للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد
س٨ من السائل في الترنسفال
(يا غياث المستغيثين أغثنا)
ما قولكم - دام فضلكم - أيها العلماء الأجلاء في بلدة فيها جم غفير من
المسلمين وهي دار حرب بعيدة عن بلد الإسلام أهلها عوام ضعفاء أصحاب حرف
يتعيشون بها تحت سلطة الكفار وقهرهم مستحقين الرحمة والإرشاد من إخوانهم
المسلمين لا سيما علماؤهم يصلون صلاتهم الجمعة وغيرها في عدة مساجد متعبدين
على مذهبين شوافع وأحناف، فالأحناف يصلون صلاة الجمعة في مسجدين مستقلين
لوقوع النزاع والمضاربة بينهم , والشوافع يصلون الجمعة في ثلاثة مساجد واحد
في طرف البلدة , والآخران في الطرف الآخر لتنافر قلوبهم والنزاع الواقع بينهم
كما هو دأبهم إذا اجتمعوا تنازعوا طلبًا للرياسة وغيرها، مع أنه إذا اجتمعوا كلهم لا
يسع لهم مسجد , وعلى قول ابن الحق لا تسع لهم المساجد كلها، وقد دخل في تلك
البلدة جماعة من العلماء ما بين شوافعَ وأحنافٍ من منذ ثلاثين سنةً وزيادة , وحثهم
على اجتماع على جمعة واحدة؛ لكونهم في ذلك الزمن يصلون الجمعة في المساجد
والبيوت , فامتثل أهل البيوت وجمعوا مع أهل المساجد وعطلوا صلاتهم الجمعة في
البيوت مع أنهم كانوا شرذمةً وأولياء بالنسبة لأهل هذا الزمن , إلى أن ورد عليهم
رجل فاضل صالح فاجتهد غاية الاجتهاد حتى جمع الشوافع على خطبة واحدة ,
فكانت في البلدة خطبتان: خطبة للشوافع , وخطبة للأحناف؛ غير أن الشوافع
صاروا يصلون الجمعة في مسجدين كبيرين بالنوبة ودامت صلاتهم الجمعة هكذا؛
أعني بالنوبة إلى الآن إلى أن حدثت فتنة عظيمة بين الشوافع , واشتد النزاع بينهم
والمضاربة حتى رفعوا الأمر إلى الحكومة الإنكليزية كما هو دأبهم كلما تنازعوا ,
فاستقلت الطائفة المغلوبة بالجمعة , فحصلت للشوافع جمعتان , وهكذا وقع بين
الأحناف , وافترقوا على فرقتين , فصارت في البلدة أربع جمع جمعتان للشوافع ,
وجمعتان للأحناف , ثم أنشأ الطرف الآخر البعيد جمعة للشوافع , فجملة الجمع
الواقعة الآن خمس , ثم دخل علينا رجل من طلبة العلم وصلى معهم صلاة الجمعة
ما ينوف عن ست سنين, ثم بعد ذلك حرم عليهم صلاة الجمعة , وقال لهم: صلاتكم
الجمعة على تلك الحالة حرام عليكم , وترككم إياها وذهابكم إلى الشغل أولى وأنفع
لكم من صلاة الجمعة , وعدل عن استدلال أهل مذهبه , واستدل بقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} (الجمعة: ٩) الآية , وقال لهم:
هذه الآية تدل على أن صلاة الجمعة لا تكون إلا واحدةً , فبناءً على ذلك تكون
جمعتكم كلها حرامًا؛ جمعة الأحناف والشوافع , فامتنع نصف أهل البلد من صلاتهم
الجمعة؛ معتقدين حرمتها عليهم إنْ لم تكن واحدةً فهل ما أفتى به ذلك الرجل
صحيح أم لا , وما حكمه شرعًا؛ أفيدونا , ولكم الأجر والثواب عند الملك الوهاب.
(ج) إن ما أفتى به هذا الرجل غير صحيح , والآية لا تدل عليه بل تدل
على خلافه , فإن الله تعالى يأمر مَن يسمعون النداء للجمعة أن يَسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله ,
أي صلاتها , وهذا يأمرهم أن ينصرفوا إلى أعمال الدنيا المحرمة في هذا الوقت.
نعم , إذا أمكن اجتماع مسلمي البلد في مسجد واحد من غير مشقة ولا حرج
وجب عليهم أن يُجمعوا (أي يقيموا الجمعة) فيه على المعتمد المختار، فإن من
مقاصد الشرع اجتماع المسلمين في هذه العبادة؛ ليتعارفوا على الخير والتقوى،
ولكن لا يقوم دليل على أن هذا شرط لصحة صلاتها كما يقول الشافعية. ولا خلافَ
بين هؤلاء وغيرهم من الفقهاء في صِحّة الصلاة في المساجد المتعددة للحاجة من
غير إعادة صلاة الظهر بعدها، والذي عليه العملُ عندهم أنّ المساجد إذا تعددت
لغير حاجة وجب إعادة الظهر لا ترك الجمعة، وفي ذلك نَظَرٌ بَيَّنَّاهُ في المنار مِرَارًا
ولبعضهم فيه رسالة طويلة نشرناها في المجلدين السابع والثامن من المنار , فمن
أراد استقصاءَ البحثَ في هذه المسألة فَلْيُرَاجِعْ هذين المجلدين وغيرهما مِن مجلدات
المنار مستعينًا على ذلك بفهارسها المرتبة على حروف المعجم. وهو يجد ذلك في
حرف الجيم وحرف الصاد , وكذا في حرف الباء عند كلمة البدعة , وهي أول اسم
الرسالة التي أشرنا إليها آنفًا كما أتذكر الآن وأنا أكتب في السفر , وليس معي من
مجلدات المنار شيء.
هذا , وإن من أقبح البدع أن يكون للشافعية مساجد خاصة بهم وللحنفية مساجد
خاصة بهم، فإن هذا من التفريق بين المسلمين الذي هو شر سيئات التعصب
للمذاهب. وقد ذم الله الذين اتخذوا مسجد الضرار بقوله: {َالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً
ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة: ١٠٧) فقرن التفريق بين
المؤمنين بالكفر. وهذا النوع من التفريق لم يحدث مثله في زمن الأئمة , بل ولا
في الأزمنة التي تقرب من أزمنتهم حتى بعد حدوث التعصب للمذاهب. وقد كان
السلف الصالحون رضي الله عنهم يختلفون في بعض المسائل الدينية , ويعرف ذلك
بعضهم من بعض , ولكنهم لم يتفرقوا في الدين لأجل اختلاف الاجتهاد , بل كان
يَعذُر بعضهم بعضًا , ويرحم بعضهم بعضًا , ويهتدون بقوله عز وجل:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) روي أن
رجلاً سأل الإمام أحمد - وكان يرى الوضوء من الحِجَامة -: أرأيت إذا احتجم
الرجل ولم يتوضأ أَأُصَلِّي وراءه أم لا؟ فقال له: وَيْحَكَ! أتأمرني أنْ أنهاك عن الصلاة مع سفيان الثوري ومالك بن أنس؟ ؟
وقد ذكر فقهاء الحنفية والشافعية الخلاف في هذه المسألة وعبروا عنها بقولهم:
هل العبرة برأي الإمام بحيث إذا كانت صلاته صحيحةً في اعتقاده يجوز الاقتداء
به؟ أم برأي المأموم بحيث إذا كان يرى أن صلاة الإمام غير صحيحة في اعتقاد
نفسه لا يقتدي به , وإن كانت صلاته صحيحة في اعتقاده (أي الإمام) وجعلوها
مسألةً خلافيةً. وإذا راجعنا سيرة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رأينا أن عمل
السلف كلهم على أن العِبْرَة برأي الإمام؛ ولذلك كان بعضهم يصلي مع بعض على
ما كان مِن اختلافهم في نواقض الوضوء وأمثالها , وفي بعض شروط الصلاة، فلا
نترك سيرة السلف الصالح , ومنهم أئمة الأمصار في الفقه كالأربعة المشهورين
وغيرهم لأجل نظرية بعض المتفقهة المتأخرين. ثم إنهم كانوا يتساهلون في مسائل
الخلاف الاجتهادية كما فعل أبو يوسف حين توضأ من بئر وقعت فيها فأرة وصلى,
فقيل له في ذلك - ومذهبه أن الماء ينجس - فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل
الحجاز: (إذا بلغ الماء قُلَّتَيْنِ لا يَحمل الخبث) فنسأل الله أن يوفقنا جميعًا
للاقتداء بسيرة السلف الصالح في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه
وسلم من إقامة السنة وجمع الكلمة.
***
قضاء الأستاذ الإمام باجتهاده
(س٩) من صاحب الإمضاء بالعطف:
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة مولانا الأستاذ الفاضل الكامل السيد محمد رشيد رضا (متع الله
المسلمين بوجوده) .
السلام عليك ورحمة الله، أما بعد فإني ممن يجل الأستاذ الإمام جدًّا , ويود
من كل قلبه أن لا يذكر اسمه إلا مقرونًا بما يليق به من التجلة.
بَيْدَ أنّ كثيرًا ما أسمع مبغضيه يتشبثون بأنه كان يحكم بالقوانين الوضعية
المخالفة للشريعة الغَرَّاء , فأضيق ذرعًا حيث إني مع تيقني براءة الأستاذ من أن
يقدم على شيء قبل أن يعرف حكم الله فيه لا أجد لدي جوابًا أقطع به ألسنة أولئك
الشانئين.
لهذا أرغب إليكم أن تنشروا جوابًا شافيًا على صفحات مناركم الأغر ذَوْدًا عن
مقام الأستاذ , ورحمةً بهؤلاء الذين كلما رَأَوْا من عليم شيئًا يدِقّ سره على أفهامهم
تسارعوا إلى الوقوع في عرضه , وإن كان من أساطينِ المِلِّةِ , ولي وطيد الأمل أن
يكون ذلك بأول عدد يصدر لا زلتم نبراسًا للمسترشدين , آمين.
... ... ... ... تحريرًا في ٢٠ ربيع الأول سنة ١٣٣٠ ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه
... ... ... ... ... ... ... ... أحمد علي الطباخ بالعطف
... ... ... ... ... ...

(ج) كان الأستاذ الإمام يحكم باجتهاده في جميع القضايا كما هو حكم الشرع
في القاضي؛ إذِ الأصلُ فيه عند جميع الفقهاء أن يكون عالمًا أي مجتهدًا، وَأَجَازَ
الحنفية تقليد الجاهل (أي: المقلد) القضاء للضرورة أو بقيد وجود مُفْتٍ مجتهد
يُفْتِيه كما علل الحكم بعضهم بذلك (وليس لديّ شيء من كتبهم أرجع إليه الآن وأنا
مسافر) وقد أشار إلى هذا صديقه الفاضل حسن باشا عاصم - رحمهما الله تعالى -
إذ قال في تأبينه وقد ذكر سيرته في القضاء: إنه كان من القضاة الذين يطلق
الإفرنج على آحادهم قاضي العدل والإنصاف؛ لأنهم لا يتقيدون بنصوص القوانين
الحرفية.
ولهذا لم يحكم بالرباط قط , وخالف القانون في مسائلَ كثيرةٍ تعذر عليه فيها
التوفيق بين نصوصه وما أداه إليه اجتهاده ودينه، وكان في مثل هذه المسائل
يَتَوَخَّى الصلح بين الخصيمين , فإن لم يمكن حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، وقد شكاه بعض من
كان يكرهه من وجهاء الشرقية إلى مستشار الحقَّانية مبيّنًا بعض المسائل التي خالف
فيها القانون، فسأله المستشار عن ذلك بينه وبينه من غير تحقيق رسمي , فقال له
الأستاذ في بدء الجواب: هل القانون وُضع لأجل العدل , أم العدل وضع لأجل
القانون؟ فقال المستشار: بل القانون وضع لأجل الاستعانة به على إقامة العدل.
فقال الأستاذ: إن جميع القضايا التي ذكرها الواشي قد حكمت فيها بالعدل الذي
يستقيم به أمر الناس، وفصل له ذلك بما أقنعه، ولم يكن يثق بمثل هذا من غيره.
هذا ما علمته منه - رحمه الله تعالى - ومن العارفين بسيرته ويعرفه له كبار
القضاة الأهليين المختبرين، ولا يضر سيرة الأستاذ الإمام طعن أمثال من ذكرتم ,
وقد طعن في الأئمة قبله من هم خير منهم، وقد روي عن أبي القاسم الجنيد شيخ
الصوفية وإمامهم رحمه الله تعالى أنه قال: لا يبلغ الرجل مقام الصِّدِّيقِينَ حَتَّى يشهد
ألف صديق بأنه زنديق.
***
البابية ودين البهائية
(س١٠) من طائفة - من طلبة المدارس العليا
جناب الأستاذ الفاضل:
سلامًا واحترامًا، وبعد
فقد قرأنا في بعض الكتب الإفرنجية الموضوعة حديثًا أنه ظهر في بلاد العجم
منذ ستين عامًا رجل يقال: إنه هو المهدي المنتظر , وبشر بمجيء نبي ,
ويزعمون أن نبوته قد صحت , فقد جاء رجل اسمه بهاء الله وآمن به خلق كثير من
كافّة الأديان , وخليفته الآن هو ابنه عباس أفندي نزيل مصر الآن؛ فنرجو إيقافنا
على حقيقة هذا المذهب الجديد , وإبداء رأيكم فيه بما أنكم مِمَّنْ يُلجأ إليه في مثل
تلك المسائل ولكم الفضل.
(ج) البابية فرقة من الباطنية. والبهائية منهم يعبدون الرجل الملقب ببهاء
الله , وقد بينا حقيقة أمرهم في مجلدات المنار الماضية، ولما جاء زعيمهم عباس
أفندي القطر المصري عدنا إلى الكلام في بيان حالهم , وذكرنا نبذًا تاريخية من
سيرة سلفهم الإسماعيلية والقرامطة فَراجِعُوا هذا في المجلد الماضي؛ فإن شكل
عليكم بعد ذلك شيء من أمرهم فراجعونا فيه.
ثم إن مسألة كون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين على
ثبوتها بنصوص الكتاب والسنة هي ثابتة بالعقل عند كل من يعرف حقيقة الدين
الإسلامي ووجه حاجة البشر إلى الدين مطلقًا، فإن كتابه القرآن الحكيم وسنته في
بيانه قد بينا للناس كل ما يحتاجون إليه من أمر الدين في طور استقلال نوعهم
ورشده بالعقل والعلم، وقد كانت الأديان السماوية قبلة مؤقتةً كما بين ذلك المسيح
عليه الصلاة والسلام في مَعْرِضِ البشارة به إذ قال ما معناه: إنه لا يمكن أن يبيِّنَ
لِمَنْ بعث فيهم كل ما يحتاجون إليه - أي لعدم استعدادهم - وإن الذي يأتي بعده هو
الذي يبين لهم كل شيء؛ لأن الدين سار كالمخاطبين به على سنة الارتقاء، وقد
بين الأستاذ الإمام هذا المعنى بإجمال بليغ في رسالة التوحيد، وذكرناه في المنار
مِرَارًا. وسنشرحه شرحًا وافيًا إنْ شاء الله تعالى في مقدمة التفسير التي تُبين فيها
كليات الإسلام بالتفصيل , ووجه الحاجة إليه واكتفاء البشر بالاهتداء بها في
الوصول إلى منتهى الكمال البشري الممكن.