
أهواء النفس وأميالها. والنفس أمارة بالسوء. وها أنا اليوم في موقف حرج للغاية
فقد أصبحت فيه أوروبة مثل بركان امتلأ جوفه بكل معدات الهلاك الهائلة. والعياذ
بالله من يوم ينفجر به ذلك البركان فإنه سوف لا يُبقي ولا يذر والمسئولية كل
المسئولية على المستلمين زمام الأحكام وخصوصًا في لندن وبرلين - أي حيث
نرى قوتين هائلتين واقفتين بالمرصاد بعضهما لبعض وكل منهما تعد العدة وتبالغ
في اتخاذ الاحتياطات لذلك اليوم العصيب أبعده الله عن العالم وأبعد الحروب
وويلاتها رحمة ببني الإنسان.
ولما كانت المسئولية عظيمة كما قدّمنا فلا غرو إذا أكثر الباحثون من التدقيق
والتمحيص تارة بالنقد وطورًا بالنصح وأخرى بالإنذار والتحذير حتى تبتعد مخاطر
الحروب عن أوروبة فتقترب القلوب بعضها من بعض ويحدث التفاهم والسلام الذي
هو ضالة العقلاء المنشودة ولا سيما في هذه الأيام. ولا يخفى بأن خطر الحرب
كان قريب الوقوع في أواسط العام الماضي بين ألمانيا وفرنسة بسبب مراكش،
ولولا أن الإنكليز أبدوا نواجذهم بإخطار ألمانيا بالانسحاب من مياه أقادير (الغدير)
والاتفاق مع فرنسة بمفاوضات حبية لقصفت أصوات المدافع ولعلع البارود واستلت
السيوف من أغمادها ووقع المحذور الذي يسعى محبو السلم إلى اتقائه.
ولما انفرجت تلك الأزمة الشديدة انبرى أحرار الإنكليز إلى نقد وزارتهم
الحاضرة وقام المعارضون يخطئونها ويظهرون للملأ مخاطر سياسة الأحرار
الحاضرة فأكثروا من المباحث بهذا الصدد ومابرحوا حتى الساعة يكتبون ويخطبون
وينشئون قائلين - ولهم الحق فيما يقولون -: إن الأمر جليل والحادث جسيم ومن
جراء غلطة سياسية صغرى، قد يكون سقوط أمم ونهوض أمم أخرى.
ولا غرو إذا حامت مباحث المعترضين على مسألة مراكش ومسألتي العجم
وطرابلس الغرب؛ لأن هذه المعضلات الاستعمارية هي سبب الخلاف وهي المحور
الذي تدور حوله مفاوضات الدول العظمى في الوقت الحاضر. فعن مشكلة مراكش
نقول: إن الأمر قد انقضى والحمد لله؟ ! ولكن الجرح لم يلتئم بعد وإذا التأم فعلى
دغل وهذا ما حدا بالحزب المعارض في إنكلترا إلى رفع عقيرته بالاحتجاج على
سياسة بلاده الخارجية وفي عرض الكلام عن تلك السياسة فضح أسرارًا سياسية
هائلة وأنذر الأمة بسوء العقبى فقال ما ملخصه حسبما ورد في العددين الأخيرين
لمجلة القرن التاسع عشر الشهيرة:
(إن الخطة التي اتبعها السر إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترة هي خطة
عوجاء سوف تجرنا إلى حرب طاحنة مع ألمانيا. وبإمكاننا اجتناب هذه الحرب
بسهولة تامة. واللوم في ذلك على سفيرنا في باريز الذي أصبح يبغض الألمان
وينفذ غايات بعض ذوي الأغراض الشخصية في نفس الوزارة الخارجية عندنا.
ومن سوء الطالع أن وزير خارجيتنا أخذ يصغي لهم غير حاسب للعواقب حسابًا.
ففي شهر يوليو (تموز) سنة ٩١١ اجتزنا أزمة هائلة؛ لأننا كنا على وشك الحرب
مع ألمانية. ولماذا؟ إرضاء لخاطر سفيرنا في باريز ليس إلا.
(فما هي المنافع التي تعود علينا إذا اشتبكنا بحرب بسبب مراكش؟ لا شيء
مطلقًا. فإننا إذا خسرنا فالويل لنا. وإذا ربحنا ففرنسة وحدها هي التي تغنم تلك
الأرباح. ولا ندري هل بقاء هذا التفاهم الودي مع فرنسة نافع لنا أم ضار - ونحن
إلى ما قبل سبع سنين فقط كنا نجهر على رءوس الأشهاد ببغض فرنسة واحتقار كل
شيء فرنسي. أما الآن فصرنا أصدقاء! وكذا صرنا أصدقاء الروس أيضًا فيا
للعجب كيف سعينا جهدنا لمحق الروس في حربهم مع اليابان؟) ولطالما كرر
الإنكليز هذا الاعتراف الصريح في السنين الأخيرة (ومازلنا نسعى لنضع حواجز
في سبيل تقدمهم الاستعماري. وكيف يعقل أن فرنسة وروسية تخلصان لنا الود
وهما لم تنسيا بعد مساعينا الهائلة ضدهما؟ فلو كانت الحرب قد نشبت في شهر
تموز الماضي بين ألمانيا وفرنسة بشأن مشكل أقادير (الغدير) وكانت إنكلترا قد
أنجزت وعدها فنزلت إلى ميدان القتال مناصرة لصديقتها فرنسة فمن كان يضمن لنا
بقاء أصحابنا مخلصين لنا؟ أو ما هي المنافع التي نجتنيها من حرب كهذه لا ناقة
لنا فيها ولا جمل؟
***
الاتفاقات السرية
(إن السر إدوارد غراي في خطبته الرسمية التي ألقاها في مجلس البارلمان
في ٢٧ أكتوبر (ت ٢) المنصرم جهر بصراحة تامة قائلاً: إنه استدعى إليه سفير
ألمانيا وصرح له باستعداد إنكلترة لمناصرة فرنسة مناصرة فعلية إذا لزم الأمر،
وسبب ذلك حسبما علمنا اليوم اتفاق سري أبرم في شهر ٨ إبريل (نيسان) سنة
١٩٠٤ ومن يعلم مضمون ذلك الاتفاق؟ ولكن دلت الحوادث على أن فرنسة
وإنكلترة وضعتا أمامهما يومئذ البحر المتوسط فقالتا هكذا:
(مصر للإنكليز من دون معارضة. مراكش لفرنسة مع السماح لأسبانيا
بالثغور الشمالية وقطعة من الداخلية ضرورية لتلك الثغور. طرابلس الغرب
لإيطالية لقاء سكوتها عن هذا الاتفاق) وربما كان لقاء سلخها من المحالفة الثلاثية
(وها إن الأميرال فرمانتل قد نشر مقالة في مجلة البحرية البريطانية مضمونها أنه
لم يعد ذلك الاتفاق سرًّا. فإن كل رجال الحكومة الإنكليزية وقفوا على مضمونه.
ولكن الصحافة الإنكليزية سكتت سكوتًا تامًّا عن هذا الاتفاق فلم تشر إليه ولا بكلمة.
ونحن مدينون لجريدة الطان الفرنسية التي فضحت هذه الأسرار ومثلها جريدة (له
جورنال) الفرنسية أيضًا التي أسهبت في الكلام على تلك الاتفاقيات السرية التي
نحن بصددها الآن. وكل ذلك نشر في صحافة باريز بالشهرين الفائتين (أي
ديسمبر ك ١ ويناير ك ٢) والأمة البريطانية لا تدري من هذه الاتفاقيات السرية
شيئًا بفضل سكوت صحافتها التي تطيع كل إيعاز من دار نظارة الخارجية.
(ليس ذلك فقط بل إن في جريدة الطان بعددها الصادر بتاريخ ٣٠ نوفمبر
(ت ٢) الفائت تصريح هائل محصله إبرام اتفاق حربي بيننا وبين الفرنسيين في
سنة ١٩٠٥ أولاً ثم في ١٩٠٨ ثانيًا وأخيرًا في سنة ١٩١١ وحسب شروط تلك
الاتفاقيات الحربية أن على إنكلترة إنزال ١٥٠ ألف جندي من جيشها البري في
بلجيكا حال نشوب حرب بين ألمانية وفرنسة فضلاً عن وجوب تحريك الأساطيل
البريطانية حالاً. وهذه القوة الهائلة التي استمدتها فرنسة من تلك المعاهدات الحربية
السرية هي التي جعلتها تستأسد في مؤتمر الجزيرة سنة ١٩٠٦ حينما أرت ألمانية
أن روسية وإيطالية والولايات المتحدة وإنكلترة هنّ في جانبها. وفي العام الفائت
أيضًا لما احتدم الخلاف بسبب مسألة أقادير (الغدير) كانت فرنسة تظهر من الحزم
والعناد شيئًا كثيرًا. ولما قيل لها: وكيف نوفق بين مطامعك الآن في مراكش وبين
تعهداتك في مؤتمر الجزيرة بحفظ استقلال تلك السلطنة المغربية؟ كانت تراوغ في
الجواب وتقول: هكذا أريد! وإن يدي يجب أن تكون مطلقة التصرف في
مراكش؟ !
(وبكلمة أوضح نقول: إن المؤتمرات الدولية أصبحت من دون اعتبار ولا
قيمة؛ لأن الاتفاقيات السرية تفسدها [١] والمعاهدات الحربية تتهدّد من يرفع صوتهُ
بإشهار الحرب في أقل من لمح البصر. وهل يليق هذا بشعب راقٍ مثل الشعب
الإنكليزي الذي يرسل نوابه إلى تلك المؤتمرات والذي يضرب المثل بمحافظته على
كلامه ووعوده فيقال في أوربة (كلمة إنكليزية) و (موعد إنكليزي) أي صادق
ومضبوط؟ وأمامنا الآن مسألة العجم ومسألة طرابلس الغرب. فما ذنب العجم يا
ترى حتى نتركها تتألم؟ لا ذنب لتلك المملكة الشرقية سوى كونها ضعيفة. هذا هو
الحق الصراح. وما ذنب تركيا في مشكلة طرابلس الغرب؟ إن مؤتمر برلين يقول
بحفظ سلامة تركيا. ولكن الاتفاق السري المبرم بين إنكلترة وفرنسة وأسبانية
وإيطالية على البحر المتوسط يناقض قرار مؤتمر برلين. ومن يجسر على
الاحتجاج؟ لا أحد. فإن دون الاحتجاج إعلان حروب واحتلال ممالك وولايات
وإمارات والويل للضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن حقوقه بقوته الوحشية [٢] .
قد رأينا الشعوب الأوربية وفي مقدمتها الشعب الفرنسي مذهولة أمام هذه
الحقائق المتناقضة فالفرنسيون هاجوا وماجوا لما دروا أن أسبانية زحفت إلى ما
وراء الثغور المراكشية وطلبوا من وزارة كايو الحزم إزاء هذا الزحف والمسيو كايو
المعروف (ببرودة الدم) والحزم والذكاء النادر المثال وقف حيران لا يدري ماذا
يفعل. فالاتفاقات السرية غلت يديه عن العمل كما أنها غلت يدي زميله ناظر
الخارجية المسيو دي سلف ولا بد من سقوط وزارة كايو [**] لهذا السبب المهم ,
وأهل أوروبا ينظرون إلى تركية الآن بعين العطف والشفقة؛ لأنها مظلومة ومعتدى
عليها [٣] ولكن الحكومات المرتبطة مع إيطالية بمعاهدات سرية تخالف أميال
شعوبها وتقول للناس: إن المؤتمرات الدولية وحقوق الأمم ليست سوى حبر على
ورق , وها إننا الآن في زمن نرى به الروس يزيدون في قوات أساطيلهم زيادة
فاحشة , والأسبان يفعلون كذلك تحت مراقبة وزارة البحرية الإنكليزية ذاتها ,
وبذات الوقت علمنا أن ألمانية قررت زيادة عدد جيوشها وإعادة تنظيم فيالقها كما
أنها قررت زيادة مدرعاتها في السنين المقبلة زيادة مضطردة. وعلى نبهاء الإنكليز
أن يفقهوا حرج الحال فيوقفوا وزارة خارجيتهم عند حدها حتى لا تعود تتمادى بعقد
معاهدات حربية وسرية، لأن الحروب لا تلائمنا مطلقًا، وكيف تلائمنا ونحن أمة
تجارية وصناعية؟ اهـ ثم أتبعت (الأفكار) المقال بما يأتي:
في مجلس الشيوخ الفرنساوي
ونحن نكتب هذه السطور وردتنا التيمس الصادرة بتاريخ ٨ مارس (أذار)
الجاري وفيها مما له علاقة بهذا الصدد الكلام الآتي عن فرنسة: -
اشتغلت ندوة النواب بالبحث في الاتفاقيات السرية فخطب المسيو بيو
منتقدًا تلك المادة في الدستور التي تمنح رئيس الجمهورية وحده الحق في عقد
معاهدات سرية مع دولة أجنبية واقترح تأليف مجلس شورى مؤلف من ستة أعضاء
من الندوة وثلاثة آخرين من مجلس الشيوخ يستشيرهم رئيس الجمهورية في مثل
تلك الظروف وهؤلاء التسعة يمثلون رأي الأمة ويمنعون رئيس الجمهورية من
الشطط. ولكن وزير الخارجية رفض هذا الاقتراح وقال: إن الوزارة لا تقدر أن
تتقيد هي أو تقيد رئيس الجمهورية بشرط كهذا؛ لأن أحوال السياسة الخارجية تجبر
الحكومة على إبقاء ذلك الحق في عقد اتفاقيات سرية بيد الرئيس وحده. وللرئيس
ملء الحرية في إشهار مواد الاتفاقيات أو حفظها مكتومة طبقًا لأحكام الظروف.
وتأجلت المناقشة في هذا الموضوع لوقت آخر اهـ.