للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: نسيب أرسلان


الشعر العصري

زفير الفقير [*]
أرقت وما قلبي يا سماء يكلف ... ولا مدمعي من حُرقة البين يذرف
ولا شاقني وادٍ من الجزع مؤنق ... لعمري ولا ظل من القاع مورف
شجتني أعاجيب الحياة فإنها ... أوابد للمقدور ليست تعرف
يكل ضياء الفكر عنها كأنها ... على لبسها قطع من الليل مسدف
رأيت لو البأساء في الجو ترتقي ... لشق على بدر الدجى فيه موقف
***
ولو ترتمي يومًا بمتسع الفضا ... لأضحت خريق الريح في القيد ترسف
رأيت سليل الفقر يعمل في الثرى ... مكبًّا على محراثه يتلهف
يخد [١] أديم الأرض خدًّا كأنه ... له قبل الغبراء ثار مخلف
كأني به نادته للحرب فاغتدى ... يكر عليها بالحديد ويعطف
كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف
كأني به إذ خط في الأرض قبره ... يهم على جثمانه ثم يصدف [٢]
به آية الجهد الذي ليس ناهضًا ... به بشر غض البنان مهفهف
جبين بمرفض الصبيب [٣] مضمخ ... وشعر بملتص [٤] الغبار مغلف
وجيد خفوق الأخدعين [٥] كأنما ... تبينت من أوداجه [٦] الدم ينطف
رثيت لمكروب سحابة يومه ... إذا قر منه معطف ماج معطف
إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تنقصف
كأن ارتجاج الصدر قدَّ وتينه [٧] ... فلم يبق إلا نشفة تتصرف [٨]
كأن أزيز الجوف عند وجيبه ... حسيس هشيم والندى يتوكف [٩]
تشقق عنه الثوب فالريح قد غدت ... تصافح منه جلده حين تعصف
وأثبت وقع الشمس في أم رأسه ... نبالاً فراش العظم منها منقف [١٠]
تبطن منثور الغبار جفونه ... فضرّج منها مقلة تتحسف [١١]
كأن حماة الشوك في ذيل برده ... طراز حواه العبقري المفوف [١٢]
يمد إلى الجبار كفًّا تكدحت [١٣] ... أناملها والله بالعبد أرأف
***
ولما تقض اليوم إلا أقله ... تراجع نحو البيت في السير يَدلِف
إذا مد عند المشي رجلاً أمامه ... توهمت عنها أختها تتوقف
يساقط نثر الطين عنه إذا مشى ... كما فض ختم الدن سكران معنف [١٤]
إذا صادفته (المركبات) وفوقها ... من الركب هيفاء القوام وأهيف [١٥]
رمته العتاق السابحات بتفلها ... ومرت كما مر النعام المزفزف [١٦]
***
ولما أتى مأواه خفت عياله ... إليه كآرام على الشيح تعكف [١٧]
يلاقونه صور الرقاب من الأسى ... فيرنو إليهم ساعة ليس يطرف [١٨]
ثماني بُنيات كأفراخ وكنة ... وفي المهد منهوك التجاليد يهتف [١٩]
وخاشعة الألحاظ روَّع قلبها ... زمان يكب النيرات ويكسف
وما عدمت أم البنين وسامة ... ولكن مس الضر للحسن متلف [٢٠]
قرت زوجها مما تسنى وإنه ... حثالة زيت والرغيف المقفقف [٢١]
بمغنى خلاه الفرش إلا عفاشة ... تمج أضاميم البعوض وتقذف [٢٢]
ومدت له بعد النعاس حشية ... بها جبل عال وغور ونفنف [٢٣]
توسد ثم ارتاع من بعد هجعة ... لصوت الحيا ينهل والرعد يقصف
وقد زاد ضعف النور في البيت وحشة ... كأن به طيف [٢٤] الشقاء يطوّفُ
إذا ضربته الريح لم يدر ربهُ ... به الريح تمكو أو به الجن تعزف [٢٥]
نبا النوم عن عينيه حين تنبهت ... وساوسه والهم في الليل يخشف [٢٦]
رأى نفسه رهن الخصاصة والأذى ... وأن الغواشي عنه لا تتكشّف [٢٧]
وأن وثاق الذل في الزند محكمُ ... وأن خناق الغمّ في النحر محصف [٢٨]
إذا استنجد الآمال عند اكتئابه ... تبدَّى له ستر من القار مغدف [٢٩]
بلاء لَعمري لا يطاق وترحة [٣٠] ... يكلّ جميل الصبر عنها ويضعف
***
وصفت لك الضراء يا صاحب الغنى ... وهل تعرف الضراء من حيث توصف
هي الفقر ما أدراك ما الفقر إنما ... لهاة [٣١] الردى منه أخف وألطفُ
حياة بلا أنس وعيش بلا رِضى ... فلا الرغد ميسور ولا العمر ينزف
بكيتك يا خلو اليدين بأدمعي ... فأنت صريع النائبات المذفف [٣٢]
يروح كثير المال يسحب ذيله ... (وأنت المعنَّى يا فقير المكلف)
ألست الذي شاد الحصون بعزمه ... وناط نجاد السيف للحرب يزحف [٣٣]
وأجرى سفين البحر في اللج ينثني ... ومشى قطار النار في البِيدِ يهذف [٣٤]
وقد ملأ الأنبار للخلق مِيرة ... وحاك لهم موشية تتغضف [٣٥]
بلى إن من هان العسير بكده ... على الأرض مفتول الشوي متقشف [٣٦]
أخو فاقة لم يدخل الطيب رأسه ... ولا مس كفيه القضيب المعقف
***
أفي الحق أن يشقى الفقير بعيشه ... وذو المال في شر الغواية يسرف؟
وأن يدنف المثري بأعقاب بطنه ... غداة خفيف الحاذ بالجوع يدنف [٣٧] ؟
أما في كبود العالمين هوادة [٣٨] ... ولا رحمة عند الشدائد تعطف
وهل لم يكن بين الأنام قرابة ... يمت [٣٩] بها منهم عديم ومترف
أرى المرء لا يأسو جراحة مملق ... ولو هز فوديه النصيح المعنف [٤٠]
أراه إذا ما نعَّم الرغد جسمه ... غدا قلبه يقسو لديه ويصلف [٤١]
***
إليكم بني غبراء تدمى عيونهم ... وليس لهم إلا المياسير مسعف
يمدون نحو المحسنين أكفهم ... وهل يستوي المكفي والمتكفف
سألت غزير المال حين يفوتهم ... من الرمل تحثو أم من البحر تغرف
ألا إنما الحسنى إليهم فريضة ... وفي ذلك الآيات لا تتحرف
فإن طلبوا الإنصاف قيل سماحة ... ومن لك بالمظلوم لا يتنصف [٤٢]
عليكم بكشف الضر عنهم فإنما ... أخو الضر يمسي ضاريًا حين يهجف [٤٣]
فلا ترهقوهم بالشقاوة والطوى ... فيبدر منهم بادر لا يكفف [٤٤]
فإن لم ينالوا بالهوادة حقهم ... ينالوه يومًا والصوارم ترعف [٤٥]
ولا تهملوا حسن الخطاب ولينه ... فإن الخطاب العذب نعم المثقف [٤٦]
لكم عبرة في الغرب من كل فتنة ... تهز الجبال الراسيات وتخف
فلو كان عيش للمفاليس طيب ... لما قام منهم قائم متطرف
... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... نسيب أرسلان