للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


حديث في استلزام المغفرة للذنوب

(س ١٢ من البصرة)
حضرة العالم الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامية الغراء:
إن هذا الحديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون
فيستغفرون الله فيغفر لهم) من الأحاديث الشريفة الواردة ويستبان من ظاهره أن الله
سبحانه وتعالى الذي هو ليس بظلام للعبيد يحث على ارتكاب الذنب وهذا مما يجعل
العامة في ريب فنرجو حل هذا الحديث على الوجهة الشرعية أجزل الله لكم الثواب.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سائل
(ج) جاءني بهذا السؤال وأنا بالبصرة بعض الشبان من طلاب مدارس
الحكومة وقال بعضهم: إنهم يرتابون في صحة هذا الحديث بل أنكروه. فقلت لهم:
بل هو صحيح السند، رواه مسلم في صحيحه وبينت لهم معناه بما لا شبهة فيه كما
يأتي. أما لفظ مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً فهو (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا
لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرونه فيغفر لهم) وعن أبي أيوب بلفظ:
(لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم) وبلفظ آخر بمعناه. وفي الجامع
الصغير عن ابن عباس عند الإمام أحمد وحسنه (لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم
يذنبون ليغفر لهم) .
وأما معنى الحديث فهو أن من شئون رب العالمين خالق العباد وملكهم أنه
غفور رحيم للمذنبين التوابين منهم، كما أن من شئونه العقاب للعاصين،
والقصاص من الظالمين للمظلومين، فلا بد أن تجري جميع شئونه في خلقه، وأن
يظهر تعلق صفاته في متعلقاتها من العالم، كالعلم في المعلومات، والقدرة في
المقدورات، والسمع في المسموعات، فكما تتعلق هذه الصفات الإلهية بمتعلقاتها
تتعلق صفة المغفرة بمتعلقاتها، والعالم كله مظهر صفات الله تعالى وأسمائه في
الدنيا والآخرة، وهذا لا يقتضي الحث على الذنب لأجل التعرض لتعلق المغفرة
بالمذنب؛ لأن المغفرة لا تتعلق بكل مذنب بل من المذنبين من يعاقب على ذنبه كما
علم من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة وهي معلومة من الدين بالضرورة،
ومنهم من يغفر له كما علم من هذا الحديث وغيره، وما أحسن قول أبي الحسن
الشاذلي في هذا المقام: (وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف، فأمّن خوفنا ولا
تخيّب رجاءنا) على أن ما يستحق المذنب به المغفرة مبين في الكتاب الحكيم، قال
تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: ٨٢) وقال
تعالى في بيان استغفار الملائكة للمؤمنين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: ٧) إلخ وفي رواية
أبي هريرة للحديث المسئول عنه ما يشير إلى ذلك فإن المراد بالاستغفار ما يكون
أثر التوبة.