للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

الكاتب: محمد رشيد رضا


التقاريظ

(انتقاد تاريخ التمدن الإسلامي وآداب اللغة العربية)
تشر العالم الفاضل شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رئيس جمعية ندوة
العلماء هذا الانتقاد بكتاب خاص، ونشر جميعه في مجلة المنار، وقد طبعه على
حدة، ثم كتب الأستاذ العالم المحقق الشيخ أحمد عمر الإسكندري انتقادًا على الجزء
الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي أفندي زيدان، ورأينا في مجلة
المشرق انتقادًا آخر لهذا الجزء أيضًا للأستاذ الأب لويس شيخو اليسوعي، فرأينا
تذييل انتقاد الشيخ النعماني بهذين الانتقادين، وسيصدر الكتاب في أثناء شهر شوال
المقبل إن شاء الله تعالى، وإليك ما كتبه صاحب ومنشئ المنار مقدمة لانتقاد الشيخ
شبلي النعماني، وهو:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (الأنبياء: ١١٢) .
أمّا بعدُ، فإن علماء الإفرنج قد سبقونا إلى وضع تاريخ سلفنا في القالب
العلمي الحديث. ثم حذا حذوهم رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان بكتابه الذي
سماه (تاريخ التمدن الإسلامي) فشكر له عمله هذا المسلمون عربهم وعجمهم
بإقبالهم عليه , وترجمتهم إيّاه إلى عِدّة لغات وثنائهم عليه. ولكن الرجل أقدم على
هذا الأمر ولم يعدّ له كل عدته، ولا أخذ له جميعَ أُهْبَتِهِ، لما رأى مجال القول
واسعًا، وميدان الكتابة واسعًا، وكلاهما خالٍ من فِرْسَانِ الكلام، حملته أسلات
الأقلام، وظن أنه يكفيه من الاستعداد لذلك اقتباس أسلوب الإفرنج فيه ,
ومراجعة كتبهم العربية الجامعة لمادته، ككتب الدين والأدب، والتاريخ والنسب،
وإنْ كان لم يأخذ هذه العلوم عن أهلها، ولا عَرَفَ فَرْعَها ولا أصلَها، ولعله لم يقرأ
شيئًا من كتبها قراءة دراسة وبحث، إلا بعض كتب التاريخ المعروفة؛ لأنه لَمَّا يكُنْ
مسلمًا , ولم يَتَرَبَّ في مدرسة تُقرأُ فيها العلومُ الإسلامية , لم يكن له باعث على
تحصيل هذه العلوم، وإنما رأى نفسه محتاجًا إلى مراجعة كتبها، عندما قام في
نفسه الباعث للتأليف فيها، وَمَنْ كان هذا شأنه لا يتسنّى له فَهْم ما يراجعه مِن
المسائل حقَّ الفهم.
وقد قال الفقهاء: إن نقل المخالف في المذهب لا يعتدّ به؛ لأن الفِقْهَ - وإنْ كان
فنًّا واحدًا - تختلف اصطلاحات المذاهب وأصولها فيه، وطرق الترجيح
والتصحيح لمسائله، فمن يراجع عند الحاجة كتابًا في غير مذهبه الذي تَلَقَّاهُ
بالمدارسة لا يوثق بفهمه لما يراجعه فيه , وكثيرًا ما يغتر بغير الصحيح المعتمد عند
أهله منه، وإذا كان الأمر كذلك في نقل فقيه مذهب لبعض المسائل مِن مذهب آخرَ ,
فأجدر بالمخالف في أصل الذي ينظر إليه في غير مِرْآتِهِ، والذي لم يتدارس شيئًا من
علومه، أنْ لا يُعْتَدَّ بِفَهْمِهِ، ولا يوثقَ بنقله، مَهْمَا كان متحريًا للحق، صدوقًا في
النقل، ينقل ما ينقله بالحرف، فإذا كان ينقل بالمعنى كما هو دأب صاحب تاريخ
التمدن في الغالب , فإن خطأَه يكون أكثرَ.
كنت كلما نُشِرَ جزء من أجزاء هذا التاريخ أنظر في بعض صفحاته , فأرى
فيها خطأً وغَلطًا في النقل والرأي , ويظهر أن سببَه ما شَرَحْتُهُ آنِفًا، أو جعل
الواقعة الجزئية قضيةً كُلِّيَّةً وقاعِدَةً عامَّةً، وقد نبّهْتُ على ذلك في (المنار) غيرَ
مَرّةٍ , واقترحت على أهل الفراغ من أهل التاريخ أن يطالعوا الكتاب كله، وينتقدوه
انتقادًا عادلاً، ويبينوا أغلاطه وخطأه في المسائل الإسلامية، وهضمه للأمة العربية،
لعل المصنف يصحح ويصلح ما يظهر له من الصواب، ويبيِّن عذره في غيره
فيتحرر الكتاب؛ لأنه كثيرًا ما يطالب الكتاب بالانتقاد , واعتذرت عن نفسي إذ لم
تقم بهذا العمل بكثرة الشواغل التي يضيق بها وقتي.
ولما عرض المصنف تاريخه هذا على نظارة المعارف العمومية لتقرره في
مدارسها عهدتُ إلى بعض أصدقائي من أساتذة مدارسها العالية بالنظر فيه , وبيان
رأيهم فيه لها، فطالعوه وَبَيَّنُوا للنظارة أنه لا يصلح للتدريس لكثرة أغلاطه المعنوية
واللفظية، وتمنيت يومئذ لو كانوا أحصوا ما ظَهَرَ لَهُمْ مِن ذلك الغَلَطِ , وَنَشَرُوهُ ,
وَاقْتَرَحْتُ ذَلِكَ على بعضِهِمْ فَمَا أَفَادَ الاقْتِرَاحُ، وإذًا لتيسر تنقيح الكتاب.
وقد انتقد بعض الناظرين الكتاب في المؤيد، وَرَمَوْا مُؤَلِّفَهُ بِسُوءِ النِّيَّةِ، وتعمُّدِ
التحريف، وفسادِ الاستنباط، وَرَأَوْا أنْ سببَ ذَلِكَ هو التعصُّب الديني والنظر إلى
تاريخ الإسلام وآدابه بعين السخط. وكنت مخالفًا لهم في هذا الرأي، وجاهرت
بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فيه، على علمي بأنه لا يعقل أن ينظر أحد إلى دين لا يدين اللهَ به
بعين الرضا التي يراه بها أهله؛ لأنني لا أرمي أحدًا بسوء النية، إلا بِبَيِّنََةٍ وَحُجَّةٍ
قوية.
ثم جاءني في فاتحة هذا العام وَرَقَاتٌ مطبوعةٌ مِن مصنف جديد في الانتقاد
على هذا التاريخ لعالم شهير من علماء الهند، يعده جرجي أفندي زيدان صديقًا له،
وهو شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رئيس جمعية ندوة العلماء، وجاءني معه
كتاب من مؤلفه يرغب إليّ فيه أن أنشر هذا الانتقاد في المنار لِيَعُمَّ نَفْعُهُ. وهذا
الكتاب هو الذي دعاني فيه أول مرة إلى مؤتمر ندوة العلماء، ورياسة احتفاله
السنوي في هذا العام، ولما رجحت إجابة الدعوة صار لنشر هذا الانتقاد في المنار
ثلاث دَوَاعٍ: فائدة الانتقاد في نفسه، وإجابة اقتراح كاتبه لعلمه وفضله، والحاجة
إلى مادة للمنار في مدة سفري غير ما أكتبه من التفسير وغيره، إذ لا يتيسر لي أن
أكتب في السفر كل ما يحتاج إليه من المواد.
أذنت بنشر الانتقاد في المنار وسافرت بعد الشروع فيه، ولم أكن أعلم بكل ما
جاء فيه من الإنحاء الشديد من المنتقد على مؤلف تاريخ التمدن الإسلامي , ورميه
بالتحريف والكذب في النقل، واتِّهَامه بسوء النية والقصد، ولم أكن أتصور منه كل
هذه الشدة في التُّهْمَة، وإبرازها في أقبح صورة، لعلمي بما بينهما من المودة
الأدبية، والصحبة القَلَمِيَّة، ولو علمت بذلك لاستأذنت المنتقد في حذف تلك الألقاب،
والتلطف في هاتيك العبارات، ولما لقيته في الهند , وكنت قد قرأت بعض ما
نشر من الانتقاد راجعته القول في سبب هذه الشدة , فعلمت أن سببها الانفعال والتألم
من مؤلف تاريخ التمدن الإسلامي لاعتقاده أنه تعمد التحريف والكذب لأجل تحقير
العرب.. . وسبب هذا الاعتقاد أن ذلك الخطأ الكبير، والغلط العظيم إما أن يكون
عن جهل، أو عن سوء قصد، والمنتقد يستبعد جِدًّا أنْ يكونَ عن جهل، فترجَّح أو
تعين عنده أنه عن سوء قصد، هذا ما علمناه منه، وقد أطلعني على كتاب جاءه من
جرجي أفندي زيدان يقول فيه: إنه رأى الانتقاد على كتاب تاريخ التمدن الإسلامي
منشورًا في المنار معزوًّا إلى صديقه الشيخ شبلي النعماني , فلم يصدق أنه له
ولم يشأ أن يتنازل عن صحبة عشرين سنةً قبل التثبت بسؤاله عنه، وطلب منه أن
ينكر عزوه إليه، ولكن الأستاذ لم يجبه بشيء، ليعلم أن السكوت إقرار، وأن
الكذب والتزوير لا يَدْنُوانِ مِن مجلة المنار، وقد عُلم من هذا أن رصيفنا الفاضل
صاحب الهلال الأغر قد أساء الظن بنا ولا شبهة، بمقدار ما أَحْسَنَّا الظَّنَّ فيه على
كثرة الشُّبه.
وإنني مع هذا أُشْهِدُ اللهَ والناسَ أنني أجد في نفسي أَلَمًا مِن هذا الانتقادِ في
المنار، مِن حَيْثُُ نَبْذُ الرصيفِ فيه بتلك الألقاب، ثُمَّ من نشره كذلك في كتاب على
حدته، بإذن المؤلف وإجازته، ولكن الدواعي توفرت , والبواعث قد قضت بهذا
النشر.
هذا وإننا نرجو أن يكون لظهور هذا الانتقاد في هذه الأيام فائدة وراء فائدة
تمحيص التاريخ وحمل صاحب تاريخ التمدن الإسلامي على التروي والتدقيق فيما
يكتبه بعد في تاريخ الإسلام، تلك الفائدة المرجوة هي أن يترجم هذا الانتقاد باللغة
التركية كما ترجم التاريخ المنتقد فيكبح من جِماح دعاة العصبية التركية الذين
استعانوا بنشر ترجمته بلغتهم على تحقير العرب وانتقاص مدنيتهم، وغمط
حضارتهم، وتفضيل الأعاجم عليهم، فكادوا يولدون بذم العرب عصبيةً عربيةً،
بإزاء ما رفعوا قواعده من العصبية التركية، ولو كانوا يقسمون الجنسية الإسلامية
إلى عِدَّةِ جنسيات، من غير مفاضلة ومغامز تثير العصبيات، وتفرق بين الإخوة
والأخوات لَهَانَ الأمرُ، وقلّ الضُّرُّ، وَلَكِنَّهُمْ سَفَكُوا بِهَا دِمَاءَ الألوف الكثيرة،
وَأَضَاعوا بذلك القناطير المقنطرة من أموال الدولة، ولا يعلم أحد إلا الله إلى أين
تنتهي عاقبتها، إذا لم يوفق رجال الدولة إلى تلافي أَمْرها.
ثم المَرْجُوُّ مِنَ الْمُطَّلِعِ على هذا الانتقادِ أنْ يجعل حظه منه تحرير المسائل
التاريحية دون الالتفات إلى مقاصد الكاتبين، ونِيّات المصيبين والمخطئين،
{فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ
هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: ١٧-١٨) .
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا
***
(تعليل النوع)
(مؤلَّف) يشرح نظرية تعليل النوع الجديدة المَبْنِيَّة على المشاهدات العملية
مع إيضاح الطريقة المُؤَدِّيَة لِمَعْرِفَةِ نَوع الطفل في بطن أُمِّهِ , وقَبْل ولادته ,
وبيان الحصول على النوع المرغوب فيه من ذَكَرٍ أو أُنْثَى.
تأليف رملي دوسون وتعريب الدكتور محمد عبد الحميد طبيب مستشفى
قليوب، صفحاته ٢٦٤ صفحة , وهو مطبوع على وَرَق جيد طبعًا حسنًا , وثمنه ٢٠
قرشًا , ويطلب من المعرب بقليوب , ومن مكتبة المنار بشارع عبد العزيز.
كثرت هدايا الدكتور محمد عبد الحميد العلمية للغته وأمته , وآخرها هذا
الكتاب الذي عَرَّبَهُ إِرْضَاءً لِلْعِلْمِ وَخِدْمَةً للبيوت (العائلات) بإدخال العلم إليها
بطريقة مرغبة ومشهية.
(موضوع الكتاب)
أما موضوع الكتاب فهو البحث في إمكان معرفة نوع الطفل وهو جنين في
بطن أمه أذكرًا هو أم أنثى، ولا يقول المؤلف بإمكان الوصول إلى ذلك بقرع
الحصى والودَع والفول أو بالتخطيط في الرمل، بل إنه بَنَى تحقيق نظريته هذه
على مشاهدات وتجارب وحساب لأوقات الحيض والولادة والحمل , وَوَضَعَ لِذَلِكَ
جَدْوَلاً في آخِرِ الكتاب.
ولم يَنْسَ المؤلف خطارة الموضوع , ولكنه الْتَمَسَ مِن القارئ أن يُؤَجِّلَ الحكم
عليه وفيه حتى يتم مطالعة الكتاب بالدقة , فيصل إلى النتيجة التي وصل هو إليها،
وقال بأن هذه المسألة وصفت بأنها: (تكاد تكون من عالم الغيب ولا يمكن حلها) .
وذكر أن أشياء كثيرة ونظريات جمّة كانت تعد من عالم الغيب فَحَلَّ رُمُوزَهَا
العِلْمُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلاً تلغراف ماركوني وأشعة الراديوم والمراكب التي تسير
تحت الماء إلى غير ذلك مما يحاول العلماء حلّه في المستقبل, كمسألة اكتشاف
القُطْبَيْنِ , وترقية عالم الطيارات , ثم قال ما معناه: وحل هذه الأشياء هي ما يشجع
على اقتحام مثل هذه العقبة عقبة تعليل النوع , ويمهد له العذر بإصدار هذا الكتاب
الذي ادَّعَى أنه اكتشف به سِرًّا مِن أسرار الطبيعة.
وذكر أن نظريته هذه مبنية على حقائق ومشاهدات , وأنها بذلك سَمَتْ عن
نظرية الأستاذ شتك (الذي كَانَ كَتَبَ فِيهَا قَبْلَهُ وَجَهَّلَهُ النَّاسُ وَقْتَئِذ) .
توسع المؤلف في الفصول الأولى من كتابه في مسائل علمية , فكان الكتاب
وسيلة لتعليم الناس شيئًا من العلم؛ لأن كتابًا كهذا مما ترغب فيه البيوت
(العائلات) وقد عَقَّبَ كل بحث علمي من هذه الفصول بما يؤيد نظريته؟
وخلاصة البحث أن المولود إذا تَخَلَّقَ مِن بويضة متكونة في الجانب الأيمن
من الرَّحِمِ (المبيض الأيمن) فهو ذَكَرٌ , وإن تخلق من بويضة متكونة في الجانب
الأيسر من الرحم (المبيض الأيسر) , فهو أنثى , وَوَطَّأَ السبيلَ إلى هذه المعرفة -
معرفةِ أي مبيضي الرحم كوّن البويضة، وإذا سهل ذلك واتَّضَحَتْ معرفته , فقد
أمكن التحكم بنوع الطفل، أي أمكن أن يلد الزوجان ذكرًا أو أنثى على حَسَبِ مَا
يَرْغَبَانِ.
وَسَوَاءٌ أَصَحَّتْ أَدِلَّةُ المؤلف في تحقيق هذه النظرية أم لم تَصِحَّ , فإنني أقول:
إن هذا الكتاب مِن أنفس الكُتُبِ في موضوعه , فهو مرتب على أقيسة وتجارب
علمية , ولا يستبعد أن تتحقق نظريته هذه بارتقاء العلم بأن تخترع أشعة من قبيل
أشعة رنتجن وأنْ تَرْقَى هي بحيث تمكن بواسطتها رؤية تَكَوُّنِ البويضة وَتَخَلُّقِ
الجنين , ويكون مِن ورائها بعض الفوائد لبعض الناس.
هذا؛ وإن المؤلف أوضح مسائل جاءت مؤيدة للدين منها أن من المعروف
عند المِلِّيِّينَ أن الإنسان من نسل أبيه , وأن الأم مجرد وعاء {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن
بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الأعراف: ١٧٢) ومن هذا تسمية الأم مزدرعًا
والنسل حرثًا أو زرعًا مع قول العلماء بأن المولود , إنما هو من الأم , وأما الحيوان
المنوي ليس إلا كموقظ للبويضة الناضجة، وكانوا يقولون بأن حيوانًا منويًّا واحدًا
يحصل به اللقاح ولا يحتاج لغيره، وقد أثبت الدكتور رملي روسون أن البويضة
ذات ثقوب كثيرة في غشائها الخارجي لدخول حيوانات منوية كثيرة لتعطي البويضة
الحياة الطويلة المستمرة للقدرة على التخلق , وأن البويضة بعد أن تنضج لا تطول
حياتها بدون هذه الحيوانات , وهي التي تحمل للبويضة جميع صفات الأب , وكلما
زاد عدد هذه الحيوانات كلما كثر شبه المولود بوالده، والذي يتجلى من هذا أن
الحيوان المنوي هو الأصل للمولود كما أن الأصل للشجرة إنما هو البذرة , تُلْقَى في
الأرض حامِلَةً صفات وخواصّ الشجرة الأولى , ولا بد من تأثير الأرض بعناصرها
في تكميل نوعية تلك الشجرة وتغذيتها لذلك يقولون: إن نوع كذا من النبات يجود
في أرض كذا , ونوع كذا على العكس.
وعليه , فإن ما يأخذه المولود من أمه هو بمثابة ما يأخذه مِن الأغذية بعد
الولادة (راجع ص ٣٩ و٤٦ من هذا الكتاب) لتكميل بناء الجسم وتجديد ما
يندثر من دقائقه.
ولكن من المعلوم أن للإنسان جوهرًا أصليًّا لا يتغير ولا يتبدل , وذلك هو
الروح وأجزاء الجسم الثابتة , وهناك دقائق تتبدل وتتحول وتتجدد , ومع ملاحظة
أن البويضة لا حياةَ لها طويلة بذاتها , وإنما تستمد الحياة الدائمة من تلك الحيوانات
المنوية , فقد صَحَّ نِسْبَة المولود لأبيه , وأنه أحقُّ به من جهة النسب والعصبية
والذكر وسائر الأشياء المعنوية الثابتة. ولكن حقّ الأم لا ينكر الولد من والديه قطعًا
وشرعًا وعلمًا.
إيرادان:
ربما قال قائل: إذا أمكن معرفة نوع الجنين في بطن أمه , فما معنى قوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (لقمان:
٣٤) وقد تناقل الناس أن هذه الأشياء الخمسة المذكورة في هذه الآية استأثر الله
تعالى مما يعلمه.
وإذا أمكن أن يتحكم الوالِدَانِ بِنَوْعِ المولود من جهة الذكورة والأنوثة. فما
معنى قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى:
٤٩) , ومِن المعلوم أن الهبة إنما هي العطاء بدون مقابل , وليست هذه الهبة
بمطلق العطاء بل هي تتناول إعطاء مقيدًا بنعمة الذكورة أو محنة الأنوثة بدليل
السياق. فنقول:

(رد الإيراد الأول)
إن قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} (لقمان: ٣٤) , لا يفيد
الاختصاص ولا الحصر، ومطلق العلم لا يمنع أن يعلم أحد غيره تعالى ذكورة أو
أنوثة المولود بطريق من الطرق العلمية أو الحسابية , وقد ورد لفظ (وَيَعْلَمُ) في
القرآن أكثر من ستين مرة , ولم يقل أحد إن مجرد الفعل المضارع يفيد الحصر أو
الاختصاص.
وأما قوله تعالى في أول الآية: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: ٣٤)
فإنه يفيد الحصر بتقديم اسم الجلالة وبناء الخبر عليه - وتقديم الظرف يفيد
الاختصاص قطعًا - فلا مرية بانحصار عِِلْمِ الساعة به تعالى واختصاصه بذلك ,
وقوله: {وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ} (لقمان: ٣٤) معطوف على جملة {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ
السَّاعَةِ} (لقمان: ٣٤) إلخ , فهو إخبار بأنه تعالى انحصر فيه علم الساعة
واختص هو به , فلا مطمع لسائل أن يعلم وقتها , وهو تعالى ينزل الغيث {وَيَعْلَمُ
مَا فِي الأَرْحَامِ} (لقمان: ٣٤) علمًا كاملاً، فإن قلت بعطف الجملتين على الجملة
الظرفية المبنية على الاسم الجليل , وسلطت الاختصاص على علم تنزيل المطر
بأن يكون مِن حَيْثُ دلالة المقدور المحكم المتقن على علم الغيب، فعلمه تعالى ما
في الأرحام يختص تعالى به مِن حَيْثُ العلمُ التامُّ الكامل , وأما كون الجنين ذَكَرًا أم
أنثى , فلا مانع مِن أن يطلع الله عليه أحد مخلوقاته بطريقة من الطرق , وقد وَرَدَ
في بعض الأحاديث أن المَلَكَ الموكل بالرحم يعلم الذكورة والأنوثة.
ولولا ما ورد من الآثار بأن هذه الخمسة مما استأثر الله تعالى بعلمه لَمَا تَكَلًَّفَ
المفسرون تعب تطبيق القواعد على جعل جميعها مِمَّنْ لا يمكن لأحد أن يُطلعه الله
على شيء منها , وَلَكَانَ لقائل يريد أن يفهم الآية من الألفاظ العربية أن يقول: إن
مَسَاقَّ الآياتِ لَيْسَ لإفادة اختصاصه تعالى بعلم هذه الأشياء؛ لأن الآيةَ سَبَقَهَا قَوْلُهُ
تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ
هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ
الغَرُورُ} (لقمان: ٣٣) ثم الآية التي نحن بصددها، وقد جَرَتْ عادة الذِّكر
الحكيم أن يذكر مبدأ خلق الإنسان في سياق الاستدلال على بعثه لِيَلْفِتِ السامع بأن
الذي خَلَقَ قَادِرٌ على البَعْث لِمَا خَلَقَ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ
فِي رَيْبٍ مِّنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} (الحج: ٥) وقوله: {وَضَرَبَ لَنَا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ} (يس: ٧٨-٧٩) .. إلخ , وغير ذلك كثير.
هذا وإذا كان لمخلوق بما أعطاه الله من العلم أن ينزل من المطر في وقت من
الأوقات , أو في مكان من الأمكنة , فهل يقال: إن فلانًا ينزل الغيث المعهود؟
وكذلك إنْ وَصَلَ أحد بعلمه وتجاربه إلى معرفة وقت نزول المطر , فإن علم هذا
المخلوق إنما يفيد الظن ولا يكون من العلم الذي اختَصَّ الله تعالى به , ومثل ذلك
يقال في معرفة نوع الجنين , هذا إذا كانت المعطوفات على الجملة الظرفية في قوله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: ٣٤) فإن المعرفة به لا تكون
تامَّةً ثابتة ومضارعة لمعرفة موجد عناصر الطفل وخالقه تبارك وتعالى الذي لا
يخطئ علمه ولا يعزب عن علمه شيء.
ثم إذا أنت نظرت في قوله تعالى: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا
أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (الرعد: ٥) - إلى قوله - {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى
وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: ٨) تزداد تأكيدًا
من أن الذكر الحكيم يورد مثل هذه الآيات لا لإفادة أصل العلم أو انحصاره , بل
ليلفت الإنسان إلى عظيم قدرته , وباهر حكمته, وأن من هذا شأن في بداية الخلق لا
يعجزه البعث.
(رد الإيراد الثاني)
قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى: ٤٩) إذ صحت نظرية معرفة البويضة
الناضجة المستعدة للقاح وبيضها تهيأ للعارف بذلك التحكم بنوع الطفل , وعلى
فرض صحة النظريتين فلا يمنع تعمد إيلاد الأجنة ذُكرانًا أو إناثًا أن تكون موهوبة
من الله؛ لأن الوالد لم يكن له من إيجاد المولود شيء وإنما هو اختار الوقت
المناسب لتوليد الذكر أو الأنثى , وإذا كان الأمر كذلك فإن ضمير (يَشَاءُ) يرجع
إلى الموصول (من) في قوله تعالى: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ} (الشورى: ٤٩) إلخ.
أرأيت لو كان زارع يعلم الأوقات المناسبة لإخراج المزروعات , فزرع
الملوخية في الوقت المناسب لنموها أيكون موجِدًا لها؟ كَلاّ.
على أن ما أورده المؤلف لإثبات هذه النظرية لا يفيد الحكم اليقيني بتعيين
نوع الطفل للأسباب الآتية:
١- إن من النساء من لم تحض قط , وقد ولدت عدة أولاد ذكورًا وإناثًا.
٢- إذا كانت الأنثى بِكْرًا وحملت لأول مرة , فلا يمكن معرفة جنينها بهذه
الطريقة كما لا يخفى , فلا يمكن إيلادها ما ترغب هي أو زوجها.
٣- إن مدة الحمل والحيض مختلفة اختلافًا كبيرًا في النساء، وعليه فالجزم
بنوع الطفل غير متيسر للحساب الذي أورده المؤلف.
٤- إذا كان أحد المبيضين مريضًا فإنه لا يكوّن بويضات صالحة إلا نادرًا فلا
يطّرد الحكم على نوع الجنين دائمًا.
٥- في الحيوانات التي لا تحيض لا يمكن معرفة نوع أجنتها , وكلام القرآن
عامٌّ في الإنسان والحيوان.
٦- الطيور ليس لها إلا مبيض واحد , وفي بيضها يستحيل معرفة نوع
الجنين أيضًا.
فهذه بعض أسباب الشك في فائدة هذه النظرية إذا كانت صحيحةً.
***
(روح الاعتدال)
كتاب اجتماعي أدبي وضعه الفيلسوف الاجتماعي شارل وانير , وَعَرَّبَتْهُ
الكاتبة المفكرة الفاضلة وسيلة محمد , وجعلته هديةً لابنتها الصغيرة. مباحث
الكتاب جليلة , وترجمته جيدة , وأسلوبه سهل , وهذا مجمل مباحثه: الحياة
المرتبكة. روح الاعتقاد الفكر، والقول والواجب والاعتدال، الاعتدال والمطالب
والسرور، المال والاعتدال وحب الظهور، الحياة العائلية والاعتدال، الكسب
والاعتدال، التربية والاعتدال , ثم الخاتمة، وصفحاته ١٥٤ بقطع رسالة التوحيد ,
وطبعه نظيف , وثمنه خمسة قروش , ويطلب من مكتبتي المنار والمعارف بمصر
والكتاب مفيد يجدر بكل قارئ أن يطلع عليه , وربما تنقل منه إلى المنار بعض
المباحث , وأحب أن أنقله كله إن أمكنني ذلك.
(الهاشميات)
ثمان قصائد من شعر الكميت الأسدي يمدح بها بني هاشم , ويليها مختارات
من شعر الكميت وغيره من فحول شعراء الصدر الأول , وجميع ذلك مذيل بشرح
بديع يفيد المبتدي , ولا يستغني عن جميعه المنتهي , والكتاب مُصَدَّر بمقدمة في
تاريخ الشيعة والتشيع مقتضبة لطيفة مفيدة جِدًّا , ثم ترجمة الكميت، وصفحاته ١٢١
بقطع المنار , وقد طبع طبعًا نظيفًا , ويطلب من مكتبة المنار بمصر , وثمنه عشرة
قروش.
الكتاب واضعه محمد محمود أفندي الرافعي خدمةً لأدب اللغة العربية , ونِعْمت
الخدمة هي! فإنه جمع ما لا يكاد يعثر عليه المطالع إلا بعد عناء شديد , وأفاد بهذه
المقدمة وذلك الشرح , فنرجو الإقبال على كتابه هذا ليتحفنا بمثله أو بأمثاله، ومن
شعر الكميت من الهاشميات قوله:
أهوى عَلِيًّا أمير المؤمنين ولا ... ألوم يومًا أبا بكر ولا عمرَا
ولا أقول وإن يعطيا فدكا ... بنت النبي ولا ميراثه كفرا
الله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا
***
(حديث عيسى بن هشام أو فترة من الزمن)
كتاب (حديث عيسى بن هشام) أشهر من نار على عَلَم، قرأ هذا الكتاب من
قَرَأَهُ , فَذَاعَ اسمُه , وَعَمَّتْ فائدته , وهو الكتاب الذي قام بشهرة نفسه بعرض
الطبعة الأولى منه على أنظار قراء العربية، ولقد كنا نسأل عنه فلا نجده , وقد
طلب من بعض الأقطار البعيدة، كيف لا وهو السفر الذي لا يزاحم ولا يدَّعى , ولا
ينتحل لغير واضعه؛ لأن أسلوبه وبلاغته ينمّان على بيت مؤلفه -بيت الأدب الجمّ
بيت المويلحي- , وحسبنا من تقريظه أن نذيع خبر إعادة طبعه , وأن نشكر للمؤلف
الإذن للشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي بمصر بإعادة طبعه بعد أن نظر فيه نظرة
إصلاح وتهذيب , ووضع له جدولاً بآخره شرح فيه الألفاظ اللغوية التي جاءت في
أثناء الكتاب , فجاء في ٤٦٣ صفحة بقطع رسالة التوحيد , وقد طبع على نوعين
من الورق الجيد والمتوسط , والثمن من الثاني عشرة قروش مجلدًا بالقماش ,
وعشرون قرشًا من الورق الجيد ويطلب من مكتبة المنار بمصر , ومن المكتبة
الأزهرية لصاحبها ملتزم الطبع الشيخ محمد سعيد الرافعي الآنف الذكر.
***
(دليل لوندرة)
كتاب وضعه عبد الرحيم أفندي فوزي وصف فيه ما يلزم المسافر إلى عاصمة
الإنكليز مِن الاطِّلاع عليه , وضمنه نبذة في تاريخ لوندرة , وتكلم عن وسائل النقل
وسهولة المواصلات في تلك المدينة الكبيرة , وعن معالمها ومعاملها ومتاحفها
وأنديتها , ودور العلم والصناعة فيها، وعن الأسرة المالكة كلامًا مسهبًا مفيدًا.
وقد جعل كتابه هذا بحيث لو قرأه المسافر إلى لوندرة لا يحتاج إلى دليل غيره،
ولا إلى هادٍ يهديه، فجاء في ١٢٠ صفحة بقطع رسالة التوحيد.
***
(ديوان المصري)
الجزء الثاني
نظم الشاعر الشهير عبد الحليم حلمي أفندي المصري قصائده، التي تزيد على
الواحدة والعشرين غير القطع والمقطعات , وصفحاته ١٤٤ صفحة , وثمنه
عشرة قروش , ويطلب من مكتبتي المنار والتأليف بشارع عبد العزيز بمصر.
إذا نظرت إلى الجزء الأول من ديوان المصري , ونظرت إلى هذا الجزء
عَلِمْتَ أنَّ الشاعر يتقدم بِشِعْرِهِ كلما تقدمت به سِنّه , وإذا لم يظهر لك ذلك في حسن
اللفظ , ومتانة الدِّيبَاجَة فَارْمِ بِطَرْفِكَ نَحْوَ المَوَاضِيع والمعاني , واحكم بأن المصري
سيكون من نوابغ شعراء هذا العصر إن لم يكن (النابغة) أو اجعل ما تقرأه من
الجزأين مقدمة للحكم على مستقبل الشاعر كما قال هو عنه نفسه.
وحسبه أنِ ادَّعَى أنّه تلميذ أمراء الفصاحة وأئمة البيان في مصر إسماعيل
صبري باشا وأحمد زكي باشا وأحمد شوقي بك ومحمد المويلحي بك وأقره هؤلاء
على دعواه بسكوتهم.
***
(رواية عطيل بطل البندقية أو أتللو)
قصة روائية تمثيلية غرامية لشاعر الإنكليز في بداية نهضة أوربة الأدبية
الحقيقية، والشارع للأدب لغة تضارع في أسلوبها لغة العرب - كما قال معربها
شاعر العرب خليل مطران.
إذا أريد أن يؤخذ تاريخ أمة بدون تقصي الحوادث ومراجعة بطون التاريخ
وقواميس السياسة والجغرافية والدين , فإن لذلك مصدرًا آخر هو اللغة. لغة كل أمة
دليل على حالتها من ضعف وقوة , وعلم وجهل , وارتقاء وانحطاط , فهي المجهر
الذي يجليها بأجلى مظاهرها , ويبرز أخلاقها مجسمةً محسوسةً.
لا أَثَرَ أدلّ على مصدره من دلالة اللغة على جميع شئون الأمة , فاللغة هي
المعيار والمقياس لمعرفة جميع مقومات الأمة، وإذا أنت نَظَرْت , إلى حضارة
الإسلام الأولى , وقال لك قائل: إنها وجدت قبل رُقِيِّ اللغة العلمي الصناعي , فلا
تَأْبه له ولا تَحْفل بكلامه. وما عَصْرُ الخلفاء الراشدين إلا عصر تأسيس لكيان أمة,
وتوطيد لدعائم دِينٍ وشريعة ومُلْك , وما بعد ذلك فقد كانت العصور المدنيّة التي
تمشت فيها الأمة بأطوار رُقِيِّها مع لغتها جَنْبًا لجنب رفعة وسُؤْددا.
من يوم وقف انتشار اللغة العربية وقف سير التمدن الشرقي الأركان،
الإسلامي المظهر، ومنذ ابتدأت اللغة تنحط كانت الأمة هي المنحطة بها , ومنذ
زال تمدن العرب زال تمدن الشرق , ومنذ دخل الأعاجم في دولة العرب وامتزجت
رطانتهم بين فرائد لغتها فسدت المدنية واللغة معًا , وجعل الشرق يتدهور من هُوَّةٍ
إلى هوة , فبعض شعوبه انتهى إلى هاوية الدمار، وبعض آخر على شَفَا جُرف
هَارٍ، وهناك أقوام يتسكعون ولا يعلمون إلى ما هم صائرون.
لم يقم قائم في الشرق يدعو إلى نهضة حقيقية تدلّ على حياة قومية إلا أمة
اليابان، فإن شئت أن تعلم مَبْلَغَ رقيها فحسبك دليلاً على حياتها تعدد مؤلفاتها
وجرائدها التي تنشر بلغتها , وبعد ذلك انظر إلى الرقي المحسوس من صناعة
وغيرها.
أُرَانِي قد تجاوزت ما أردت أن أقوله، ذلك أنّ فكرة نهضة شكسبير بلغة قومه ,
وما كان من فكتور هوغو من محاربة التقاليد الكتابية والإنشائية وخروجه باللغة عما
جرى عليه الأسلاف , وتوخى خليل مطران إحياء أسلوب في لغتنا العربية لا ينزل
عن حدِّ الفصاحة , ولا يعلو عن متناول أفهام أبناء المدارس والطبقة الراقية من
العامة - تفكرت في هذا , وما كان توالي تقدم القوم مع لغتهم وانتشارها مع نفوذهم
ومدنيتهم , وما أبقته الأمة العربية في جميع أقطار المعمور من دين وعوائدَ وآثارٍ
فنية وأخلاقية مصحوبًا بلغتها مع أن النسبة بين تلك الآثار ودرجة رُقِيّ اللغة واحدة
فتجدد لي أمل بنهضة عربية أدبية مِلِّيَّة تسمو بهذه الأمة إلى درجة تغير وجه
المصور الجغرافي , أو تعيد الدنيا القديمة إلى حالة غير هذه الحالة، وَلْنَرْجِعْ إلى
ما نحن فيه:
القصة تمثل الغيرة الزوجية بأظهر أشكالها البدوية , وقد صدرها المعرب
بمقدمة تَكَلَّمَ فِيهَا عَنِ التَّعْرِيبِ وَسَبَبِ تَسْمِيَةِ أوتللو بعطيل.
وتكلم على القصة (الرواية) من جهة الأصل ومن جهة التعريب , والمقدمة
مختصرة ممتعة مفيدة تصور المعاني تصويرًا يكاد يلمس باليد , فعسى أن يَسْتَمِرَّ
الخليل في هذه السبيل.
وتطلب القصة (الرواية) مِن ملتزم طبعها نجيب أفندي متري صاحب مكتبة
المعارف , ومن مكتبة المنار بمصر , وثمنها عشرة قروش صحيحة.
(معنى الحياة)
تأليف اللورد إفري , وتعريب وديع أفندي البستاني - كتاب معروف للقراء
أعاد طبعه للمرة الثانية نجيب أفندي متري صاحب مكتبة المعارف , ويطلب منه
ومن مكتبة المنار بمصر , وثمنه خمسة قروش عَدَا أجرة البريد , وقد سبق للمنار
تقريظه.