للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


بشائر عيسى ومحمد [*]
في العهدين العتيق والجديد
(٧)

(البشارة الأولى) جاء في سفر التثنية ما يأتي ١٨: ١٥ (يقيم لك الرب
إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون ١٦ حسب كل ما طلبت من الرب
إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي , ولا أرى
هذه النار العظيمة أيضًا لئلا أموت ١٧ قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا ١٨
أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه , فيكلمهم بكل ما
أوصيه به ١٩ ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا
أطالبه ٢٠ وأما النبي الذي يطغى , فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو
الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي ٢١ وإن قلت في قلبك: كيف نعرف
الكلام الذي لم يتكلم به الرب ٢٢ فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر
فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) , فهذه
البشارة صريحة جدًّا في محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يقم نبي مثل موسى
ومن وسط اليهود ومن إخوتهم (بني إسماعيل) [١] غيره وكان أُمِّيًّا يُوحَى إليه
القرآنُ , فيحفظه ويبلغه للناس مصداقًا لقوله: (أجعل كلامي في فمه) وكان
مأمورًا بجهاد أعدائه , فانتقم الله له ممن لم يسمع كلامه منهم وحفظه الله تعالى , فلم
يقتله أحد , وصدقه فيما أخبر به عنه بوقوعه وحدوثه , وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن
الشريف كانتصار الروم على الفرس, ونصر المؤمنين على الكفار في نفس ذلك
اليوم (٣٠: ١-٦) ودخول المسلمين مكة بعدما طردوا منها (٤٨: ٢٧)
وارتداد بعض الناس بعد النبي (٥: ٥٤) وانغلاب المشركين وانهزامهم (٥٤:
٤٤ و٤٥) وحفظ النبي وعصمته من أعدائه وإهلاك المستهزئين به (٢: ١٣٧
و١٥: ٩٤-٩٦ و٥: ٦٧) واستخلاف المؤمنين في الأرض (أي جعلهم خلفاءَ)
وتمكين الدين لهم , وإسكانهم فيها آمنين مطمئنن بعد الضعف والخوف الشديد
(٢٤: ٥٥) وإخباره بحفظ القرآن من الضياع ومن التحريف والتبديل
(١٥: ٩) وبعجز العرب وغيرهم عن الإتيان بسورة واحدة مثل سوره (٢:
٢٣ و٢٤ و١٧: ٨٨) وبتمام دينه قبل موته , وظهوره على غيره وبقائه إلى يوم
القيامة (٩: ٣٢ و٣٣) وبظهور الدلائل الكونية في العلوم الحديثة , وغيرها
التي تؤيّد نصوص دينه (٤١: ٥٣) وإخباره بدعوة المخلفين من الأعراب إلى
حرب بعد وفاته (٩: ٨٣ قارنها بسورة ٤٨: ١٦) وتبشيره المؤمنين بالنصر
في واقعة معينة عندهم (هي خيبر) وأخذهم الغنائم الكثيرة منها , فكان ذلك مع
أنهم سبق لهم الانكسار في بعض وقائع سابقة غير هذه (٤٨: ١٨-٢٢) والإخبار
بأن النبي سيبقى نسله، وأما مُبغضه (وهو شخص معين اسمه العاص بن وائل)
فسيكون أبتر (سورة ١٠٨) وإخباره بتجنس الأمم بالجنسية العربية كما سبق:
٦٢: ٣ (إلى غير ذلك مما أنبأ به قبل وقوعه وصدقه الله فيه هذا عدا ما في
أحاديثه من المغيبات العجيبة العديدة (ما مر من الأرقام هو لسور وآيات قرآنية) .
ومن كان محبًّا للبحث والاطلاع فعليه بكتاب (حجة الله على العالمين في
معجزات سيد المرسلين) يجد من ذلك شيئًا كثيرًا. والأحاديث الإسلامية هي أصح
من غيرها لقرب عهدها , وكثرة رواتها , وعدم انقطاع سندها بحوادث جارفة , أو
ارتداد عام كما حصل لليهود والنصارى في أزمنة اضطهاداتهما , ولكون المسلمين
في تلك الأزمنة كانوا ممتازين عن غيرهم بالعلم والعرفان والقوة والحياة حتى وجد
بينهم علم النقد العالي في الحديث والتمحيص الدقيق فيه قبل أن تعرف ذلك أمة من
أمم العالم قاطبة، وكان فيهم ألوف من العلماء المحققين منذ نشأتهم، وكان العلم
والكتب منتشرة بين عامتهم ولم توجد عندهم رئاسة دينية تحظر عليهم الاطلاع
بأنفسهم على كتبهم الدينية كما كان عند النصارى قبل الإصلاح البروتستنتي؛
ولذلك قال بعض علماء الإفرنج: إن الإسلام هو الدين التاريخي الوحيد يعني:
أصح الأديان من الوجهة التاريخية.
وإنما قلنا: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قام من وسط اليهود؛ لأن
المدينة التي فيها عظُم أمره وكمُل شأنه وتم دينه كانت محاطة بأراضي اليهود كأهل
خيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وهي التي تحصن فيها كثير منهم بعد حادث
(طيطس) الروماني.
وكان اليهود في زمن المسيح عليه السلام ينتظرون نبيًّا آخر غير المسيح،
بشرهم موسى عليه السلام به كما يدل على ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا
(١: ١٩-٢٥) (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة
ولاويين ليسألوه من أنت ٢٠ فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست أنا المسيح ٢١
فسألوه إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا - إلى
قوله: ٢٥ فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا
النبي) فمرادهم بالنبي هنا هو المذكور في سِفر التثنية وهم كانوا يفهمون من كتبهم
أنه غير المسيح فلذا سألوا ما سألوا.
وجاء في سفر الأعمال أن بطرس قال: (أع ٣: ١٩) (فتوبوا وارجعوا
لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرَج من وجه الرب ٢٠ ويرسل يسوع المسيح
المبشر به لكم من قبل ٢١ الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي
تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر ٢٢ فإن موسى قال للآباء: إن
نبيًا مثلي يقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به) فأزمنة
رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم الأنبياء جميعًا هي أزمنة محمد صلى الله عليه
وسلم التي فيها يبقى المسيح في السماء على قولهم حتى تنتهي. ولا يصح أن تكون
عبارة موسى هذه بُشرى بمجيء المسيح الأخير فإن هذا المجيء هو الدينونة
والجزاء كما يزعمون. وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه شريعة موسى؛
فلذا سمى أزمنته (أزمنة رد كل شيء) فكأن الشريعة العيسوية كانت تمهيدًا لإتيان
الشريعة المحمدية الكاملة التي تشمل العدل والفضل وردَّت الدين إلى رونقه القديم
رونق التوحيد والتنزيه والأحكام الإلهية بعد أن شوهوه بالشرك والتشبيه والإباحة
ونقضهم ناموس موسى كما بينَّا.
(البشارة الثانية) بشارة عيسى عليه السلام بالفارقليط، وهي مشهورة في
إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ومن شاء
زيادة إيضاح فعليه بكتاب (إظهار الحق) (١ يو ١٤: ١٥ - ١٨ و١٥: ٢٦
و٢٧ و١٦: ١٢ - ١٦) .
وإنما لنا هنا كلمة عن الفارقليط وهي: هذا اللفظ يوناني، ويكتب بالإنكليزية
هكذا (Paraclete) بارَقليط أي (المُعزِّي) ويتضمن أيضًا معنى المحاجّ كما
قال بوست في قاموسه، وهناك لفظ آخر يكتب هكذا (Periclyte) ومعناه رفيع
المقام. سام. جليل. مجيد. شهير. وهي كلها معانٍ تقرب من معنى محمد
وأحمد ومحمود.
ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق
به عليه السلام، ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلف هذا الإنجيل له بلفظ
(Paraclete) صحيحة أو خطأ، ولا ندري إن كان هذا اللفظ (Paraclete)
هو الذي ترجم به من قبل أم لا؟ ؟ ؟ لأننا نعلم أن كثيرًا من الألفاظ والعبارات وقع
فيها التحريف من الكتّاب سهوًا أو قصدًا كما اعترفوا به (راجع الفصل الثالث) في
جميع كتب العهدين فإذا كان اللفظ الأصلي (Periclyte) بيرقليط فلا يبعد أنه
تحرف عمدًا أو سهوًا إلى (Paraclete) بارقليط حتى يُبعدوه عن معنى اسم
النبي صلى الله عليه وسلم مما يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة
اليونانية.
وعلى كل حال فسواء كان هو (Paraclete) بارقليط أو (Periclyte)
فمعنى كل منهما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم فهو مُعزٍّ للمؤمنين على عدم
إيمان الكافرين وعلى وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله لحكمة
يعلمها هو، ومُعزٍّ أيضًا للمصابين والمرضى والفقراء وغيرهم بعقيدة البعث
والقيامة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يُحاجِج الكفار والمشركين وغيرهم (إذا
كان معناه المحاجّ كما قال بوست) وهو شهير سامٍ جليل مجيد إذا كان اللفظ الأصلي
(بيرقليط) والعبارات الواردة في إنجيل يوحنا في هذه المسألة لا تنطبق إلا على
محمد عليه السلام كما بين ذلك صاحب كتاب إظهار الحق ومؤلف كتاب (فتح الملك
العلام في بشائر دين الإسلام) وكما أشرنا إلى ذلك في صفحة ٨٢ من هذا الكتاب.
ومملكة محمد هي مملكة الله في الأرض المسماة في العهد الجديد بملكوت الله
وبملكوت السماوات، وكان المسيح عليه السلام وتلاميذه يبشرون الناس دائمًا بقرب
مجيئها وأمر عليه السلام النصارى أن يطلبوا إتيانها من الله في صلواتهم (انظر
متَّى ٣: ٢ و٤: ١٧ و٢٣ و٢٣ و٦: ٣١ و٣٢ و٢٠: ١ - ١٦ و٢١: ٣٣ -
٤٤ لوقا ١٠: ٩ و١١ (وهذه المملكة هي التي بدأت صغيرة ثم نمت وكبرت حتى
ملأت العالم؛ ولذلك شبهها عيسى عليه السلام بالزرع الجيد وبالخميرة وبحبة
الخردل التي تصير أكبر البقول حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها
(متَّى ١٣: ٢٤ - ٣٥) ولذلك قال القرآن الشريف في محمد وأتباعه (ومثلهم في
الإنجيل كزرع أخرج شطأه) الآية (راجع سورة الفتح ٤٨: ٢٩) وهم الآخرون
الذين صاروا أولين كما قال المسيح (متى ٢٠: ١٦) وقال محمد صلى الله عليه
وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وهم الأمة التي أعطي لها (ملكوت الله)
ورئيسهم محمد هو (رأس الزاوية والحجر الذي من سقط عليه سُحق) (متى ٢١:
٤٢ ومز ١١٨: ٢٣) لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا من بني
إسماعيل، وهم نسل الجارية (تك ٢١: ١٣) المحتقرون عند اليهود، ولكن الله
باركهم وكثرهم جدًّا حتى ملأوا الأرض وفتحوها وصاروا لا يُعَدون من الكثرة كما
قال ملاك الرب لهاجر (تك ١٦: ١٠) ولم يجعل الله لأولاد الحرة (سارة) فضلاً
عليهم، وأما العهد الذي جعله تعالى لأولادها (تك ١٧: ٢١) [٢] فهو إعطاؤهم
أرض كنعان فإنه تعالى كتبها لهم كما قال القرآن الشريف (٥: ٢١) راجع أيضًا
(تك ١٧: ٨) وقال في سِفر الخروج ٦: ٤ (وأيضًا أقمت معهم عهدي أن
أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها) وقال في مزمور ١٠٥:
٨ - ١١ (ذكر إلى الدهر عهده.. .. الذي عاهد به إبراهيم وقسمه لإسحاق فثبته
ليعقوب فريضة ولإسرائيل عهدًا أبديًّا قائلاً: لك أعطي أرض كنعان حبل ميراثكم) .
فلولا محمد صلى الله وسلم لما كان لبني إسماعيل (العرب) شأن يذكر في
العالم مع أن الله وعد أن يجعلهم أمة كبيرة عظيمة (تك ١٧: ٢٠ و٢١: ١٧)
فبمحمد وحده تحقق هذا الوعد وصاروا أمة أخضعت العالم كله لها ونشرت فيه
الدين الحق والعلم والمدنية الصحيحة، ولا يزالون إلى الآن من أكثر أمم الأرض
حتى صاروا بعد الإسلام لا يعدون من الكثرة كما بشر الملاك هاجر بذلك
(تك ١٦: ١٠) على ما تقدم.
وبذلك ظهر صدق هذا الوعد الإلهي بأكمل مظاهره، وأما قبله عليه السلام فلم
يكن أحد يسمع عن العرب (بني إسماعيل) شيئًا يُعبأ به أو عملاً يُلتفت إليه.
فقارن حالتهم قبل الإسلام وبعده تتضح لك صحة هذه الأقوال الواردة عنهم في سفر
التكوين من قديم الزمان، فقد باركهم الله تعالى بمحمد وكثَّرهم وجعلهم أمة كبيرة كما
وعد (تك ١٧: ٢٠) وكان لهم مُلك جليل واسع كما في الإنجيل يزينه ذكر الله
تعالى وحده، ومن أنكر تفسيرنا هذا فليأتنا بغيره بحيث يكون شافيًا لعلته راويًا
لغلته كهذا التفسير الصحيح الذي ذكرناه هنا، وإلا فليترك المكابرة وليعترف بالحق
فإن الحق خير وأبقى.
(البشارة الثالثة) قال حجي ٢: ٦ (لأنه هكذا قال رب الجنود. هي مرة
بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة ٧ وأزلزل كل الأمم ويأتي
(مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود ٧ لي الفضة ولي الذهب
يقول رب الجنود ٩ مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب
الجنود وفي هذا المكان أعطي السلام بقول رب الجنود) وسبق أننا قلنا: إن كلمة
(مشتهى) هنا بالعبرية (حمدوت) [٣] أي: محمود كل الأمم، وهذا صريح في
محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ينطبق على أحد سواه، وفي قوله: أعطي السلام
إشارة لتحية المسلمين , وهي (السلام عليكم) التي كانوا يقولونها للناس بعد أن
عمروا بيت أورشليم في زمن عمر رضي الله عنه وأعادوا إليه مجدًا أعظم من
مجده الأول حتى صار يعظمه اليهود والنصارى والمسلمون الذين عاشوا حوله معًا
في أمنٍ وسلام في حِمَى الإسلام ويفِدون عليه من جميع الجهات مع اختلافهم في
الدين والمعتقدات لزيارته وتكريمه إلى اليوم فلا شك أن هذا البيت الأخير صار منذ
أن أحياه المسلمون وعمّروه أعظم من البيت الأول وخصوصًا في زمن عظمة الدول
الإسلامية.
أما في زمن المسيح عليه السلام فلم يزدد قدره عما كان عليه قبل مجيئه عليه
السلام بل كان يقينًا أقل من البيت الأول ثم خرب بعده بقليل ودُمِّر حتى لم يبق فيه
حجر على حجر ثم جاء النصارى فزادوا في إهانته وتحقيره بإلقاء القاذروات فيه
وتنجيسه عنادًا لليهود حتى طهره المسلمون وبنوه وزينوه فصار في عهدهم كعبة
يقصده الناس من جميع أقطار الأرض على اختلاف مللهم ونحلهم ومذاهبهم مع
الأمن والسلام كما قال (حجي) . فهل رأى البيت مجدًا وإجماعًا على تعظيمه
كالذي رآه في زمن الإسلام؟
وقول حجي: (أزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة وأزلزل كل الأمم)
إشارة إلى حروب المسلمين وانتصاراتهم السريعة الباهرة على الظالمين وإنقاذهم
اليهود من ظلم المسيحيين وتأمينهم لهم في أورشليم، ثم بعد ذلك أعطوا السلام
للناس جميعًا الذين يقصدون البيت من جميع الأمم ومن سائر البقاع.
أما المسيح فلم يزلزل السماوات والأرض والبحار والأمم بل أُهين وصُلب
وقُتل -على زعمهم- ولم يعط السلام في البيت بل أعطى بعده الحرب والطعان
والتخريب وإهراق الدماء وهو الذي بشَّر اليهود بذلك كله (مت ٢٤: ٢) فكيف
تصح هذه العبارات في المسيح مع أن ظهورها وصراحتها في محمد (أو محمود)
صلى الله عليه وسلم، وأمته كالشمس في رابعة النهار، فهم الذين أحيوا البيت
وعمروه ومجدوه إلى اليوم.
وقوله ٢: ٩ (وفي هذا المكان أعطي السلام) قد تحقق تحققًا تامًّا بمجيء
عمر رضي الله عنه بنفسه إلى أورشليم بعد الحصار وتأمين أهلها وعقده شروط
الصلح معهم، وبذللك خضعوا وسلموا بدون سفك دم وأعطاهم عمر السلَم والأمان
وفُتحت المدينة بالصلح لا بالحرب - كما قال رب الجنود - مع أن المسلمين زلزلوا
الأمم الأخرى والأرض والجبال.
فإن قالوا: إن قول حجي ٢: ٩ (مجد هذا البيت الأخير) يشعر بأن مراده
الكلام على البيت الذي كان في عصره وهو كان قد تخرَّب قبل مجيء الإسلام.
قلت: وهو أيضًا كان تخرب قبل مجيء عيسى عليه السلام فرممه (هيرودس
الأكبر) بل قال يوسيفوس: (إن هيرودس نقضه وبنى هيكلاً أجمل وأكبر منه)
فمراد حجي أن المجد الذي سيكون لهذا البيت في أيامه الأخيرة سيكون أعظم من
مجد البيت الأول الذي بناه سليمان ولذلك تُرجمت هذه العبارة في النسخة السبعينية
هكذا (المجد الأخير لهذا البيت يكون أعظم من مجد الأول) فمجده الأخير هو هذا
الذي كان في زمن المسلمين وهو آخر الزمان.
ويمكن أيضًا اعتبار البيت بيتين:
(١) البيت الأول من زمن سليمان إلى أن خرَّبه بُخْتنصر أي البيت الذي
كان موجودًا في زمن دولة اليهود وعظمتها واستقلالها، وزمن عزهم الذي ذهب به
بختنصر ومحاه محوًا تامًّا.
(٢) البيت الثاني الذي وجد بعد السَّبْي وبعد زوال دولة اليهود وعزهم
واستقلالهم إلى اليوم. فالأول بيت العز والقوة، والثاني بيت الذل والضعف، وهذا
البيت الأخير قد طرأت عليه عدة تغيرات كبيرة فأصلحه هيرودس (أو بناه بعد أن
نقضه) ثم خربه الرومان ودمروه، ثم بناه المسلمون وعمروه وأحيوه إلى اليوم.
فمراد حجي بالبيت الأخير هو غير بيت سليمان، وهو الذي كان لهم في زمن
ضعفهم وزوال عزهم وذهاب استقلالهم ثم تشتتهم. وهذا البيت الأخير قد صار مع
ذلك في زمن عظمة الإسلام ودوله أعظم من بيت سليمان، فإن ملك المسلمين كان
أكبر وأفخم وأبهى وأمجد وأعم من ملك اليهود، وكان الناس في زمنهم ولا يزالون
يقصدون هذا البيت من جميع أقطار الأرض على اختلاف مللهم ولغاتهم ونحلهم كما
قلنا.
(البشارة الرابعة) قال حبقوق ٣: ٣ (الله جاء من تيمان والقدوس من
جبل فاران. سلاه. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه ٤ وكان
لمعان كالنور. له من يده شعاع وهناك استتار قدرته ٥ قدامه ذهب الوباء وعند
رجليه خرجت الحمى ٦ وقف وقاس الأرض. نظر فرجف الأمم ودكت الجبال
الدهرية وخسفت آكام القدم. مسالك الأزل له ٧ رأيت خيام كوشان تحت بلية
رجفت شقق أرض مديان) إلخ إلخ فتيمان هي بلاد العرب، ومعنى كلمة تيمان
الصحراء الجنوبية؛ لأنها جنوب بلاد الشام ولا يزال إلى الآن على طريق القوافل
بين دمشق ومكة قرية تسمى (تيماء) ومعنى هذه الكلمة أيضًا الصحراء الجنوبية.
وتيماء أيضًا اسم قبيلة إسماعيلية تسلسلت من تيماء وكانت تقطن بلاد العرب (تك
٢٥: ١٥ و١ أي ١: ٣٠) كما في قاموس الكتاب المقدس العربي. أما جبل
فاران فهو في البرية التي سكنها إسماعيل أبو العرب (٢١: ٢١) فكأن حبقوق
أشار بعبارته هذه إلى مسكن رسول الله وهو بلاد العرب (أو التيمان) وإلى مسكن
أصله أوجده إسماعيل وهو برية فاران، وهي في شمال برية سيناء على ما يقولون.
هذا واعلم أنه لا يوجد في القرآن الشريف ما يدل على أن إسماعيل أقام بمكة
بل الظاهر منه أنه ذهب إلى هناك مع أبيه لبناء الكعبة، وأما الذين سكنوا حولها
فهم بعض أولاده؛ ولذلك قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي
بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ
تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (إبراهيم: ٣٧) فولد الإنسان لا يسمى عادة ذريته وجمعهم هنا
أيضًا يدل على أنهم كانوا أكثر من واحد فهم أولاد إسماعيل..
أما عدم ذكر بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة في تواريخ اليهود (سفر التكوين)
فهو إما لأنهم نسوا تاريخ إسماعيل لعدم اهتمامهم به وبأولاده، ولذلك لم يذكروا
عنهم شيئًا في كتبهم إلا قليلاً. وإما لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بأي فضل أو مزية
لغيرهم عليهم لاعتقادهم أنهم وحدهم شعب الله المكرمين وأنه لم يعتن بأحد سواهم
ولنرجع لما كنا فيه:
أما كوشان فهو ملك كوش وهي بلاد السودان والحبشة. ومديان هي الأرض
التي تمتد من شبه جزيرة سيناء إلى الفرات والمعنى أن سكان هذه الجهات
المشهورين بالقوة والشجاعة ترتجف أمام النبي وتخضع له. ولفظ كوش كان يطلق
أيضًا أحيانًا على جميع أفريقية الواقعة جنوبي مصر. وقد انتشر الإسلام في أفريقية
أكثر من انتشاره في القارات الأخرى وبسرعة عجيبة، فهذه البشارة لا تنطبق إلا
على محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي ملأ الأرض بحمد الله وتسبيحه والصلوات
له كثيرًا ودانت له ملوك أفريقية وغيرها وخرج من بلاد العرب، وكان من نسل
إسماعيل.
ولعل في قوله ٣: ٥ (قدامه ذهب الوباء وعند رجليه قد خرجت الحمى)
إشارة إلى الطاعون الذي ظهر في بلاد الشام في زمن عمر رضي الله عنه، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه به كما رواه الإمام أحمد عن معاذ بن جبل.
(البشارة الخامسة) قال أشعياء ٤٢: ١ (هوذا عبدي الذي أعضده
مختاري الذي سرّت به نفسى. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم ٢ لا
يصيح ولا يرفع ولا يُسمَع في الشارع صوته ٣ قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة
خامدة لا يطفئ. إلى الأمان يخرج الحق ٤ لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحق في
الأرض وتنتظر الجزائر شريعته.. .. . إلى قوله ١٠: غنوا للرب أغنية جديدة
تسبيحة من أقاصي الأرض. أيها المنحدرون في البحر وماؤه والجزائر وسكانها
١١ لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سالع من رؤوس
الجبال ليهتفوا ١٢ ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر ١٣ الرب
كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته. يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه)
وهذه العبارات تشير صريحًا إلى الحج والتلبية من فوق جبل عرفات وقوله:
(الرب كالجبار يخرج كرجل حروب) إشارة إلى غزوات رسول الله صلى الله عليه
وسلم [٤] والبرية التي سكنها قيدار هي بلاد العرب فإن قيدار هو ابن إسماعيل (تك
٢٥: ١٣) وكانت مساكن أولاد إسماعيل من حويلة إلى شور التي أمام مصر (تك
٢٥: ١٨) وحويلة هي اليمن كما في قواميسهم. وسالع معناها الصخرة، ولذلك
ترجمت الكاثوليك العبارة هكذا (ولتترنم سكان الصخرة) ومثلها في الترجمة
الإنكليزية. وفي المدينة المنورة جبل يسمى (سلع) أما سالع المسماة (بطرة)
وهي التي بين خليج العقبة والبحر الميت فكانت تعرف في زمن أشعياء النبي
(بيقتئيل) الذي سماها به (أمصيا) ملك يهوذا (٢ مل ١٤: ٧) وإذا كان المراد
بسالع هنا (جبل المدينة) أو (بطرة) فعلى حد سواء لأن بطرة هذه أخذها
المسلمون، وكانت تأتي منها الناس للحج أيضًا مع المنحدرين في البحر، ومع
سكان الجزائر وغيرها. فأي وصف لحج المسلمين بيت الله (الكعبة) أصرح من
هذا؟ ومن راجع الإصحاح الرابع والخمسين وجد أن أشعياء يخاطب به مكة
المكرمة خطابًا ظاهرًا لا ينطبق إلا عليها (راجع كتاب إظهار الحق لتوضيح هذه
البشارات) .
(البشارة السادسة) جاء في سِفر التكوين أن يعقوب جمع بنيه وأخبرهم بما
سيحدث لهم في آخر الزمان (٤٩: ١) ثم قال في شأن يهوذا (٤٩: ١٠) (لا
يزول قضيب (أي صولجان الملك) من يهوذا ومشترع (أي شارع) من بين
رجليه حتى يأتي (شيلون) وله يكون خضوع شعوب) والمعنى أن آل يهوذا لا
يزول منهم الملك والأنبياء (وهم الشارعون) حتى يأتي (شيلون) وهو محمد
صلى الله عليه وسلم الذي به تختم النبوة وتنتقل منهم إليه ويزول كل ملك لهم كان
في الأرض، وقد وقع ذلك كما أخبر يعقوب عليه السلام فإن مملكة يهوذا وإن كانت
زالت سنة ٥٨٦ ق م وقت انتهاء سَبْي بختنصر لهم إلى بابل إلا أنهم عادوا بعده
إلى بلادهم وعاد لهم شيء من القوة تحت حكم الدول الأجنبية واستقلوا في زمن
المكابيين، ثم خضعوا للرومان الذين شتتوهم في الأرض ومحوا أورشليم لكنَّ
جمهورًا عظيمًا منهم ذهبوا إلى بلاد العرب لقربها وحريتها وهوّدوا بعض أهلها
كقبيلة كنانة والحارث بن كعب وكندة وصار لهم فيها أراضٍ واسعة عامرة
وحصون وأملاك وأموال وكانوا فيها ذوي قوة كبيرة غير خاضعين لأحد مطلقًا بل
كانوا مستقلين في حرية تامة، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم انمحت كل
سلطة لهم في الأرض وتشتتوا في العالم وضُربت عليهم الذلة والمسكنة وصاروا في
كل إقليم خاضعين لغيرهم ضعفاء مضطهدين. أما من جهة النبوة والشرع فكانت
الأنبياء تترى فيهم حتى جاء المسيح عليه السلام هو منهم أيضًا وتبعه تلاميذه من
اليهود، وكانوا أيضًا أنبياء ملهمين - كما يقول النصارى - وتصرفوا كثيرًا في
الشريعة الموسوية كما يظهر من كتب العهد الجديد. فلم ينته ملكهم وأنبياؤهم
وتُنسخ كتبهم وشرائعهم إلا بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم الذي به انتهى كل أثر
من آثار ملكهم ولم يظهر فيهم أي نبي بعده.
وقول النصارى: إن هذه نبوة عن المسيح، يرده أن ملك اليهود بقي في بلاد
العرب بعده وظهر فيهم أنبياء (وهم الحواريون) كانوا يشرِّعون لهم في الدين.
فمحمد أحق بها من المسيح عليه السلام.
ومما يؤيد ذلك أن كلمة (شيلون) العبرية معناها - كما قالوا - أمان وسلام
ولا يخفى أن دين محمد صلى الله عليه وسلم يسمى الإسلام قال تعالى: {ادْخُلُوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: ٢٠٨) وتحية المسلمين (السلام عليكم) يقولونها دائمًا
في صلواتهم وفي مقابلة بعضهم بعضًا، وهم مأمورون بإفشاء السلام في الأرض
وفي مسالمة جميع الأمم إلا من بدأهم بالبغي والعدوان، فهم أمان وسلام للناس كافة
إلا المعتدين (أشداء على الكفار رحماء بينهم. أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين) وهذه الكلمات (السِّلم (بكسر السين وفتحها) والإسلام والسلام) كلها
من مادة واحدة ومتقاربة في معنى الصلح والأمان والطاعة، وعليه فهذه البشارة
صريحة في محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي ذكر فيها باسمه فكأن يعقوب قال:
(إن ملك اليهود لا يزول تمامًا وأنبياؤهم لا تنتهي إلا إذا جاء (الإسلام) أو
(صاحب الإسلام) صلى الله عليه وسلم، وقد كان ذلك كما قال في آخر الأيام أو
آخر الزمان (تك ٤٩: ١٠) .
ومن المعلوم أن المسلمين يسمون نبيهم (خاتم النبيين) و (نبي آخر الزمان)
و (صاحب الإسلام) و (مفشي السلام) فأي تطابق أكمل وأتم من هذا في
تفسير هذه النبوة العظيمة على محمد ودينه؟ وأي نبوة للنصارى في المسيح أصرح
من هذه؟ اللهم أنر بصائرهم حتى يؤمنوا بدينك الإسلام وبنبيك صاحب السلام الذي
بشرهم به يعقوب من قديم الأزمان.
أما المسيح فما جاء - كما قال - ليلقي سلامًا على الأرض بل جاء ليلقي سيفًا
(متى ١٠: ٣٤) وقد كان ذلك كما سبقت الإشارة إليه، فإن ما وقع من أتباعه
ويقع منهم إلى الآن وما يخترعونه من الآلات المهلكة للنفوس المبيدة لبني البشر لم
يقع مثله من أمة أخرى سواهم.
(البشارة السابعة) قال دانيال مخاطبًا بختنصر ومفسرًا له رؤياه ٢: ٣١
(أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم ٣٢ رأس هذا التمثال من ذهب جيد.
صدره وذراعاه من فضة. بطنه وفخذاه من نحاس ٣٣ ساقه من حديد. قدماه
بعضهما من حديد والبعض من خزف ٣٤ كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين
فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما ٣٥ فانسحق حينئذ
الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معًا.. .. . أما الحجر الذي ضرب
التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها ٣٦ هذا هو الحلم فنخبر بتعبيره قدام
الملك ٣٧ أنت أيها الملك ملك الملوك؛ لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتدارًا
وسلطانًا وفخرًا ٣٨.. .. .. فأنت هذا الرأس من ذهب ٣٩ وبعدك تقوم مملكة
أخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أخرى من نحاس فتتسلط على كل الأرض ٤٠
وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد.. .. .. ٤١ وبما رأيت القدمين والأصابع
بعضها من خزف الفخار والبعض من حديد، فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة
الحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطًا بخزف الطين ٤٢ وأصابع القدمين بعضها
من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قويًّا والبعض قصمًا ٤٤ وفي أيام
هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا وملكها لا يترك لشعب آخر
وتسحق وتفنى كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد ٤٥ لأنك رأيت أنه قد قطع
حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب.. ..
الحلم حق وتعبيره يقين (فالمملكة التي قامت بعد بختنصر هي مملكة الفرس التي
أسسها كورش وكانت دون مملكة بابل والمملكة الثالثة التي كالنحاس هي مملكة
اليونان، وقد تسلط الإسكندر الأكبر مؤسسها على كل الأرض المعروفة كما قال
دانيال والرابعة هي الدولة الرومانية التي انقسمت إلى قسمين كما انقسم ساقا التمثال،
وكانت فيها قوة الحديد مختلطًا بخزف الطين وهو كناية عن الملوك الضعفاء فيهم
وفي أيام ملوك هذه الدولة بعد انقسامها أقام إله السماوات مملكة الإسلام التي لن
تنقرض أبدًا، وقد سحقت كل هذه الممالك وثبتت هي إلى الأبد كما قال دانيال.
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الحجر الذي قطع لا بيد أحد بل بالقدرة الإلهية من
الجبل وسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب وصار جبلاً كبيرًا وملأ
الأرض كلها وفي ذلك أيضًا إشارة إلى منشئه في القفر وبين الجبال.
وقد استولت أمته على ما ملك بختنصر والفرس واليونان والرومان ولا تزال
جميع أراضي هذه الممالك في أيدي أمته إلى اليوم رغمًا عن ضعفها المؤقت وهي
التي أفنت الدولة الرومانية واستولت على القسطنطينية عاصمة ملكها حتى هذه
الساعة. والدولة الإٍسلامية هذه قد ظهرت في أيام ملوك الدولة الرومانية كما قال
دانيال (٢: ٤٤) وبعد انقسامها (٢: ٤١) وبعد أن كان فيها قوة من الحديد
مختلطة بقوة من الخزف. ودولة الإسلام قد أقامها الله في الأرض وثبتها حتى أفنت
كل هذه الممالك وستثبت إلى الأبد حسب هذا الوعد الإلهي (٢: ٤٤) .
هذا هو التفسير الصحيح لهذه النبوة وهو ينطبق على حروفها أتم الانطباق
ولا يوجد لها تفسير غيره. وإن خالف النصارى فليخبرونا هل يُعقل أن دانيال يتكلم
على هذه الممالك الأربعة (مملكة بابل والفرس واليونان والرومان) ويترك المملكة
الإسلامية التي سحقت كل هذه الممالك واستولت على جميع أملاكها إلى عصرنا هذا؟
فهل غاب ذلك عن علم الله أو حصل بغير إرادته أو نسي أن يذكره؟ مع أنه هو
الذي أقامها بنفسه كما قال دانيال، وقضى أنها تفني كل هذه الممالك وأن تثبت إلى
الأبد.
فإن قيل: إن المراد بذلك دولة النصارى (أي الدولة الرومانية بعد اعتناقها
المسيحية) قلت: إن الدولة الرومانية صارت مسيحية في عهد قسطنطين أي قبل
انقسامها مع أن صريح كلام دانيال أن الدولة المرادة بكلامه يقيمها الله بعد انقسام
الدولة الرومانية وبعد وجود قسمين فيهما الضعيف والقوي. والدولة المسيحية لم
تُفْنِ الدولة الرومانية ولم تسحقها بل هي هي وقد ابتدأ الضعف فيها بعد اعتناقها
المسيحية حتى صارت أضعف مما كانت في زمن وثنيتها إلى أن أزالتها دولة
الإسلام واستولت على جميع أملاكها تقريبًا وعلى جميع ممالك الدول الأخرى
المذكورة ولا تزال هذه الأراضي كلها في أيدي المسلمين إلى اليوم فهل ثبتت الدولة
الرومانية المسيحية إلى الأبد كما قال دانيال، وهل سحقت الدول الأربعة القديمة
واستولت على ملك بابل وفارس وغيرهما؟ أم هي التي سحقها الإسلام واستولى
على عاصمة ملكها (القسطنطينية) وحول كنائسها مساجد يذكر فيها اسم الله تعالى
وحده كثيراً؟
وهل الدولة الرومانية المسيحية هي التي سحقت وأفنت دولة الفرس (العجم)
كما قال دانيال ٢: ٤٤ أم هي دولة الإسلام؟ وهل نسوا إنغلاب الرومان أمام
الفرس عدة مرات واستيلاء الفرس على كثير من أراضيهم حتى هددوا القسطنطينية
نفسها وحاصروها؟ ؟
وما هو هذا الحجر الذي قطع صغيرًا وسَحق هذه الممالك كلها وصار جبلاً
كبيرًا حتى ملأ الأرض كلها؟ أليس هو محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهو الذي بدأ
صغيرًا ثم صار كبيرًا حتى محق دولتي الفرس والرومان واستولى على أملاكهما
وعلى تيجان ملوكهما وملأ أراضيهما بالإسلام لله وعبادة الرحمن منذ افتتاحهما إلى
الآن؟ فأين النصرانية التي ثبتت في أراضي تلك الممالك القديمة إلى الأبد؟
ولا يصح الاعتراض علينا بضعف المسلمين الحالي فإن الإسلام له فترات
فيكون أحيانًا ضعيفًا وأحيانًا قويًّا، ونحن الآن في فترة من الضعف زائلة لا محالة
بحول الله تعالى. على أن الدين الإٍسلامي نفسه من أقوى الأديان في الأرض، إن لم
نقل أقواها فإنه أشد أخذًا بقلوب أتباعه من كل دين سواه وأسهل انتشارًا وأسرع
حتى كاد يغلب غيره في أكثر بقاع الأرض على حداثة عهده كما يشهد بذلك
المبشرون أنفسهم، ولا توجد أمة أشد تمسكًا بدينها من المسلمين، فإن النصارى وإن
انتمت اسمًا إلى المسيحية لكنهم أبعد الناس عن العمل بها، وترى جمهورهم لا يعمل
إلا بما ناقض أصولها على خط مستقيم، فالفرق بين المدنية الأوروبية وتعاليم
الأناجيل واضح لا يحتاج لديل.
ومن حسن التطابق بين النبوات بعضها مع بعض أن داود والمسيح سميا
محمدًا حجر أيضًا كما سبق (متى ٢١: ٤٢ ومز ١١٨: ٢٠) .
والخلاصة أن تفسير نبوة دانيال هذه بغير تفسيرنا هذا إنما عين المكابرة
والتعسف والعناد. ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاذبًا لَمَا ذكره الله على ألسنة
أنبيائه بهذه الصورة بل لأكثر من ذمه وتقبيحه وتحذير الناس منه كما حذر
عيسى عليه السلام من الكذابين الذين ظهروا بعده وأفسدوا دينه.
(البشارة الثامنة) سِفر نشيد الإنشاد، هذا السفر قالت فيه اليهود: إنه رمز
لأورشليم، وقال النصارى: إنه للكنيسة المسيحية، أما نحن فنقول: إنه رمز إلى
محمد صلى الله عليه وسلم والأمة العربية. ومما ينقض قول اليهود قوله في
الإصحاح ٦ عدد ٤ (أنت جميلة يا حبيبتي كترصة (اسم مدينة) حسنة كأورشليم)
فلا يصح أن تكون أورشليم مشبهة بنفسها بل لا بد أن يكون المشبه شيئًا آخر غير
أورشليم.
أما ما يُثبت قولنا أن هذا السفر هو في حق محمد وأمته العربية ما يأتي:
(١) قوله ١: ٥ (أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق
سليمان ٦ لا تنظرن إليّ لكوني سوداء؛ لأن الشمس قد لوحتني بنو أمي غضبوا
عليّ ٨ إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فاخرجي على آثار الغنم وارعي
جداءك عند مساكن الرعاة) وقوله ٢: ٨ (صوت حبيبي هو ذا آتٍ طافرًا على
الجبال قافزًا على التلال) وكل ذلك إشارة إلى سُكنى العرب في الصحاري والقِفار
بين الجبال والتلال ورعيهم المواشي والأنعام وسكناهم في الخيام السود كخيام
(قيدار) وهو ابن إسماعيل الثاني (تك ٢٥: ١٣) وهو أب لأشهر قبائل العرب
وتسمى بلادهم أيضًا قيدار (أش ٢١: ١٦ وأر ٤٩: ٢٨) فكانت خيامهم كخيام
أبيهم تمامًا، وقد اسود لونهم من تأثير الشمس كما قال لكثرة تعرضهم لها، وإنما
ذكر شقق سليمان هنا أي ستائره لشهرتها بالجمال والأُبَّهة والفخامة، أما قيدار
فلا مسوغ لذكره إلا كونه أباهم.
(٢) وقوله ٢: ١٤ (يا حمامتي في محاجئ الصخر في ستر المعاقل
أريني وجهك أسمعيني صوتك؛ لأن صوتك لطيف ووجهك جميل) فيه إشارة أيضًا
إلى سكناهم بين الصخور الجبلية كما كانوا يفعلون وقوله: (صوتك لطيف) أصله
العبري (صوتك عيرب) أي عربي وهو صريح في أن لغتهم عربية. وقوله:
(أسمعيني صوتك) إشارة إلى اسم أبيهم (إسماعيل) و (يشمع ايل) ومعناه
(الله يسمع) فهو يسمع لأبيهم ويطلب منهم أن يُسمعوه صوتهم العربي؛ لأنه سميع
لهم جميعًا ومجيب ويحبهم، وقد كرر ذلك أيضًا فقال ٨: ١٣ (أيتها الجالسة في
الجنات الأصحاب يسمعون صوتك فاسمعيني) ولعله يريد أن يسمعوه صوتهم العربي
في تلاوة القرآن. وهم يسمون عند اليهود بالإسماعيليين كما في تك ٣٧: ٢٥ أي
الذي يسمعهم الله.
ولا تنسَ التطابق العجيب بين لفظ (الأصحاب) وبين اسم الصحابة رضوان
الله عليهم أجمعين.
هذا وقد بشرت كتبهم أيضًا بالخلفاء الراشدين الأربعة فقال زكريا ١: ١٨
(فرفعت عيني ونظرت وإذا بأربعة قرون ١٩ فقلت للملاك الذي كلمني: ما هذه؟
فقال لي: هذه هي القرون التي بددت يهوذا وإسرائيل وأورشليم ٢٠ فأراني الرب
أربعة صناع ٢١ فقلت جاء هؤلاء ماذا يفعلون؟ فتكلم قائلاً: هذه هي القرون التي
بددت يهوذا حتى لم يرفع إنسان رأسه. وقد جاء هؤلاء ليرعبوهم وليطردوا قرون
الأمم الرافعين قرنًا على أرض يهوذا لتبديدها) أما القرون الأربعة فهي باعترافهم
مملكة الكلدان والفرس واليونان والرومان كما في حاشية الكاثوليك على الكتاب
المقدس وأما الصناع الأربعة الذين أرعبوا تلك الأمم وطردوهم فهم بلا شك الخلفاء
الراشدون، فإن مملكة الكلدان والفرس صارتا مملكة واحدة، وكذلك اليونان
والرومان، وقد استولى الخلفاء الراشدون على ممالك تلك الدول وعلى أرض يهوذا
التي كانوا بددوها كما لا يخفى. والمسلمون قد جاءوا من بلاد العرب وبنوا هيكل
أورشليم بعد أن كان أحرق وأبيد، ولذلك قال زكريا ٦: ١٥ (والبعيدون يأتون
ويبنون في هيكل الرب فتعلمون أن رب الجنود أرسلني إليكم ويكون إذا سمعتم
سمعًا صوت الرب إلهكم.. ..) فكل ذلك بشارة بأصحاب محمد صلى الله عليه
وسلم وقد سماهم بهذا الاسم في سفر نشيد الإنشاد كما سبق (٨: ١٣) .
(٣) قوله ٥: ١٦ (حلقه حلاوة وكله (مشتهيات) هذا حبيبي وهذا خليلي
يا بنات أورشليم) وأصل كلمة (مشتهيات) بالعبرية (محمديم) ومعناها (محمد
أو محمود) وهو نص صريح قاطع على أن المراد بهذا السفر هو محمد صلى الله
عليه وسلم وأمته، فأي تصريح بعد هذا يريدون؟ وأي نبوة عندهم عن المسيح
أصرح من هذه؟ ومعنى (حلقه حلاوة) أن كلامه عذب جميل، وهو إشارة إلى
فصاحته وبلاغته المشهورة. وهو صلى الله عليه وسلم كله (محمود) محبوب
فلهذا قال (هذا هو حبيبي وهذا هو خليلي) ولذلك يسميه المسلمون (حبيب الله)
فاسمعوا ذلك يا أهل الكتاب يا أبناء أورشليم وآمنوا برسوله وحبيبه محمد المحمود
تفوزوا برضاء الله مع الفائزين. الله أكبر ولله الحمد على هدايته لنا لدين خير
الخلق حبيب الرحمن عليه الصلاة والسلام.
وفي هذا القدر كفاية لمن فتح الله عين بصيرته ولم يُعمه التعصب أو زخرف
هذه الحياة الدنيا عن رؤية الحق فنزه عقله عن المكابرة والتعسف الباطل والتكلف
البارد. وقد بقيت هذه البشائر في كتب أهل الكتاب حجة عليهم إلى يوم القيامة
رغمًا عن تلاعبهم فيها مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ
الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ
أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: ١٥٧) .
... ... ... ... ... كتب هذه الرسالة في ٤ مارس سنة ١٩١٢
... ... ... ... ... ... ... الدكتورمحمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))