للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


خطبة
افتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومن
والاه.
أيها الإخوة الكرام:
إن أمتنا الإسلامية قد ابتليت بمثل ما ابتلي به كثير من الأمم ذات التاريخ
المجيد، ولكنها وصلت في هذا العصر إلى درجة من الخطر لم تصل إلى مثلها فيه
أمة أخرى فيما نعلم.
لا أعني بهذا أننا قد ابتلينا بأمراض اجتماعية لم يبتلَ بها غيرنا، فإنني أعلم
أن جميع أمراضنا، قد انتقلت إلينا بالعدوى ممن قبلنا، كما أشار إلى ذلك نبينا
صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع
حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما. وإنما أعني بهذا أننا
مرضنا فأضعفنا المرض وأنهك قوانا في زمن قويت فيه أمم أخرى أخذت علينا
طرق العلاج، وسدت علينا منافذ الحياة، وفتنتنا في أنفسنا وديننا وأخلاقنا وآدابنا،
وسائر مقوماتنا ومشخصاتنا التي كنا بها أمة واحدة.
حللت بتلك الفتن بنيتنا كما تحلل الأجسام المركبة في معاملها الكيماوية،
ونجعلها غازات تطير شعاعًا في الجو وذرات تتفرق في الأرض، بل لبستنا شيعًا
وأذاقت بعضنا بأس بعض حتى صرنا شرًّا على أنفسنا وأضرّ من أعدى أعدائها
عليها، فمنا من يقطع روابط الأمة بمُدية الوطنية، ومنها من يقرض نسيج وحدتها
بمقراض الجنسية اللغوية أو النسبية، ومنا من يمزق شملها بأظافر الأحزاب
السياسية , فأين الموحدون دعاة التوحيد؟ أين أهل الجماعة طلاب الجمع والتأليف؟
أين المصلحون بالتربية القويمة والتعليم؟
أيها الإخوة، إن هذه الأمة، قد باتت في حيرة وغمة، أضلها الإدلاء
وأمرضها الأطباء، فلم تبق لها ثقة في شيء من الأشياء، وما ذاك إلا أن أكثر
الذين اشتغلوا بأمورها العامة يجهلون طرق الإصلاح، وينكبون في سيرهم عن
سبيل الرشاد، وأما العارف البصير فقد كان يعوزه الأعوان ويحال بينه وبين المراد.
قالوا: إن الأمم تصلح بالمدارس المنتظمة على النمط الأوربي، وها نحن
أولاء قد شرعنا في تأسيس هذه المدارس منذ قرن كامل فما بالها لم تصلح شئوننا،
ولا يزال السواد الأعظم منا يرى أنها لم تزدنا إلا فسادًا وخبالاً؟
قالوا: إن الأمة الجاهلة المختلة لا تستطيع أن تصلح شأنها إلا بعد أن يتوفر
المال عندها، فهو سبب الأسباب، والمقدم على جميع الأعمال، وها نحن أولاء
نرى مسلمي قطرنا هذا يملكون من المال ما يكفي لكل ما يحتاجون من الإصلاح،
فما بال بعض الشعوب التي كانت أقل مالاً منا قد سبقتنا في جميع ضروب الإصلاح
ومعارج الارتقاء.
قالوا: إن الأمة المختلة المعتلة لا ينتظم شملها ويعلو شأنها، إلا بعد أن تتخذ
لها قوة حربية يُخشى بأسها، ويحول دون أطماع الطامعين فيها، ولكنا نرى دولتنا
العثمانية قد كانت وما زالت ذات قوة حربية لا يستهان بها. فما بالها لم تصلح كما
صلحت اليابان، وتستغني ولو في عدة الحرب وفنونها عن الأجانب كالإنكليز
والألمان؟ بل لم يعصمها ذلك أن تنتقص من أطرافها، ويدخل عليها من أكتافها؟
حتى صارت عاصمتها كما قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها المخاوف حتى أصبحت طرفا

قالوا: إن الأمة الضعيفة تقوى باحتذاء مثال الأمم المرتقية. فما لنا قد حاولنا
احتذاء مثال الإفرنج في مدة جيل أو جيلين، ولم نستفد من ذلك إلا زيادة الضعف
والوهن، إذ كان استيلاء الأجنبي على المتفرنجين، أسهل من استيلائه على من
نسميهم أو يسمونهم المتوحشين؟
أيها الإخوة، إن الرأي الصحيح في مصابنا، الذي يمثل لنا أقتل أمراضنا،
هو أننا فكرنا في طريق إصلاح شئوننا في كل شيء إلا في أنفسنا، ولعمري إن
من خسر نفسه خسر كل شيء، ومن ربح نفسه ربح كل شيء.
لقد بلغ الفساد من أنفسنا أن صار كثير ممن نعدهم من أهل الرأي والبصيرة
فينا، يرون أن استيلاء الأجنبي على قطر من أقطارنا، يسخر أهله في تمهيد طرقه
له، ومد خطوطه الحديدية لأجله، واستخراج معادنه وثمراته لإغناء حكومته
وشعبه، وينشر فيهم البغاء والفحش، والخمر والميسر، ويصدهم عن ذكر الله
وعن الصلاة، ويفتنهم بالزينة واللذة، فخير لهم من أن يظلوا على استقلالهم في
عيشة ساذجة بدوية لا تعرف فنون هذه اللذات والشهوات من المدنية.
إننا خسرنا أنفسنا فذلت ومجنت، وفقدت الشعور بشرف الاستقلال الشخصي
فجهلت قيمة الاستقلال القومي، فلا صلاح لنا إلا بإصلاح أنفسنا بتربية صالحة
وتعليم صحيح، وإنما نفع التربية والتعليم وصلاحهما بالسير فيهما على طريقة
العمل والتوسل بهما إلى العمل.
إن من نسميهم خيارنا وخواصنا من المشتغلين بالعلوم والفنون هم في الغالب
شرارنا، لأنهم قدوة سيئة فينا، لا يطلبون العلم للعمل، ولا يستفيدون به صلاح
أنفسهم، ولا إصلاح غيرهم، وكثيرًا ما يتصدى للزعامة في الأمة سفهاؤها،
فينهزم من أمامهم أمثلهم وأعقلهم.
إننا لا نتعلم لغتنا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا نجد أعجز الدارسين لها عن
فهمها، والإتيان بالقول البليغ منها، هم الذين يطوون السنين الطوال في درس
علومها وفنونها وفلسفتها، فلا تكاد تجد فيهم كاتبًا مُجيدًا، ولا خطيبًا مؤثرًا، وبهذا
ضعفت اللغة عن حمل ما استحدث من مصطلحات العلوم والفنون في هذا العصر،
حتى كادت تعد لموتنا من اللغات الميتة، وهل يمكن وجود أمة حية بدون لغة حية؟
إننا لا نتعلم ديننا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا فسدت أخلاق عامتنا، بفساد
أخلاق قادتنا، وتركهم ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الخير، والتواصي بالحق
وبالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانتكث بهذا الفساد فَتْلنا، وتفرق
شملنا، وارتخت الروابط الملية فينا، وضعفت ملكة التعاون في أنفسنا، فإذا فقدنا
قوة الوحدة بالعقائد الدينية، والأخلاق الملية، والتعاون على المصلحة العامة،
فبماذا نكون أمة واحدة قوية، ونحن لا تجمعنا لغة واحدة، ولا حكومة واحدة، ولا
مملكة واحدة؟
إننا لا نتعلم العلوم الطبيعية والصناعية والمالية بالعمل ولا لأجل العمل،
ولهذا لا يوجد فينا المخترعون، ولا يظهر منا المكتشفون، ولا ينبُغ منا الصناع
ولا الماليون، حتى صرنا بعد الشروع يتعلم هذه العلوم بمئة سنة عيالاً على
الأجانب في جميع أنواع الحاجات التي يدور عليها أمر المعاش، كالماعون واللباس
والأثاث والرياش، بل صرنا عالة عليهم، حتى في حماية أنفسنا منهم، فإننا
نشتري منهم جميع أسلحتنا وذخائرنا وبوارجنا الحربية، ونتعلم منهم الفنون،
والأعمال العسكرية أليس هذا أغرب ضروب الكسل، والإهمال، والتواكل
المفضي - إن دام - إلى فقد الاستقلال.
إن الكلام في وصف حالنا يطول، والشيء إذا كثر مملول، ووصف العلاج
أهم من وصف الداء، وإنما دواؤنا التربية الملية والتعليم العملي، وأول ما يجب
البدء به منه تخريج رجال لا هم لهم من حياتهم إلا خدمة الأمة وإصلاح شئونها،
والنهوض بها إلى المستوى اللائق بها في هذا العصر، فإنه لا يعوزنا شيء في
سبيل الحياة التي نريدها إلا المعلمون والمربون، وإن شئت قلت المرشدون
الصادقون.
إن من مصائب الإسلام أنه لا يوجد في أهله طائفة تقوم بالإرشاد العام
للمسلمين كما كان على عهد سلفنا الصالح، وكما هو معهود عند الأمم الأخرى
كرهبان النصارى وقسوسهم، فصار المسلمون فوضى في أمر دينهم وتربيتهم
وآدابهم، التي عليها مدار حياتهم، فمنهم الجاهلون الذين يقضون حياتهم لا يرون
مرشدًا عالمًا مربيًا يتعاهدهم بإرشاد أو نصيحة، ومنهم الذين انصرفوا إلى مدارس
دعاة النصرانية أو الحكومات يقتبسون العلم والأخلاق والآداب منهم. ولهذا لم تر
الأمة الإسلامية إصلاحًا من المتعلمين في هذه المدارس بل رأت منهم مفاسد كثيرة،
أهمها تفريق كلمتهم، وإفساد آدابهم، ودعوتهم إلى روابط ملية واجتماعية لا تتفق
مع دينهم وتاريخهم.
وأما المدارس الدينية، على قلتها في العالم الإسلامي، فقد صارت كلها
مدارس دنيوية يطلب العلم فيها لأجل المعيشة بالقضاء أو الإفتاء أو التدريس، ولا
تكاد ترى الأمة منها مرشدين يتعاهدونها في البلاد والقرى والمزارع والبوادي،
ولكنها ترى دعاة النصرانية في جميع هذه الأماكن. ولا أخوض في تعليم هذا
الصنف من المسلمين وتربيته وأخلاق هنا، وما ذلك بالذي يخفى عليكم.
تعلمون أن أخاكم الذي بين يديكم قد اختبر أحوال العالم الإسلامي اختبارًا لم
يتيسر مثله إلا لقليل من أمتنا، وكانت نتيجة هذا الاختبار أنه يعتقد اعتقادًا قاطعًا
بأنه لا رجاء لأمتنا الإسلامية بالنجاح والفلاح إلا بتربية خاصة وتعليم خاص
لطائفة من المسلمين ليكونوا مرشدين ومعلمين لأمتهم ثم لغيرها من الأمم كما يليق
بهدي الإسلام، الذي أكمل الله به دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا يشتغلون
بغير ذلك ألبتة فحسبهم إصلاح النفوس وإرشادها إلى العمل بما تعلم، وقد رأيت
عقلاء المسلمين من العرب والترك والفرس والهنود وغيرهم متفقين على هذا الرأي.
هذا هو العمل الذي تألفت له جماعة الدعوة والإرشاد وكنت أيها الإخوة الكرام
من السابقين الأولين لإجابة دعوة الداعي إلى تاسيسها، وبذل شيء من المال للبدء
بالعمل فيها.
إن من أغرب ما ابتلي به المسلمون من الخذلان أنه لا يقوم أحد منهم بعمل
نافع لأمتهم إلا ويتصدون لمقاومته، ووضع العثرات في سبيل العاملين معه،
ويشتدون في ذلك بقدر نفع العمل.
عندنا في مصر منكرات كثيرة، وبدع عديدة، وقلما نرى أحد يشنع على
أهلها ويرجف بهم ويرميهم بالتهم الموبقة، وإنما يقذف بأشد التهم من يتصدون
للخير وعمل البر والإصلاح في الأمة.
لما أسست الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر وجد في المسلمين حتى في
أصحاب العمائم من أرجف بها واتهمها بالسياسة والسعي بها لدى الحكومة والمحتلين
بأنها تمد مهدي السودان بالمال مساعدة له على مصر. وقد زوروا أوراقًا وختمًا
لإثبات ذلك. ولولا عزيمة الأستاذ الإمام ومن ثبت معه من أصحابه لقضي على
هذه الجمعية وهي في مهدها.
وأما جماعتنا هذه فقد تصدى بعض المسلمين لقتلها ووضعها في اللحد، قبل
أن تولد وتوضع في المهد.
أو تهمة قذفنا بها المرجفون في جريدة العلم المصرية هي أننا نؤسس جمعية سرية،
لإسقاط الدولة العثمانية وإنشاء خلافة عربية، وكانت حجتهم على ذلك أننا نخفي
عملنا، ولا نظهر للناس أسماءنا وقانوننا. وكان ذلك قبل أن تتكون الجمعية ويتفق
المؤسسون على نظامها الأساسي الذي قدمه إليهم هذا الداعي إليها.
حقا إن إخفاء العمل مدعاة الارتياب فيه، لا أنه دليل على ما زعمه المرجف
ولكن إظهاره وإباحته لكل أحد لا مجال معه للريبة، فإظهار عملنا برهان قطاع
على بطلان تلك التهمة، ومحو تلك الشبهة، ولو كان المرجف يعتقد ما كان يقول
لرجع عن قوله، واستغفر لذنبه، عند ما تم تكوين الجمعية ونشر نظامها حتى في
الجرائد. وعلم أنها جمعية عامة لكل المسلمين لا فرق فيها بين عربي وتركي
وفارسي وتتاري وهندي وملاوي وصيني.
نشر نظام الجماعة وفيه أسماء أعضاء إدارتها فلم يرجع المرجف عن إرجافه،
فكان ذلك دليلاً ظاهرًا على سوء نيته، وفساد طويته، وكان يسهل عليه وعلى
من يثق بإخلاصهم للدولة أن يشتركوا في هذا العمل ويكثروا عددهم فيه حتى يكون
أمره في أيديهم، فيخدموا به الدولة، فلماذا لم يفعلوا؟ وقد دعوا إلى ذلك فلماذا لم
يستجيبوا؟ وإننا لا نزال ندعوهم إليه فليقبلوا.
زعم المرجف في أول العهد بإرجافه أن هذه الجماعة تنشأ أو أنشئت بأموال
أحمد عزت باشا العابد، وفائق بك من خدمة السلطان السابق، وأن هذين الرجلين
لا يبذلان المال لمثل هذا العمل إلا إذا كان فيه كيد للدولة العلية؟ ولم يكن أحد من
المؤسسين يعرف هذين الرجلين، ولا كانا هما يعرفان شيئًا عن هذا العمل، ولا
دفع له أحد درهمًا ولا دينارًا. وقد كاد يمر على هذا الإرجاف وهذه الفرية ثلاث
سنين ولم تنل الجماعة شيئًا من ذينك الرجلين. ولا يبذل للجماعة أحد شيئًا إلا
وينشر في الجرائد ويثبت في دفاترها وها هي ذي بين أيديكم.
رددت على المرجف في ذلك العهد بمقالتين بينت فيهما أنه لا يعقل أن تؤلف
جمعية جهرية عامة مثل جعيتنا لغرض سياسي يقصد به إسقاط دولة عظيمة،
وإنشاء دولة جديدة، وأن تكون الوسيلة إلى ذلك مدرسة، فعاد المرجف إلى تنفير
الناس من هذه الجماعة بدعوى أنها تعرض المتعلمين في مدرستها للهلاك، لأنها إذا
أرسلتهم للدعوة إلى الإسلام في مثل بلاد السودان وغيرها من البلاد الواقعة تحت
سلطة الأجانب ينصب لها الإنكليز وغيرهم (المشانق) فيقتلونهم ويصلبونهم
ويسومونهم سوء العذاب، أي إن هذه المدرسة الدينية إذا لم تسقط الدولة العلية
وتؤسس دولة أخرى، فإنها ستعرِّض من تربيهم وتعلمهم للعذاب المهين، ما أعجب
هذه الرحمة وما أغرب هذه الشفقة.
اعتقد المرجفون أن مولانا عزيز مصر يُرجى أن يمنح هذه المدرسة مساعدة
عظيمة من الأوقاف ويحوطها بعنايته، لما يرون منه كل سنة من زيادته لنفقات
المدارس الدينية (الأزهر وملحقاته) ، وكذا غير الدينية كالجامعة المصرية،
فطفقوا يعرضون بذلك تعريض تنفير، ثم صرحوا به في غير هذا القطر تصريح
تهمة وتشهير، ظانين لقصر نظرهم وضعف عقولهم أن هذا النوع من الإرجاف،
هو الذي يحول دون هذا النوع من البر والخير.
هذا الإسراف والغلو في التنفير عن هذا العمل العظيم الذي هو فرض ديني
يحيي جميع الفروض والسنن، وهذا التناقض والتهافت في مقاومته، ليس سببه
الحسد والبغضاء لمن دعا إليه ومن قاموا به فقط كما يظن كثير من الناس، بل
هنالك سبب آخر أخفى من هذا وهو أن بعض أعداء الإسلام في غير هذا القطر هم
الذين أغروا زعيمي المرجفين هنا [١] وليس من موضوعي أن أشرح ذلك، وإنما
الغرض البيان الإجمالي للمهم من تاريخ هذا العمل وجعله تمهيدا لبيان حالة الجماعة
المالية.
تعلمون أن أكثر الناس كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه أتباع كل ناعق،
وأنهم لفشو الفساد في البلاد يصدقون الشر أكثر من تصديق الخير، وأنهم لا
يمحصون ما يلقى إليهم من القول ليميّزوا بين المعقول منه وغير المعقول، وأنهم
لا يحتاجون في الصارف عن بذل المال لخدمة الملة والأمة إلى البراهين القاطعة
والحجج الناهضة، بل يكتفون فيه بالإيهام، ويتكئون على أوهى الشبهات والأوهام
ولولا كثرة هؤلاء، لما طمع أمثال أولئك المبطلين في مقام الزعماء، وستظهر
للجميع الدلائل الوجودية المشاهدة فتقطع ألسنة المرجفين، وتقنع جميع المقلدين.
أصغر مثال وجودي من ذلك هو أن من نظام مدرستنا أنه يجوز للطلاب
الداخلين أن يقيموا فيها مدة عطلة الصيف، من شاء منهم، فالذين استحبوا الإقامة
فيها مدة الصيف الماضي كان ثلاثة أرباعهم ممن جاءنا من رواق الترك في الأزهر
بين تركي وشركسي والرابع من رواق المغاربة، فهل يعقل أحد أننا نحاول هدم
الدولة العثمانية بأمثال هؤلاء.
ومثال آخر من نوعه تعدد أجناس الطلاب بالفعل وارتفاع سنهم، فأنتم ترون
أن منهم العربي، المشرقي والمغربي، والتركي والتتاري والشركسي والهندي
والجاوي والملاوي، وأكثر العرب من المصريين فهم زهاء النصف في القسم
الداخلي، والربع في القسم الخارجي، وترون أن سنهم تتراوح في القسمين بين
العشرين والثلاثين فهم في سن الرشد والاستقلال العقلي، لا من الأطفال الذين
يقبلون بكل ما يقال لهم، حتى يمكن المِراء في أمرهم، ويزعم المرجف أنه يمكن
إقناعهم على اختلاف أجناسهم بالسعي لإسقاط دولة يحبونها ويتمنون بقاءها، لأجل
إنشاء دولة يجهلونها ولا يثقون بإمكان وجودها، وإنما كان يسهل المراء في ذلك
قبل وجوده بالفعل بادعاء أنه تمويه كتب في نظام المدرسة لمخادعة الناس وهو لا
ينفذ كما كتب.
علمتم من هذا البيان أن تلك الأراجيف الباطلة هي التي كانت المانعة لمؤسسي
هذه الجماعة من دعوة الناس إلى الاكتتاب العام لها، وتأليف اللجان لذلك، واكتفائها
بإشهار عملها وانتظار الفرصة لتلك الدعوة، بعد أن يكون العمل نفسه يشهد لنفسه
بأنه أفضل خدمة عامة للإسلام. وأنه خير محض لهذه الأمة بل يشاركها فيه كل من
يعرف قيمته من الناس، وسيظهر هذا بظهور العمل واستمراره ولو زمنا قليلاً حتى
لأشد الناس تقليدًا للمرجفين، وبعدًا عن استقلال الفكر والرأي، فإن هؤلاء إذا كانوا
لا يعقلون البراهين الدالة على كذب المرجفين وسوء نيتهم، فهم لا يجهلون الأمور
الحسية التي لا يمكن أن يشاغب فيها المماري كالمثالين اللذين أوردناهما آنفًا.
أرجأنا الاكتتاب العام انتظارا للفرصة المناسبة فلم تسنح لنا إلى اليوم فإننا لم
نلبث بعد الشروع في مبادئ العمل إلا قليلا حتى وقعت الحرب في طرابلس الغرب
وانصرفت همتنا مع الناس إلى جمع الإعانة لإخواننا المدافعين عن بلادهم وأنفسهم،
وما كان يمكن أن يدعى مع ذلك إلى إعانة أخرى، وها نحن أولاء نرى دولتنا قد
اصطدمت قبل انتهاء تلك الحرب بحرب أخرى أدهى وأمر، وأنكى وأضر، ونحن
مضطرون إلى السعي لإعانتها عليها بجمع الإعانات المالية.
فهذه هي الأسباب في قلة ما ترونه من المال في الأرقام التي سأعرضها عليكم
مندخل الجماعة وخرجها منذ تأسيسها إلى آخر سنتها المدرسية الماضية، ومنها
تعلمون أن الفضل الأول في تاريخنا المالي يعود إلى المحسن العربي العظيم،
الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، عضو الشرف الأول لجماعتنا، ثم للأعضاء
المؤسسين منكم أيها الإخوة، الذين لم يسلبهم استقلالهم وغيرتهم الإرجاف والصد
عن سبيل الله، فسارعوا إلى بذل ما تنال به عضوية التأسيس وهو عشرون جنيهًا
مصريًا على الأقل، ثم لسائر السابقين إلى الاشتراك والتبرع، والرجاء في
المستقبل بفضل الله عظيم.
إن رحلتي إلى الهند في هذا العام ستكون فاتحةً لباب من أهم أبواب تاريخنا
المالي، فقد صار لجماعتنا ولمدرستنا به شهرة عظيمة عند إخواننا مسلمي الهند
الذين رأيتهم من أشد المسلمين غيرةً دينيةً، واستمساكًا بعروة الرابطة الإسلامية،
وأنداهم كفًّا في مساعدة المشروعات العلمية والخيرية، ولأجل هذا اتفق إخواني
أعضاء مجلس الإدارة على الإذن لي بإجابة دوة جمعية ندوة العلماء، إلى
رياسة مؤتمرها السنوي في هذا العام، ثم لأجل صلة التعارف والموادة بين
المشتغلين بأمر التربية والتعليم في أرقى بلاد الإسلام مصر والهند، ولولا أن
الحكومة الإنكليزية الهندية حسبت أن لرحلتي معنى سياسيًا فيمًا يسمونها الجامعة
الإسلامية لمقاومة الدول الأوربية وأن والي لكنهوء رماني بالظِّنة، ووضعني
موضع التهمة، لما منعني مانع من تأسيس شعبة لجماعة الدعوة والإرشاد، في ذلك
البلد العظيم وغيره من تلك البلاد، ولكنني علمت أن المسلمين هنالك لا يقبلون على
مساعدة عمل ترى الحكومة أن له صبغة سياسية ضارة بها، ورأيت العقلاء وأهل
الرأي منهم متفقين على أن عملنا هذا إذا عرف على حقيقته وعلمت الحكومة الهندية
أنه ديني محض لا شائبة فيه للسياسة كما هو الواقع ثم دعي مسلمو الهند إلى
مساعدته فإنهم يفيضون عليه الذهب فيضًا.
على أن بعض أهل العلم هناك قد ترجموا نظام مدرستنا دار الدعوة والإرشاد
بلغتهم الأوردية، وتبرع بعضهم بطبعه ونشره لتشتهر المدرسة والجماعة في جميع
تلك الممالك، والله المرجو لما وراء ذلك.
أما الرجاء الأكبر لمدرستنا في الأرض فهو مولانا عزيز مصر عباس حلمي
الثاني الذي أنشئت في ظله، وتعد من حسنات ملكه، لأنها أول مدرسة في الإسلام،
قد أنشئت لتخريج المرشدين والدعاة إليه في جميع الأنام، وناهيكم بعنايته العليا
بمعاهد العلم والدين، وغيرته على مصالح المسلمين، ثم أسرته العلوية المباركة
التي تدفقت أيديها في مساعدة المدارس الدنيوية، والمشروعات الخيرية، فلا يعقل
أن تقبضها عن إعانة هذه المدرسة الدينية، والله المنعم والموفق لموجبات الشكر
والمزيد، وله الحمد في الأولى والآخرة وهو الولي الحميد.