للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الجهاد أو القتال في الإسلام
(س١) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) .
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار
الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت
في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد
الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير
سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن
العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية
والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة
إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب
إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى
قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة
التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو
في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما
يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم
التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة
بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد.
هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم
الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه
شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو
تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم
بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا
وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه
وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا.
فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء
نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه
مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة
وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية
وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن
من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس
مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في
هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار.
... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم الإسلام
... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد البيرجندي
من قطر قاينات من بلاد خراسان
(ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به
واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم
بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت
قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من
مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون
ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في
كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد،
فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله
تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال:
٣٠) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون
الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج
بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون
ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي
صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان
المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال
من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم
وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت
تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها
عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من
التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا
يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون
على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله
صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة
الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: ١٩٠) .
ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة
أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه
من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في
أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة،
وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال،
رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة
التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم
خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن
الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها.
أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم
في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا
مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر
بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت
ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا
كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين.
على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة
على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس
والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر
العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم،
وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن
يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة
أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا
مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية
في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن
تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة
الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير
اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة
الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم.
وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب
فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال
غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج:
(ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) .
هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه
وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح
الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون،
ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان
التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره
بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من
التمويه والتلبيس عليه.
ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته،
والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه
من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك
إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم
لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما
بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر.
ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في
علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب
القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة
الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة:
{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: ٢٥٦) .