للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحافظ الجاوي


حقيقة أحوال مسلمي جاوه
رسالة من صاحب الإمضاء من طلاب العلم في مكة المكرمة

أيهما أنفع للهيئة الاجتماعية الترقي أم التدلي؟
في العام الماضي بينما كنت متضلعًا بقراءة مجلة (المنار) إذ هي إحدى
المجلات التي تبحث في المشكلات الشرعية وفلسفة الدين، وحبًّا في مباحثها
النفيسة المفيدة، طالعت جميع ما فيها من البحث في العلل الروحية والأمراض
الاجتماعية التي طرأت على المسلمين، والبحث في شئون الاجتماع والعمران،
وفي ذلك العام ١٣٢٩ صدر من المجلة عدة أجزاء أهمها ثلاثة - الخامس - والسابع-
والعاشر - فهرولت في طلبها، واعتنيت في تحصيلها إلى أن ظفرت بها،
فتناولتها بيمين الإجلال، وتصفحت صحائفها باشتياق وإقبال، رغبًا أن أجد فيها ما
يشفي لي الغليل، ويبرئ الضمير العليل، في المشكلات الشرعية، فإذا أن رأيت
فيها ناطقًا بشئون مسلمي جاوة، وباحثًا في أمورهم الاجتماعية، من حيث التأخر
والتدلي والانحطاط، والجهل والهبوط والخرافات، ولم أرها تعرض في أبحاثها
ومقالاتها إلى شيء من حقائق شئوننا بقطر الجاوة في هذه الأزمنة، إلا النزر
اليسير، سيما ما كتبه الكاتب في الجزء السابع من الجفوة؛ لأن في عبارته جفخًا [١]
بأهل قطره (ماليزيا) ، وتفضيلاً لأبناء جنسه، ولا يرمي شيئًا من الفوائد
والنصائح التي ينبغي أن نعتني بشأنها، فيدلنا ذلك على أن الكاتب دبت إليه
عقارب الحسد والبغض والنزاع، وأصبحت رسالته غير مشتملة على الخدمة
الملية والجامعة الجاوية بل هي مجرد الدققة [٢] .
إن شئوننا لم تزل ضعيفة خرافية فعلينا وعلى سائر إخواننا المحبين لخدمة
الملة إرجاع النظر، واتخاذ وسائل المساعدة والمعاونة لترقيتها إلى منبر التقدم
وتقديمها إلى محراب الحضارة، فإن الأمم المجاورة لنا وهي - اليابانية -
والصينية - قد طلعت بمشيئة الله تعالى شموس الترقي والتقدم والحضارة في بلادها
وظهرت بإرادته نجوم المعارف والعلوم والصناعة والفنون في آفاقها، حتى جاء
انقلابها في أحوال التجارة وأمور السياسة والإدارة فائقًا. ولما كان مثله في الأمم
الأوربية، جمع كثير من الفضاء حوادثها التي تسر الناظرين في الأسفار،
وصانوا ديباجتها عن غبار الشنار، قائلين إنه إذا دامت الأمة اليابانية ٤٠ سنة على
هذه الحركة العلمية العملية، فلا بد أن تحل في الشرق محل الأمم الغربية، (انظر
المجلة المصورة بينتانغ - هندية الصادرة في بندونغ (سنده) سنة ١٩٠٤ العدد
٥) وإن صناعات اليابان اليوم تفوق صناعات الأوربيين بكثير حتى إن ما يساوي
قرشًا بالأصالة يساوي دينارًا بالصنعة (انظر (رسملي كتاب) الصادر في الآستانة
في نيسان ١٣٢٨ العدد ٣٩ مجلد ٧) وأن الأمم الصينية الآن في بدء الانقلاب
فسيمنح الصينيون الحرية الدينية والشخصية، وتغير الحكومة القديمة بالحكومة
الجمهورية وهي التي سماها أهل الغرب (la de gouvernement Le
Republique) وهي نظام الحكومة في أمريكا وفرنسا وغيرهما، وقد تصدر
الحكومة الأوامر بتبديل الملابس والطرز القديم ويكون أهالي الصين مكلفين باتباعها
ويستثنى من ذلك المسلمون، وقبلت الحكومة أيضًا راية جديدة فيها ألوان شتى،
فالبياض علامة المسلمين والحُمرة علامة أصل الصينيين والسواد علامة المانجو
والخضرة علامة التبت والصفرة علامة عنصر المغول، فشاعت هذه الأخبار
وذاعت بين الأقطار والبلدان، ورأينا الصينيين المقيمين في قطرنا
(الجاوة) يترقون شيئا فشيئًا اتباعًا لحضارة حكومتهم وبلادهم، وأجمعوا على
وجوب تعميم التعليم وأنشأوا مدرسة كبيرة لأبناء بلادهم المقيمين في تلك الجزائر،
سموها (Tiong - Hwe - Hoa - Tiong) وبذلوا لهذا الغرض الشريف كل ما في
وسعهم مما يحتاج إليه من المال، مع اختيار أكمل الرجال، ويزداد عدد التلاميذ
يومًا بعد يوم والفضل في ذلك لنظارة المعارف (Wie - Joe - Khong) وقد
سمعنا صوتًا سياسيًا قبل الانقلاب: أن المملكة الصينية إذا ارتقت كالدولة اليابانية
تهول الدول الأوربية وتخفيها فإن مملكتها فسيحة وسكانها مئات الملايين ومقدار
المسلمين فيها على مقتضى إحصاء الحكومة خمسة وخمسين مليونًا [٣] وانظر مبلغ
أصل الصينيين والمانجو والتبت وعنصر المغول كم يكون؟
وإخواننا مسلمو جاوه على هذه الحركات المدنية والحضارة وأدوار المملكة
الممكنة من عهود تجدد، وشروط تؤكد، ونظام يتغير، وانقلابات تظهر، تراهم
بين أمواج التأخر، والانحطاط والتقهقر، كل الأوصاف الخسيسة عليهم انطبقت،
وسحائب الجهل والكسل والظلم والاستبداد وكل نعوت الدناءة فيهم قد تزايدت
وتراكمت، حتى لا يمدح منهم سوى تمسكهم بكلمة الشهادة، وتلفظهم بالهيللة، ومن
العجائب أنهم يتركون ما يجب علمه وعمله لحماية دينهم وملكهم، من تنظيم
المدارس وقراءة الجرائد والمجلات، والإلمام باللغات الأجنبية. وأن هؤلاء القوم قد
أشربوا حب النصارى في قلوبهم، واستحضروا عظمة ملكهم، ولاحظوا توفر
الدنيا بأيديهم، ولكنهم لا يعملون ما ينيلهم ذلك , فحقوق المسلمين أو الواجبات
عليهم هي أن لا يبدلوا الملابس والطرز القديم، فالأزياء والوساخة والطاقية
الخشبية والنعل المعروف بالقبقاب من مصنوعاتهم هي عين الدين، والمدارس
العقيمة على الطريقة العتيقة هي طريقة السلف والخلف فينبغي لنا إبقاؤها،
والجرائد والمجلات غاية ما فيها العبث والكذب والزور فينبغي اجتنابها، لذلك نرى
رجال الدين الإسلامي عندنا معاشر الجاويين قلما يعرفون شيئًا من أمور العالم.
فإنهم جعلوا ما لا شائبة فيه من الأشياء الممنوعة المحرمة، وجعلوا الأفعال الفاحشة
والأشياء الخرافية إجماعًا سكوتيًّا، ولا حاجة بنا إلى التصريح بها فإنها معلومة لدى
الشيوخ في بلاد الجاوة الشرقية خصوصًا في (فونوروقو) ومتعلقاتها، فلا حول
ولا قوة إلا بالله وأعاذنا الله من ذلك! !
على أن الذين يأتون ذلك هم الذين يقرءون التفاسير فهل النهي عندهم
للجواز؟ وهل فسر المفسرون النفي بالإثبات والإثبات بالنفي؟ (حاشا لله! ! !)
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا يسخر
الأجانب من المسلمين إلا بمثل هذه الأفعال الفاحشة، لا بأفعال الجاهلين منهم
الذين لا يمسون أدنى التمدن بل يمسون التوحش، والحق أنهم ليسوا علماء، وإن
كانوا يقال لهم ذلك. كيف وقد وضعوا الشيء موضع نقيضه؟ بل هم أدل الآيات
على جهلهم وفضيحتهم في التحريف، وتسبب من هذه الأفعال نفور الجاويين
من ديانتهم الرسمية وميلهم إلى الديانة المسيحية أو إلى غيرها أو إلى الكفر المجرد
لا مسيحية ولا غيرها، غير أنهم لم يمحوا منها كل ما هو إسلامي بدليل بقاء بعض
الشعائر الإسلامية والأعياد المِلِّيّة ثابتة هناك كالاحتفال بالمولد النبوي وغيره،
وأن من تزوج بغير نكاح، ومن لم يختن أو من مات بالكفن الأسود من الجوخ [٤] هذا
كله قد عرف العوام فضلاً عن الخواص أنه باطل ولا يفعله أحد.
ومما نأسف له من تأثير جهلهم أنهم كلما خرجوا من وطنهم ضرب عليهم الذل
والهوان، ويدلك على ذلك الحجاج الجاويون، فإنك ترى مطوّفيهم يلعبون بهم لعبة
الكرة - وكذا وكلاء المطوفين - ويظلمونهم ويؤذونهم، وترى الحُجَّاج في هذا
الظلم والجور مثل البهائم لغلبة الجهل عليهم، ولو عرف القراء ما عرفته من حال
المطوفين ووكلائهم وسفرائهم بهذه المدة ليعجبوا أشد العجب، ولا يمكن أن يقع كل
هذا الظلم على من كان له قليل من له الإلمام بقوانين الدولة وبصيص من نور
الحضارة وكثرة قراءة في الجرائد والمجلات، فالإنسان ما وصل إلى هذا الحد إلا
بعدم المعرفة لشئون العالم، وعدم الإلمام بأمور الاجتماع والعمران.
فإنني إن أطلع القارئ على أن المتنصرين لهذا العهد يوميًّا من مسلمي جاوة
في جزيرة سوربياة لا يقلون من أربعين إنسانًا وقس عليها ملحقاتها - سمارنغ -
بتاوي - سوراكرتا - ودعاة النصرانية فيها يخدعونهم بالاستمالة تارة، ويأخذونهم
بالقهر والغلبة مرارًا، ومن الغرائب أن رجال الدين الإسلامي هناك ساكتون لا
يقاومون ولا يدافعون حق الدفاع، بل نرى رجال اليابانيين المقيمين في تلك
الجزائر هم الذين يناضلون ويدفعون أولئك الدعاة الدجاجلة كما حدثني بذلك الثقة،
كان الأولى والأحق بهذا الواجب هم الأولون، ولا ندري سبب سكوتهم عن ذلك،
نعم إنهم يتلون قوله تعالى:
{إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ} (آل عمران: ٧٣) .
إن مقاصدنا استيلاء هولاندة على جزيرتنا بعد أن استأثرت بمنافعها هي:
(أ) نصب القضاء بيننا بالعدل والرأفة وبالشورى.
(ب) تحسين حالتنا وترقية شئوننا المادية وسنكون بعد ٤٠ سنة في المهارة
بالصناعات مثل أوربا.
(ج) تحكم هولاندة علينا بحسب قانونها، ويكون مبطقًا على كتاب الله
وسنة رسوله.
(د) لا تريد الحكومة الهولاندية في جاوة والهند الشرقية إزالة الديانة
الإسلامية بل تريد الإصلاح وبقاء الحال على ما هو عليه.
ثم لها عدة مواد تعاهد بها (لعله عاهدت عليها) أميرنا الأفخم، ونحن ننشر ما هو
مفيد منها لجماعة الدعوة والإرشاد. تقول مجلة المنار في الجزء السابع (ص
٥١٩) نقلاً عن أقوال المجلة السويسرية (مجلة إرساليات التبشير والبروتستانتية) :
(إن حكومة هولندة تشد أزر المبشرين أكثر من الحكومة الإنكليزية، وقد رتبت
لهم مرتبات مالية لتصرف على المستشفى والملاجئ والمدارس، وسبب هذا الاتفاق
بين الحكومة الهولاندية والمبشرين وجود (فون بوتزيلر) قنصل المبشرين
والوسيط بينهم وبين الحكومة) .
(قلت) إن صحت هذه العبارة فإنها تدل صراحة على أن الحكومة الهولندية
تريد إزالة الديانة الإسلامية، والتحول عنها إلى الديانة المسيحية، فلا وجه للتعاهد
على إبقاء الإسلام. مع هذه الصراحة، فازداد بها يقيني وإنكاري، وشمرت بها
إلى فتح طريق الاعتراض والانتقاد على المادة الرابعة (د) وفوق ذلك نرى
إخواننا شبان الجاويين قد اعترضوا على المواد المذكورة فأسسوا جمعية الاتحاد
العام Boedi - Oetomo أي الأخلاق الفاضلة فهم يرومون بها التربية والاستقلال
ويتخذون لذلك وسائل شتى، ولها جريدة خاصة باللسان الجاوي والماليزي سموها
(دارما - كوندو) تبحث في شئون هذه الجمعية حتى أصبحوا -ولله الحمد- قد أخذت
تظهر فيهم بوادر الانقلاب، فلو كان جميع الزعماء من المسلمين عارفين بمقاصد
جمعية (الاتحاد والترقي) وسياستها، وأرادوا أن يتبعوا منها شبرًا وذراعًا بذراع
في الأمور المادية والمعنوية جميعًا لفعلوا بلا معارض، فكما طلعت شموس
الانقلاب وفجوره طلعت أيضًا رءوس المدارس الإسلامية محصورة في بعض المدن
والقرى حتى بلغ المنشأ حديثًا زهاء خمس مكاتب على طراز جديد، ونخص بالذكر
منها مدرسة بتاوي ومدرسة فكالوعان ومدرسة سورابية ومدرسة سورا كرتا ومدرسة
يجوكجا كرتا. وهاتان المدرستان هما أكبر المدارس الدينية فيها إذ مؤسس المدرسة
بسورا كرتا هو الجناب العالي أميرنا الأفخم عبد الرحمن العاشر، ومؤسس المدرسة
في جوو كجرتا الحكومة الهولندية بأمر الحاكم العام في بتاوي، وكلها عامرة
بالتلاميذ، غير أن أساتذتها لا يعرفون نظام المدارس في الآستانة ومصر
المحروسة بالفعل، لذلك فشا فيها شيء من الطريقة القديمة حتى جاء ذاك المصلح
الكبير نجل السادة الأعيان، والعلماء الأعلام، سيدي السيد عبد الله بن صدقة بن
زيني دحلان، فساعد على تنظيمها رغبة في نشر العلم وتربية الناشئين تربية دينية
تهذيبية (جزاه الله تعالى وباركه) ولعمري أني لم أرَ أحدًا من رجال الدين بمكة
المكرمة السائحين في قطرنا (الجاوة) بثوا فيها شيئًا من المعارف إلا ذاك الرجل
المتمسك بالنظام والآداب الحميدة فهو من نوادر السائحين، وقد كتب إليّ كثير من
الإخوان في ضمن الكتب عبارات الشكر له والامتنان منه.
لقد أتى على التمدن العربي ما شاء الله من الدهر، متداولاً عصرًا بعد عصر
ولم تنهض الهمة بأحد من أهله الوافدين على تلك الأرجاء كأولئك الحضارم إلى
بث العلوم والمعارف في تلك الجزائر، بل أهملوها إهمالاً لم تعرف مثله الأشباه
والنظائر، وكان همهم محصورًا في جلب الدراهم من أيدي الناس، حتى جاء هذا
المصلح المشار إليه، وكان كثير من الأجانب قبل مجيئه يضحكون منهم بخلاف
الأوربيين السائحين هناك فإنهم ينشئون المكاتب والمدارس ويبثون لغتهم بين أهل
اللغة الجاوية لتؤلف قلوب الأطفال والناشئة، واغتر كثير من المسلمين بذلك
فقلدوهم تقليدًا أعمى من غير حاجة إليه في لباسهم وطعامهم، وفي حركاتهم
وسكناتهم، حتى أن البعض منهم رفض الديانة الإسلامية توغلاً في تقليدهم
ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا! ! !
ومن أعجب أساليب التقليد وتأثير خرافات الأمم الراقية في المسلمين المارقين
أنهم يزعمون أن العرب ليست أهلاً للحضارة والمدنية استنادًا لما رأوا من هؤلاء
الحضارم والمسلمين الجاويين في تأخرهم وانحطاطهم، فما كان ألذ سماع هذه الكلمة
منهم في آذان الأوربيين.
ولقد بلغ من عمران الدولة العربية في الشرق والغرب ما لم يبلغه عمران دولة
قبلها، انظر إلى الأمويين في دمشق والأندلس، والعباسيين في بغداد، ترَ من
رقيهم في الصناعات ومعارج العرفان ما لا يقوي الإفرنج على إنكاره، ودونك
كتاب مدنية العرب (orabes des civilisation) تأليف جوستاف لوبون ترَ فيه
المعجب والمطرب، فهل تريد بعد ذلك كله برهانًا على صحة دين الإسلام الحنيف
وحجة على حقيقة من اهتدينا بهديه وانتهجنا سبيله؟
إن أهل أوربا كانوا لاهين عن العلوم ساهين عن إيقاد نبراسها حتى أنهم لما
أفاقوا من غفلتهم وهموا بالخروج من ظلمات الجهل، وطلبوا النور الذي كان
لأسلافهم ونبذوه هم وراء ظهورهم، كادوا لا يجدون له من أثر في غير الأديار،
فالتجئوا إلى العرب وتعلموا في مدارسهم، واستضاءوا بنور أساتذتهم، وترجموا
كتب علومهم إلى لغاتهم، فكان للشرق بذلك الفخر ما بقي النيران.
نطقت كتب التاريخ: أن طلبة العلم من الإفرنج من القرن الثامن إلى الثاني
عشر كانوا إذا أرادوا التبحر في العلوم يقصدون بلاد العرب يقرؤون على أساتذتهم
بل قيل: إنه لم ينبُغ أحد منهم في الرياضيات في القرون المذكورة إلا بعد أن
تلقاها بمدارس العرب فتأمل! ! !
وإخواننا الجاويون المقلدون للأوربيين لا يلتفتون ولا يتدبرون تلك التواريخ
بل يشغفون بالتشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم فولعوا بزيارة أوربا وتعلموا في
مدارسها واختصوا للإنفاق عليها الألوف من الأموال، حتى تمكنهم تأدية الراتب
السنوي لكل تلميذ وهو (١٢١٥ غولدن) في كل سنة، ولم نسمع قط أنهم يخرج
منهم (سينتمات) فضلاً عن (غولدنات) لأساتذتهم في العلوم العربية اللهم إلا زكاة
الفطرة على سبيل المعروف.
ومع ذلك فإنا رأينا المتخرجين في المدارس الهولاندية لا يستعملون العلوم
والفنون والصناعات لحماية ديننا وملكنا ووطننا بل يبذلون أموالنا على الشهوات
واللذات والزينة والقمار، فيا حبذا تلك الفنون التي نحن متعطشون إلى تعميمها في
تلك الأنحاء التي لا تزال ضعيفة.
هذا ما نبديه للقراء نزرًا من جمّ، وقَطْرًا من يمّ، من أحوال مسلمي جاوة،
والله يوفقنا لنشر غيرها في المستقبل -إن شاء- إنه سميع النداء مجيب الدعاء،
وأرجو بعد إقفال باب الكلام على جاوة أن يسمح لي القراء الجاويون ومن معهم
بكلمة أسوقها إليهم، وهي أني قرأت الجرائد على اختلاف ضروبها فرأيت فيها
أخبار الدولة العثمانية والمصرية والدولة اليابانية والصينية في الترقي والتقدم
والحضارة، وعدا هذه ترى كل جنس من أجناس الأمم الراقية قد روت عنه الجرائد
والمجلات شيئًا من علو الهمة، ونهضة الأمة، كارتقاء اليابان والانقلاب في
الصين، ونهضة التعليم بالهند، وجراءة أبطال المجاهدين في طرابلس الغرب،
وناهيك باختراعات أوربا، فهل لإخواننا المسلمين الجاويين أن يقوموا بعمل مثل
هذا في جاوة ينتفع به جميع الجاويين، ولهم من مساعدة أميرنا الأفخم ما يوصلهم
إلى هذه الغاية الجليلة التي تكون من ورائها حرية السواد الأعظم، والله الموفق.
... ... ... ... ... ... ... ... من طلبة العلم بالحجاز
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحافظ ... الجاوي
(المنار)
إن الكاتب الذي أشار إليه صاحب هذه الرسالة في أولها ما كتب إلا
بالإخلاص وحسن النية، دون العصبية الجنسية الجاهلية، وهو لم يقل في إخواننا
الجاويين إلا دون ما قاله أخوهم في النسب الشيخ عبد الحافظ صاحب هذه الرسالة.
وإذا كان قومه أحسن حالاً منهم فينبغي أن يسره ذلك ويسرهم، لأنهم إخوانهم،
وقد ينفعهم حسن حالهم ولا يمكن أن يضرهم، وعليهم أن يجتهدوا في سبيل الارتقاء
حتى يكونوا أحسن منهم وأئمة لهم إن استطاعوا. ومن جد وجد، ومن قعد عن
السعي هلك، ولا يظلم الله أحدًا.