للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: صالح مخلص رضا


فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

إذا نظر المصري إلى ما بين يديه من علم ومدنية وأدب إلخ، مما يسمونه
(التمدن الحديث) فإنما يرى مصدر ذلك كله فرنسة والفرنسيين، وإذا نظر المسلم
إلى أقدم صديق لدولة الإسلام سواء كان في دولة العباسيين العربية أوالدولة العثمانية
التركية في جميع أوربة , فلا يرى أمامه إلا فرنسة، بل إن الفضل في انقلاب هيئة
العلم والإدارة في أوربة جمعاء إنما هو لفرنسة، فإذا ادعت فرنسة بأنها أم المدنية
فإن لديها من البينة في الشرق والغرب ما يؤيد دعواها، وإذا نظر الشرقي إلى
أقرب الأمم الأوربية له في الأخلاق والعادات فإنه لا يرى أمام عينه غير الفرنسي
(هذه أقوال متداولة بين الناس) يقولون: إن فرنسة كانت ولا تزال أم العلم والمدنية
في الشرق والغرب وربة المال في جميع أقطار المعمورة - والمال حياة العمران -
فمبدأ نهضة سورية الأخيرة إفرنسي , والتفرنج المصري والرقي العلوي إفرنسيان ,
وقواد محمد علي وأساتيذ مدارسه من الفرنسيين.
فرنسة هي نفسها التي أعلنت بأنها حكومة لا دين لها ومعناه أنها لا تنصر دينًا
على دين فهي أم الحرية أم الإخاء أم المساواة - كما يقولون - وهي التي جعلت
عنايتها موجهة للتعليم (اللاديني) في مستعمراتها , وقد قال أحد المبشرين
الألمانيين (أسكنفلد) : (إن المدارس العلمانية تزيد الإسلام نموًّا وارتقاء) .
كل هذا مما يكاد يكون من القضايا المسلَّمة عند كثير من الكاتبين والمفكرين ,
وكان على مقتضى ذلك أن يكون المسلمون الذين هم تحت حماية فرنسة من أكثر
الناس تمتعًا بحريتهم الدينية والأدبية؛ ولكن الجوائب التي تأتينا من قِبَل مستعمراتها
الإسلامية على العكس من ذلك , إذ هي تدلنا أن المسلمين الذين تحكمهم فرنسة من
أشقى الناس وأتعسهم.
كتب أحد المخلصين من تونس (وقد أقام بها أيامًا) إلى المنار مقالة تحت
عنوان (حقيقة أخبار عن تونس لشاهد عيان) بإمضاء (ابن الحقيقة) ذكر في
مقالته هذه من معاملة فرنسة الجائرة للمسلمين ما لا يكاد يصدق, وقد نشرت مقالته
هذه في الجزء الخامس من منار هذه السنة , بعد حذف شيء كثير مما كتب , على
ظن أنه من المبالغة، ثم منذ أيام أمََّ القاهرة ذلك الرحالة المجاهد , وأخبرنا أنه شاهد
جميع ما كتبه عن تونس عيانًا , وفوق ما كتب من المعاملة الجائرة التي تعامل بها
فرنسة التونسيين , وأن إبعاد أولئك الأفاضل لم يكن له من سبب إلا أنهم كانوا
يحامون عن حقوق الضعفاء.
وذكر أن من الشيوخ الرسميين وغير الرسميين من ينفخ في بوق الفتنة ولو
خاف الله لأمكنه أن يساعد وطنه وملته , وأطلعنا على عدد من جريدة الزهرة فيه
أن بعض أعضاء المجلس الشوري قال في خطبة ألقاها بعد تلك الحوادث: (إن
تونس هي بنت فرنسة المدللة) إلى آخره , ثم قال: ولو أنصف لوضع للدال نقطة
ولكنه أبى أن ينطق بالحق (أي لو أنصف لقال المذللة) .
فسألته عن حالة تونس الأدبية فقال: إن هناك رجالاً قد عرفتهم ما أظن أنه
يوجد في مصر أو الشام أحسن منهم أخلاقًا , وغيرة ملية , ولكن التضييق شديد كما
قلت لكم.
ثم أخبرنا بأن لديه كتابات خصوصية لم يؤذن له بنشرها , وفيها من الغرائب
والعجائب ما يدهش العقل , وذكر أن كل قادم لتونس من هذه البلاد يكون تحت
مراقبة البوليس , وأنه رسم طريقة للمخابرة مع أناس من الأحرار في تونس لا
تصل إليها يد المراقبة , وهو يأمل أن تأتيه أخبار من هناك. قال: وبهذه الواسطة
أخذت هذه الجريدة وما لدي من الكتابات المذكورة.
وودعنا جاعلاً وجهته سورية فالآستانة العليا , ووعد بموافاتنا بما يصل إليه
في أي مكان كان [١] .
لم يكن هذا الكاتب أول مخبر عن تونس فيشك في أخباره , وإذا كان هو
المخبر وحده عن تونس فمن الذي يخبر عن أحوال الجزائر ومراكش؟
كان على فرنسة وهي معلمة المدنية! أن تكون أوسع صدرًا مع محكوميها من
إنكلترة ولتذكر ما يقوله ساسة الألمان من اغتنام فرصة الانتفاع بتحول قلوب
المسلمين عن فرنسة.
هذه مصر والسودان يكتب فيهما الإنسان ما يشاء لمن يشاء حتى بعد إحياء
قانون المطبوعات , ولم نسمع بأن عدة جرائد أقفلت في يوم واحد أو أن أناسًا أبعدوا
من أجل حرية أفكارهم , بل إن المحامين دافعوا دفاعًا مرًّا يوم محاكمة قاتل رئيس
النظار السابق والمتهم يقول: أنا قتلته؛ لأنه كان مضرًّا بوطني فماذا جرى؟ نفذ
الحكم بالمعترف بالقتل دون أن يلحق غيره من أهل حزبه أو وكلائه
أدنى ضرر.
وجرى بمصر اعتصاب عمال الترام مثل ما جرى بتونس , فلم يكن من
الحكومة إلا إجراء وظيفتها , ولم تخلق مسألة سياسية دولية من جراء ذلك ,
وإعانات الحرب تجمع علنًا , وتنشر في الجرائد بل يأتي إلى مصر من
المستعمرات الإنكليزية إعانات كثيرة للدولة العلية , ولم يكن من الإنكليز أدنى
معارضة.
لهذا نرى المسلمين أميل إلى الإنكليز من جميع الأمم , وأشد نفورًا من فرنسة
ولقد رأيت أحد المراكشيين يومًا يبكي , فقلت: ما يبكيك؟ قال: مستقبل بلادي
وليتها إذ وقعت تحت حكم أجنبي كانت من حظ الإنكليز , كذلك سمعت غير واحد
من البلاد التي لا يزال لها الاستقلال يقول: إن كان ولا بد من ذهاب استقلالنا
فلنكن للإنكليز، ولم يا ترى؟ ؟ لأنه يظن أن فرنسة تطمع باحتلال بلاده.
ألم تكن فرنسة جديرة بأن تميل الشعوب إليها ميلها للإنكليز؟ بل ألم تتعلم
فرنسة طريقة الإنكليز في الاستعمار؟ لا أقول هذا مادحًا الإنكليز , ولكنني أحكي ما
أسمعه , وأثبت اختباري , وأسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا باستيقاظ أهلها
وحكومتها من الوقوع في أشراك الاستعمار , وخصوصًا الاستعمار الفرنسي.
... صالح مخلص رضا