للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


كامل باشا
آراؤه السياسية منذ ٢٤ عامًا

نُشرت في هذه الأيام على صفحات الجرائد مذكرات خصوصية سياسية لكامل
باشا رئيس مجلس شورى الدولة الآن، فرأينا أن ننشرها على صفحات المنار ليقفَ
القراء على آراء كامل باشا السياسية , وخبرته بالمسائل الدولية، وأنه كان يرى في
ذَلِكَ الزمن أن مصلحةَ الدولة العَلِيَّة إنما هي في انضمامها إلى المحالفة الثلاثية ,
وفي مصادقة ألمانية بخلاف ما يُعْرَف عنه الآن مِن مَيْلِهِ إلى الاتفاق الثلاثي , وإلى
مصادقة إنكلترة مما يَدُلُّكَ أنّ الرجل يدور مع مصلحة بلاده كيفما دارت.
ويؤخذ مِن مذكراته هذه أن رجال الدولة العليَّة كانوا يعلمون بنوايا إيطالية
نحو طرابلس الغرب وغيرها - التي جَهِلَهَا حَقِّي باشا وأعوانه في هذه الأيام -
وقتئذ وهذا ما نَشَرَتْهُ الجرائدُ مِن هذه المذكرات:
(فيما يتعلق بدخول تركية في المحالفة الثلاثية حتى تضطر إنكلترة إلى
الجلاء عن مصر بغير شرط أقدم العبارات الآتية:
ليس بين المحالفة الثلاثية وروسية أدنى ارتباط؛ إذ الغرض الذي وجدت
لأجله المحالفة هو رد مطامع فرنسة في البحر الأبيض المتوسط , وحماية مصالح
الدول التي تتكون المحالفة منها. وإيطالية أصغر هذه الدول , وهي التي تقف في
وَجْهِ مَقَاصِد فرنسة في بعض المسائل، وفرنسة لا تستطيع أن تهاجمها؛ لأنها تجد
بجانبها الدولتين الأخريين. ولذلك أظن أن تركية إذا انضمت إلى هاتين الدولتين ,
وزادت بانضمامها قواهما لم تعد فرنسة بعد هذه العُزْلَة تستطيع أن تخاطرَ بالاعتداء
على الأملاك العثمانية.
ومن المؤكد أن روسية لا يسرها أن ترى تركية منضمة إلى دول المحالفة
الثلاثية , ولكنها لا تستطيع أن تفعلَ أكثرَ مِمَّا فَعَلَتْهُ حِينَ المعاهدة التي عُقِدَتْ بِشَأْنِ
جزيرة قبرص بين تركية وإنكلترة وكان , عقدها ضارًّا بالمصالح الروسية. بل أنا
أظن بالعكس أن روسية إذا أرادت إذ ذاك أن تهاجمنا كان عملها داعيًا إلى تقرب
إنكلترة منا , وتقوية الصلات الوُدِّيَّة بيننا وبينها. وهذه النتيجة لا تغيب على ما
أظنُّ عن رجال السياسة الروسية؛ فهم ولا بُدَّ سيفكرون كثيرًا قبل أن يدخلوا معنا
في نزاع. ولهذا أعتقد أن روسية تضطر إذ ذاك بالرغم منها إلى مصافاتنا , وتبذل
جهدها في اجتناب معاداتنا خصوصًا والخطة التي تتبعها سياسة المحالفة الثلاثية
ليست معادية لها. والذي يعزز هذا الفهم هو السكوت الذي اتبعته روسية في مسألة
إمارة البلغار الحديثة.
إن تركية الآن حرة لا تربطها رابطة ما , فلها إذن الخيار في انضمامها إلى
المحالفة الثلاثية , وبما أن من أغراض هذه المحالفة حفظ الحالة الحاضرة في البحر
الأبيض المتوسط فليس من المظنون أن دولةً من الدول الثلاث التي تتكون المحالفة
منها تعتدي على أملاك غيرها في هذا البحر , كما أنها لا تسمح للدولة الأخرى
بالاعتداء على أملاك واحدة منها. وَمَتَى تَقَرَّرَ ذلك أصبح من البديهي أنه متى
انضمت تركية إلى المحالفة الثلاثية استطاعت أن تحافظ على حقوقها في مصر ,
وأن تطلب من إنكلترة الجلاء عنها , واستطاعت أيضًا أن تسوي المسائل الأخرى
المتعلقة بالجزائر وتونس.
وليس كل ما تجنيه تركية من انضمامها إلى المحالفة الثلاثية قاصرًا على
إعادة مصر إلى الحالة التي كانت عليها قبل الاحتلال الإنكليزي بل هناك فوائدُ
أخرى هي: أولاً منع اليونان من تحقيق مطامعها في كريت ويانينة، ثانيًا منع
النمسة من الذهاب إلى سلانيك (أي احتلالها) ثالثًا منع إيطالية من احتلال ألبانية
وطرابلس الغرب، رابعًا منع فرنسة من الاعتداء على سورية , وأخيرًا نستطيع
أن نجعل أحوال سلطتنا المالية والاقتصادية بحيث لا تبقى حُجة لتداخل الأجانب.
وفوق ما تقدم من الفوائد فإننا نتمكن من محو أسباب المنازعات والحروب
الداخلية والقلاقل والثورات التي تثيرها عوامل الحسد والدسائس والخلاف بين
الدول الأجنبية؛ وَمَتَى مَحَوْنَا هَذِهِ الأسباب استطعنا أنْ نحكم بلادنا بِهُدُوء وبنفقات
أقلَّ مما ننفقه الآن , ثم رأينا مسائلنا تسير بقوة نمو البلاد في طريق التسوية
والإصلاح بإرشاد حلفائنا.
وتستطيع تركية أيضًا أن تحفظ لحكومتها الحرية المطلقة في العمل. بل في
إمكانها أن تجعل هذا الشرط أساسًا لدخولها في المحالفة الثلاثية. ولكن بما أن
الشغل الشاغل لنا الآن هو إجلاء الإنكليز عن مصر بدون قيد ولا شرط وحماية
حقوقنا فيها، وبما أنه يؤخذ من الحديث الذي دار بيني وبين السفير الإنكليزي أن
إنكلترة مستعدة للعودة إلى مفاوضة الآستانة في المسألة المصرية, فقد أصبح من
الواجب أن نرسل إلى رستم باشا سفيرنا في لندرة تعليمات تفصيلية واضحة
ومحددة , أو أن يوعز إليه حتى بطلب إجازة شهر , ومتى أعطيت له هذه الإجازة
جاء إلى الآستانة وَتَلَقَّى التعليمات اللازمة شفاهًا.
ومتى جاء سفيرنا شرحنا له الحالة شرحًا وافيًا وأوقفناه على كل أوجه
المسألة, ثم منحناه التفويض الذي تقضي به الظروف حتى يكونَ في قدرته أن
يناقش ويفاوض ويتفق مع رجال السياسة في لندرة اتفاقًا يحسم هذه المسألة الخطيرة
حسمًا نهائيًّا. ولكي ألخص أفكاري أقول كما قلت دائمًا: إن من مصلحتنا أن
نستعيد المفاوضة مع إنكلترة تَوَصُّلاً إلى حلّ المسألة حلاًّ موافقًا لنا , وتابعًا لظروف
الأحوال؛ لأنه ليس في الإمكان الآن أن تعرف الأدوار والتغيرات السياسية التي قد
تجدّ في المستقبل , والتي قد تفقدنا الفرصة الطيبة السانحة الآن.
(قالت الجريدة) وفي تقرير آخر قال كامل باشا:
إطاعة للأمر الشاهاني القاضي بأن أعرض رأيي في الشروط والامتيازات
التي يجب أن تدخل بها تركيبة في المحالفة الثلاثية توصلاً إلى حفظ الحالة
الحاضرة في البحر الأبيض المتوسط أعرض ما يأتي:
كان جلالة مولاي السلطان قد اهتم بالتقرير الذي رَفَعْتُهُ إِليه بشأن المحالفة
الثلاثية , والذي أشرت فيه بالإصلاحات السياسية الواجب اتخاذها فيما يختص
بتسوية المسائل الآتية:
أولاً وثانيًا: مسألتي تونس والجزائر اللتين لا تَزَالاَنِ مُعَلَّقَتَيْنِ.
ثالثًا: مسألة زيارة الأسطول الإيطالي لأزمير مرة ثانية.
رابعًا: مسألة البلاغ الشفاهي الذي أبلغه سفير إيطالية لوزير خارجية الدولة
فيما يختص بمراقبة أعمال البنك العثماني وحساباته (وهاتان المسألتان الأخيرتان
تدلان على سوء نيات إيطالية بالنسبة لتركية) .
خامسًا: عدم استطاعة الحكومة العثمانية الدخول في محالفة إحدى دولها -
وهي إيطالية - تظهر لها العداء جهارًا.
سادسًا وأخيرًا الطريقة التي يمكن التوصل بها إلى تذليل هذه الصعوبات. ثم
رأيت بعد ذلك أن من مصلحة السلطنة أن نلفت إلى هذه المسائل نظر سفيرنا في
لندرة , وأن نزوده بالتعليمات والتفصيلات الكافية كما أوضحت ذلك في تقريري
الخاصِّ بالمسألة المصرية إيضاحًا يوفق بين مصلحة السلطنة ورغبات إنكلترة.
فجوابًا على الإرادة التي جاءتني طيّ الأمر المؤرخ في محرم سنة ١٣٠٦
أقول: إن المحالفة التي أسسها حفظ الحالة الحاضرة في البحر الأبيض المتوسط
ليست أهميتها قاصرةً على الدول المحالة وحدها , بل تشمل كل الدول التي لها
أملاك في البحر الأبيض المتوسط , وشروط هذه المحالفة موافقة الدولة المتحالفة.
فبما أن مصر محتلة بإنكلترة , وتونس والجزائر واقعتان تحت سلطة فرنسة بالرغم
من احتجاجات تركية , فإذا دخلنا في المحالفة الثلاثية فَمِنَ الواجب أن نحفظ لنفسنا
الحقَّ في طَلَبِ جَلاء الإنكليز عن مصر والفرنسيين عن تونس والجزائر.
أما فيما يختص بإيطالية , فلم يحدث في الماضي وإلى الآن نزاعٌ بيننا وبينها
ولذلك فإني أعتقد أن خطتها العدائية التي أظهرتها أخيرًا ليست إلا بتحريض دولة
أخرى؛ لأن المتحالفين يجب أن يتعاضدوا , أو أن يخدم كل منهم مصلحة الآخر.
مثال ذلك أن سفير فرنسة حينما أراد أن يحول دون المصادقة على الوفاق الذي
كُتِبَ بيننا وبين إنكلترة بشأن الجلاء عن مصر قَدَّمَ إلى جلالة السلطان تقريرًا نَصَحَ
فيه بِرَفْضِ كل مساعدة تأتي مِنْ قِبَلِ إنكلترة , وبالاعتماد على التأكدات الصريحة
التي تقدمها الحكومة الفرنسية , والتي تتعهد فيها بمساعدتنا مادِّيًّا وأدبيًّا في مسألة
الجلاء عن مصر. أما ألمانية والنمسة فكانتا تنصحاننا بالمصادقة على الوفاق
قائلتين إنه منطبق على مصلحتنا , وإن امتناعنا من المصادقة عليه لا سَبَبَ له
سوى تأثير فرنسة علينا (!)
وفعلاً كل الدول - وعلى الخصوص ألمانية عدوة فرنسة اللدودة وإنكلترة -
استاءت لعدم المصادقة على ذلك الوفاق. وقد كانت إيطالية تحرض فرنسة , ولا
تريد من هذا التحريضِ سوى أن تثبت لنا أن فرنسة عاجزةٌ عن مساعدتنا. وليس
لإيطالية وحدها قيمة ما؛ لأنها لا تفعل غير اتباع الخطط التي يرسمها حلفاؤها.
لذلك أرى بعد التَّمَعُّنِ أنه يجب علينا أن نعتقد أن جلاء الإنكليز عن مصر
متوقف على إمضاء الوفاق المختص بحرية المرور في قنال السويس. وقريبًا
أعرض على جلالة السلطان صورة من الوفاق الخاص بحفظ مصالح تركية , والذي
يظن كل الظن أن إنكلترة ترضى بما فيه اهـ.