للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانقلاب الخطر
وجمعية الأحمرين الدم والذهب

كل من نعرف من العثمانيين المخلصين، والأجانب المستقلين يعتقدون أن
جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية الأحمرين: الدم والذهب، أما كونها جمعية دم
وثورة فهو صفتها الرسمية، ولما سقطت وزارتهم السعيدية الشقية جمعوا مؤتمرهم
العام وزعموا أنهم قرروا فيه التحول عن جمعية ثورة إلى حزب سياسي. وكان
هذا خداعًا للأمة الجاهلة المسكينة، كذبته ثورتهم الجديدة لقلب وزارة كامل باشا.
وأما كونها جمعية ذهب، فلا يخفى على أحد، فقد نهبوا أموال عبد الحميد
خان وصادروا أكثر أغنياء الأمة، وباعوا بوسنة وهرسك للنمسة، وطرابلس
الغرب لإيطالية، واتفقوا مع الجمعية الصهيونية على بيعها أراضي السلطان عبد
الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسة لإقامة ملك إسرائيل
فيها، ولهذا قال وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: إن مستقبل هذه الدولة
العثمانية لليهود. وأخذت وزاراتها من ميزانية الدولة أكثر من ٤٠ مليون جنيه لم
يظهر لها أثر يذكر.
لأجل هذا كله كنا نخشى أن تعود لها الكَرة لامتلاك زمام الدولة فتكون
هي الكَرة الخاسرة، وتقوم بذلك قيامة هذه الأمة البائسة في هذه الأحوال الحرجة،
وزاد هذا الخوف في قلوبنا إخراج الجمعية لبطلها أنور بك من دَرَنَة الذي وضعته
هناك وجعلت في يده جميع الإعانات الحربية؛ لتوهم العالم الإسلامي أنها هي التي
تدافع عن طرابلس وبرقة، وما هي إلا البائعة لهما على الوجه الذي بيَّناه من قبل،
وإنما أخرجته وجاءت به إلى الآستانة ليعينها باسمه وشهرته الخادعة على الثورة
وسفك الدم. وقد وقع ما كنا نتوقع، وهاك ما ورد علينا وعلى غيرنا من أصحاب
الجرائد المصرية من الآستانة في ذلك:
رسالة إلينا خاصة من الآستانة:
كتب إلينا أحد الأصدقاء من عاصمة الملك ومركز الحوادث يقول:
(أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول،
وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على
الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف
يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، هذا
وهؤلاء المتأخرون في كل شيء، والمتقدمون إلى شفير كل هلكة، كأنهم لا
يألمون لما يألم له الأحياء، فنراهم في غمرتهم ساهين، وعلى ما ألفوا من
الحرص والطمع عاكفين، وعلى هذا الذماء الحقير من السلطة متهالكين، كأن
الآلام تقع على غيرهم، وكأن من يقصد بهذا الشر المستطير سواهم، فكل ما
حل بهم وما سيحل بمن يتصل بهم لم يظهر له ولا أثر ضعيف في أعمالهم
وحالهم، أو كما يقول شاعرهم التركي:
عالم ينه أول عالم ... دوران ينه أول دوران
بل أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله،
حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء، فلقد اختلس الطامعون فرصة اشتغال
العسكر في المرابطة على الحدود، واشتغال الوزارة بالجواب على مخطرة
الدول، فخرجوا من زقاق شرف، مع رئيس من رؤسائهم المعروفين بعدد من
الزعانف لا يبلغ المائتين، أعيتهم الحيل في جمعهم، ومنهم قسم عظيم من
جهال مهاجري طرابلس الغرب، أغروهم بالوقوف أمام الباب العالي يطلبون
معاشهم الذي مضى وقت صرفه، ولم تتمكن الوزارة من تدارك قرض لصرفه،
فوقفوا ووقف أولئك معهم يصيحون ويصخبون، وجاء رئيسهم أنور فدخل على
كامل باشا ورفاقه وطلب إليهم الاستعفاء بحجة أنهم ضعفوا أمام الأعداء وأطمعوهم،
وأشار إليهم بأن ممثلي الأمة وراءه وهم الواقفون أمام الباب، وكان ذلك بعد
أن اغتيل ذلك القائد العظيم ناظم باشا وضابطان آخران، فاضطرت الوزارة
إلى الاستقالة وخرج أنور وهو يكاد يسامق الفَلَك غرورًا، وتوجه توًّا لسفارة
ألمانية حيث مكث هناك برهة ثم صعد إلى سراي طولمه باغجه، حيث أخبر
السلطان بعمله، وأشار عليه بنصب محمود شوكت باشا، وإعادة الوزارة
الاتحادية، فأجابه إلى طلبه طبعًا، وعاد فأعلن ذلك إلى ممثلي الأمة الواقفين
في ساحة الباب العالي! فهتفوا باسم الاتحاد والترقي، وكان ذلك وقت
الغروب أو بُعيده.
ثم قُبض على علي كمال وأُحيط بإدارة جريدة أقدام وعلى محرر يكي غزته
وأحيط بإداراتها، وبناظري المالية والداخلية، وبكثير من رجال العلمية
والملكية، وفر كثيرون مما لم نقف بعد على تفصيله، وتوجه في تلك الليلة
رجلان إلى إدارة صباح، حيث كان محررها فأمروه بكتابة ما يريدون، وهددوه
إن لم يفعل بالقتل، فخرجت صباح ثاني يوم تمجد هذا العمل وتقدسه وتلبسه
لباس الحق، وإن للأمة أن تخرج عن الطاعة وتنبذ طاعة حكومتها إذا عملت على
غير مصلحتها.
وكان قد أصيب في تلك المظاهرة مرخص الاتحاديين مصطفى نجيب
فهلك فأخرجوا جنازته في اليوم التالي بين التهليل والتكبير، والبكاء والعويل،
والتآبين المطولة، والمراثي المطنطنة، وفي جملة من أبَّنَه عبد العزيز
شاويش، أبَّنه بالإنكليزية! ثم مشوا به ومعه ألوف مؤلفة فيهم قسم عظيم من
الحمالين (الشيالين) وقسم عظيم من شيوخ الطرق، وآخر من رجال العلمية
والطلبة، والباقون من شبان المأمورين، ومشت أمامه فرقة من العساكر، وأخرى
من النوَّاحين يرثونه، ويذكرون بلاءه في سبيل الوطن وتعريضه بنفسه
إلى الموت لتخليص وطنه من الذين يريدون بيعه وتسليمه للأعداء، ويتباكون
كأن المصاب بهذا المجاهد أعظم من المصاب بكل من مات في ميدان الحرب،
وأعظم من الهزيمة التي أسقطت الجيش والعثمانية كلها من مرتبة الوجود.
كل هذا على حين أن جنازة ناظم باشا كانت تمشي من طريق آخر وليس
معها سوى بعض الجند، وبعض ضباط الأجانب والمأمورين العسكريين،
والناس يتناجون فيما بينهم ولا يجسر أحد منهم أن ينبس ببنت شفة.
جرت كل هذه المضحكات المبكيات، ثم عادت الوزارة الجديدة لمباشرة
العمل والقيام بما ملأت به ماضغيْها من التحريض على الحرب ورد مخطرة
الدول، وراجعت الأساس الذي كانت الوزارة السابقة تريد بناء الجواب عليه
فإذا هو عبارة عن تسليم بعض الحدود الخارجية عن منطقة أدرنة وتسليم
بعض الجزر، والرجاء من الدول بالاكتفاء بهذا وصرف النظر عن مطالبهن،
فجعلت الوزارة اللاحقة تحاول تعديل جزء يسير من هذا فلم تجد إليه سبيلاً،
ولا عليه معينًا، فاضطرت فيما سمعناه إلى تقريره بعينه، وستقدم الجواب اليوم أو
غدًا [١] .
أما صدى هذه الحركة في الجيش فالمسموع أنه صدى سيئ، وأن
العسكر في جتالجه منقسمون، وبعضهم يريد الزحف على الآستانة لتأديب
القائمين بها، وبعضهم يطالب بدم ناظم باشا، وبعضهم فر من الجيش إلى
جيش البلغار، وأما الولايات فلم يرد منها إلا التقبيح لهذا العمل ورفض
الاعتراف بالوزارة الجديدة فيما سمعنا، حتى قيل: إن ولاية البصرة عازمة
على طرد الأتراك من بلادها وإعلان الاستقلال، وعلمت أن تلغرافًا ورد
طالب بك يتضمن هذا أو نحوه، وأن تلغرافات وردت من بيروت والقدس
بالرفض أيضًا [٢] .
أما التهاني التي وردت من بعض أقضية الأناضول ونشرتها الجرائد فهي
خافتة الصوت ظاهر عليها أثر التصنيع، وأول ما درج منها تلغراف من
رئيس الحمالين في أزمير يهنئ الوزارة، ويذكر أن لديه عددًا كبيرًا من
عربات النقل مستعدة لخدمة الحكومة في الحرب التي تنوي استئنافها لتخليص
الوطن! وعلمت من ثقة أن أول عمل قررته الوزارة: إعادة المجلس المنحل
ودعوة المبعوثين؛ لأنها لا تعتبر ذلك الفسخ قانونيًّا؛ ولم ينشر في الجرائد
تصريح بذلك، أما تلميحًا فقد نشر، والجرائد لا تذكر واحدًا من هؤلاء
المبعوثين باسم مبعوث سابق، بل تطلق كلمة مبعوث إطلاقًا، وبالجملة فكل
ما نراه ونسمعه هو من آيات الانتحار والانقراض، ولا ندري ماذا يكون شأن
بلادنا، وماذا يعمل زعماؤها وكيف السبيل إلى النجاة. انتهى بنصه.
ونشر المؤيد في العدد الصادر أمس (يوم الأربعاء ٢٨ صفر سنة
١٣٣١ و٥ فبراير سنة ١٩١٣) رسالة قال: إنه تلقاها عن أوثق المصادر
جاء فيها ما نصه:
بينما كانت الوزارة الكاملية مجتمعة في الباب العالي بعد ظهر أول أمس
(أي: يوم الخميس ٢٣ يناير) للمداولة في الجواب المزمع إرساله إلى سفراء
الدول بشأن مسألة أدرنة والجزر؛ إذ أقبل نحو الباب العالي زمرة من
الاتحاديين وأتباعهم يحملون أعلام الجمعية، وكانت الساعة الثالثة زوالية، وفي
مقدمة الجميع القائمقام أنور بك، والميرالاي جمال بك وهو والي بغداد السابق،
والبكباشي إسماعيل حقي بك وهو والي بتليس السابق، وعمر ناجي بك مبعوث
قرق كليسا السابق وممتاز المتهم بقتل المرحوم زكي بك وتحسين بك صاحب
جريدة سلاح، ومصطفى نجيب الذي لقي حتفه في هذه الفتنة، وبعض المنتمين
للهلال الأحمر الهندي والهلال المصري من الهنود والمصريين (وهؤلاء انضموا إلى
المتظاهرين في الآخر) وقسم كبير من المشايخ صنائع الاتحاديين يهللون
ويكبرون.
ثم دخل أنور بك ورفقاؤه المذكورون إلى رحبة الصدارة وحاولوا الولوج
إلى الغرفة التي يجتمع فيها الوكلاء فعارضهم نافذ بك ياور الصدر الأعظم،
وتوفيق بك ياور ناظم باشا، وجلال أفندي البوليس الملكي الذي يمشي بمعية
سماحة جمال أفندي شيخ الإسلام، وكان هؤلاء الحجاب محقين بمنع هؤلاء
الجماعة من الدخول على مجلس الوكلاء في ساعة انعقاده؛ لأنهم مأمورون
بذلك قانونًا، وهم قاموا بوظيفتهم التي ينبغي أن تكون محترمة عند الجميع.
ولكن أنور بك وجماعته هجموا بالقوة وقتلوا برصاص المسدس المرحومَ
نافذ بك ياور الصدارة، فأصيب في جنبه وهجموا على الحاجبين الآخرين
بالمُدى والخناجر التي كانوا خبأوها تحت ثيابهم، وكان الحاجبان يدافعان عن
حياتهما، وعن باب مجلس الوكلاء بمسدسين كانا معهما.
أما ناظم باشا فقد أقلقه انطلاق الرصاص داخل الباب العالي، وعلى باب
مجلس الوكلاء، وكذلك قلق سائر الوزراء فخرج ناظم باشا من الباب وقبل أن
يسمعوا كلامه أو يفهم مرادهم أطلق عليه مصطفى نجيب رصاصة، وقيل بل
الذي بدأ بإطلاق الرصاص عليه هو أنور بك ونسب ذلك إلى مصطفى نجيب
لأنه مات فيما بعد، ثم انهمر الرصاص على ناظر الحربية من الآخرين
فأصيب برصاصة في صدغه وأخرى تحت عينه اليسرى ومات فأقبلوا على
جثته يطعنونها بالخناجر والمُدى.
وكان الياور توفيق بك إلى ذلك الحين يطلق الرصاص في الفضاء إرهابًا
لهؤلاء الجماعة، فلما رأى جثة وزير الحربية ملقاة على الأرض ملطخة
بالدماء لم يملك عواطفه، مع ما أصابه من جروح، فقتل مصطفى نجيب
بالرصاص.
وبعد قتل ناظم باشا تحول رصاص القوم على توفيق بك وبوليس شيخ
الإسلام، وعلى اثنين من خدمة الباب العالي فقتلوا جميعًا.
وبعد هذه المعركة دخل أنور بك وجمال بك على الصدر الأعظم وطلب
منه الأول أن يستقيل فأجابه إلى ما أراد وكتب كتاب الاستقالة، وسلمه إلى
أنور بك فخرج هذا بها إلى جماعته الذين ينتظرونه في الخارج أمام الباب
العالي، وكان عددهم إلى تلك الساعة لم يزد على مائة شخص فبشرهم
باستقالة كامل باشا، وقال لهم: لا تفارقوا باب الباب العالي حتى أعود إليكم
من القصر السلطاني بتعيين وزارة أخرى.
وذهب إلى سراي طولمه بغجه راكبًا أوتومبيلاً فقابل جلالة السلطان
وأخذ منه الإرادة السنية في الحال بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم،
وطلعت بك وكيلاً لنظارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان
ينتظران مع آخرين عند سراي طولمه بغجه، ثم صحب أنور بك محمود
شوكت باشا وطلعت بك وجاء بهما إلى الباب العالي فاستقبلهم الواقفون هناك
بالتصفيق والهتاف وتلي الفرمان السلطاني على المتجمهرين، وبعد ذلك خطب
محمود شوكت باشا فقال:
(إني قبلت هذا المنصب وأنا على علم بحرج الموقف، وإني واثق بالله
أن يوفقني إلى خدمة الوطن) .
ثم طلب من المتظاهرين أن يتفرقوا فذهبوا من الباب العالي إلى حزب
الحرية والائتلاف فنهبوه، وأخذوا أوراقه ودفاتره وحطموا زجاج كل نوافذه.
ومن الغريب في هذا الحادث أن الجنود الذين من وظيفتهم أن يوجدوا في
الباب العالي أرادوا أن يمنعوا أنور بك وجماعته من الدخول فسألهم أنور بك:
ألستم تعرفونني؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تثقون بي؟ قالوا: بلى. قال: إذن
فأفسحوا لي الطريق؛ فإني ما جئت إلا لأنقذ الوطن؛ وعقولكم لا تدرك مثل
هذه الأمور. نعم عقولهم لا تدرك مثل هذه الأمور، ولكن الذي كان يجب عليهم أن
يدركوه هو اتباع أوامر ضباطهم فلم يفعلوا. وهكذا تركوا رجال المظاهرة يفعلون ما
سبقت الإشارة إليه.
وعند دخول أنور بك كان منتبهًا إلى أنه ربما استدعيت الجنود بواسطة
أسلاك التلفون والتلغراف فقطعها كلها.
ومما انتبه الاتحاديون له قبل وقوع الحادث أنهم أمروا الضًّباط المنتسبين
إلى جمعيتهم فأخذوا الألايات الحميدية إلى الجسر الجديد الذي بين السركه جي
وغلطه فقطعوا الصلة بين شطري العاصمة.
وكانوا قد طبعوا من قبل منشورًا يتقربون به إلى الأمة بما آنسوه من
شعورها بعواطف الاستياء من التنازل عن بعض أدرنة والجزر مع أنه لو
كشف الله للناس عن قلوب بعضهم في هذه الأزمة لعلموا من هو المسيء أكثر
ومن هو المخلص أكثر، ومن الذي يتخذ العواطف ذريعة لأغراضه.
وأغرب ما في الأمر أن هذا المنشور الذي طبع من قبل جاء فيه أن
الوزارة استقالت، مع أنه كتب وطبع قبل حدوث كل شيء، وقبل أن يخطر
على بال الوزارة أن تستقيل بهذه الصورة. ولكنها فتنة دبرت بليل.
في اليوم الثاني كانت قد أقفلت جريدة أقدام وجريدة علمدار وجريدة بني
غزته، وقام أمامها من رجال البوليس، وقبل ذلك - أي في الليل - ألقي القبض
في مطعم طوقاتليان على علي كمال بك رئيس تحرير أقدام، وإسماعيل حقي
بك مبعوث كوملجنة السابق، ونور الدين بك المدير المسئول لجريدة أقدام،
والدكتور رضا نور بك والدكتور رضا توفيق بك وغيرهم فسجنوا جميعًا.
أما رشيد بك ناظر الداخلية السابق وعبد الرحمن بك ناظر المالية
السابق فقد سجنا في دائرة برنجي قول أوردو ولا يزال البحث جاريًا عن
المعارضين.
والاعتقاد سائد هنا (أي في الآستانة) أنه لولا طيب قلب ناظم باشا
ورشيد بك لما حصل شيء من هذه الفتنة.
ويقال: إنه مما قرر أثناء ترتيب الفتنة أن يعين نسيم ماصلياح اليهودي
وكيل الجمعية الصهيونية ناظرًا للتجارة بدلا من جلال بك ويرسل جلال بك
واليا على أزمير، وجاويد بك يعين وزيرًا للمالية.
أما باتزاريا الذي عين ناظرا للنافعة (الأشغال) فهو فلاخي، وكان
رئيسًا لتحرير (جون ترك) التي تصدر بأموال اليهود الصهيونيين اهـ.
***
الانقلاب الخامس ...
مقدماته، تفاصيله، نتائجه

ونشرت جريدة الأهرام تحت هذا العنوان (في عدد ١٠٦١٨) رسالة
من الآستانة هذا نصها:
برح مراسلكم الخصوصي فروق إلى مكان أجهله فسألني قبل سفره
مراسلة الأهرام في مدة غيابه نظرًا لما بيننا من صلات المحبة والوداد فوعدته
خيرًا، ولقد كنت أود لو أن لي قلمًا كقلمه يصف لكم الحوادث والأشياء، إلا
أن ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، فأنا أصف لكم ما رأيناه ومر أمام ناظرنا
ببساطة العامي؛ لعلمي أن الحقيقة جميلة بنفسها لا تحتاج إلى بلاغة إنشاء. ففي
جمالها ما يغني عن البلاغة.
إذا كان في العالم كله شعب يصح به قول الشاعر:
وصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت االنصال على النصال ...
فهذا الشعب هو ولا شك الشعب العثماني الساكت النائم على الضيم المغلوب
على أمره، فلقد أخذت النوائب ترشقه بسهامها منذ عامين أو أكثر فقتلت أولاده في
حروب طرابلس الغرب والروملى، ورملت نساءه ويتمت أطفاله، وخربت
تجارته وهدمت دياره وأحرقت مزارعه وأخرجت الحكم من يده إلى يد عدوه،
فبلاد الرومل اليوم ديار خربة لا تصلح لشيء، يحرق العدو فيها ديار المسلمين،
ويحرق المسلمون فيها قرى أعدائهم، وهكذا دواليك.
منذ أربعة أعوم قلب الجيش حكم عبد الحميد، وأنشأوا حكومة دستورية،
ثم قام الجيش فقلب تلك الحكومة، ثم قام رجال تلك الحكومة فقلبوا بعض توابير
ذاك الجيش، ثم عاد ضباط الجيش الكرة الرابعة منذ شهور وقلبوا ذاك
الحكم. فقام الاتحاديون اليوم وقلبوا حكومة ذاك الجيش وهي خامس ثورة
حدثت في أربعة أعوام في سبيل القبض على الحكومة ليس غير.
(قبل الانقلاب)
برح أنور بك بنغازي بطلب من جمعية الاتحاد والترقي، فلما وصل
الآستانة قابله رجاله طبعًا ولم يجر له استقبال فخيم كما عوده ذووه فساءه ذلك،
وزاد في استيائه أنه بعد أن وصل قصد نظارة الحربية فدخل على ناظم باشا
فلم يقف له ناظر الحربية بل قابله بصفة عسكرية كفريق وقائمقام عسكري،
وقال له ما خلاصته:
أنا مسرور منك لما بذلته من الهمة والنشاط في بنغازي وأُسَرُّ بوجود
ضابط نشيط مثلك في الجيش؛ غير أنني أفيدك أنني لا أحب أبدًا مداخلة
الضباط في السياسة، ولا أسمح لهم بذلك، فإذا أقسمت لي بأنك لا تتدخل فيها
أبدًا أقسم لك بشرفي أننا نقدر أن نقضي العمر معًا. فأقسم له أنور بك بشرفه
العسكري أنه لا يتداخل في السياسة وخرج من حضرته وفي الصدر ما فيه.
كان بين عزت باشا رئيس الأركان وأنور بك صداقة ووداد من قبل، ويظهر
أن عزت باشا لا يميل قلبًا إلى ناظم باشا فعقد مع أنور بك عهدًاٍ، وأخذ الاثنان في
ملاطفة ناظم باشا وإظهار الود له، ومما كانا يقولانه له: اليوم لا توجد جمعيات أبدًا
فلا اتحاد ولا ائتلاف، بل يوجد شرف الجيش العثماني، وإن شاء الله بهمتك يا باشتنا
نعيد هذا الشرف إلى ما كان عليه.
وبرهانا على هذا القول دعوه مرتين إلى تناول الطعام في دار البرنس
سعيد باشا حليم مع رهط الاتحاديين، وتناول الطعام معهم مرة في فندق
توقتليان حتى قال بعضهم: إن ناظم باشا اتفق مع الاتحاديين والتحق بهم.
ولقد بلغ وثوقه حدًّا ما كان يجب له أن يبلغه، فترك أمور الحل والربط في
الجيش لعزت باشا، وأخذ يشتغل هو بأمور الدفاع وغيرها، ولقد كانت هذه
السياسة التي بسطتها توطئة لدور الانقلاب.
(قبل الانقلاب بأيام)
اتصل برشيد بك ناظر الداخلية السابق قبل الانقلاب بأيام خبر ما يهيئه
الاتحاديون من المؤامرات، فأراد أن يقبض على زعمائهم فمنعه ناظم باشا من ذلك
فألح فجاءوا بنصف تابور وأسكنوه في الباب العالي.
(من هم ضباطه)
إن رجال هذه البلوكات الأربعة التي جاءوا بها هي من تابور عشاق. وقد
انتخبوه دون غيره؛ لأن جميع ضباطه من الاتحاديين يقبضون رواتبهم شهريًّا
من صندوق جمعية الاتحاد والترقي، وما خلا هذا فقد أبعدوا جميع الجنود
التي كانت في الآستانة إلى الثكنات البعيدة، فلم يبق في ثكنات الآستانة ذاتها إلا
تابور واحد، نصفه في الباب العالي، والنصف الآخر مستمال بمعدات
الاستمالة، على هذا الشكل تمت مهيئات المؤامرة.
(يوم الانقلاب بالذات)
أعد الاتحاديون أسباب الانقلاب بتمامها، فبعد أن أتموا تهيئة الوسائل
العسكرية التي تقدمت الإشارة إليها هيأوا الأسباب الملكية أيضا فجاءوا بنحو
مائتي شخص من أنديتهم المختلفة ووزعوهم في القهوات الواقعة أمام الباب
العالي التي ظلوا فيها إلى نحو الساعة الثانية بعد الظهر.
وكان طلعت بك يقوم بدور التفتيش بين كل ساعة وأخرى، فيجيء هذه
القهوات مضطربًا ويكلم هذا الشخص أو ذاك، ويهمس لهذا وذاك كلمة في أذنه
ثم يرجع ثم يعود إلى القهوة، ويقول الذين شاهدوه: إنه ذهب ورجع عشر
مرات، وهو على مثل هذا الحال.
وفي الوقت المعين هبَّ هؤلاء الناس من قهوتهم وأخذوا ينسلون عشرات
عشرات ويقفون أمام الباب العالي فلما اجتمع قدر مائة منهم قدم أنور بك على
جواده يحيط به أربعة من الفدائيين وضعوا مسدساتهم تحت ستراتهم إلا أنها
كانت ظاهرة لكبر حجمها.
وكان في هذه الأثناء قد بلغ الوزارة خبر هذا التجمع فخرج ناظم باشا
ليعطي الأمر إلى الجنود الموجودة بتفريق المجتمعين، وقد جاءه ياوره نافذ
بك وأمرهم بذلك.
وبعد دقائق قليلة قدم أنور بك يحيط به جماعته فتظاهر ضباط تابور عشاق
برغبتهم في مخالفته فخطب فيهم قائلا: ألست قائدكم؟ أمَا أنا مسلم مثلكم؟ أمَا أنا
عثماني؟ لماذا تضربون هؤلاء القوم دعوهم وشأنهم.
(دور المشايخ)
وفي هذه الأثناء وقف الشيخ أحمد ماهر وشيخ آخر - في رواية أخرى أنه
موسى كاظم - واعظين في الجند والقوم وأخذا يصيحان: أيها المسلمون استغفروا الله
أيها المسلمون استغفروا الله، الله أكبر، الله أكبر. فيجيبهما الجميع:
أستغفر الله، أستغفر الله.
غرضهم من ذلك كان أنور بك يعلم هو وجماعته أنه لا بد لهم من
إطلاق النار لدخول غرفة اجتماع الوكلاء، فأرادوا بوجود هذه الضوضاء
العلوية أن يُخفوا صوت إطلاق النار عن الواقفين خارجًا، ثانيًا أن يحركوا
العواطف الدينية.
بعد أن دخل أنور بك وفدائيته الباب الخارجي الكبير، وتبعهم بعض
رجال الأندية الاتحادية أقفلوا الباب وراءهم ومنعوا غيرهم من الدخول.
ولما وصلوا إلى الداخل، وطلبوا الدخول إلى غرفة مجلس الوكلاء منعهم
نافذ بك ياور ناظم باشا، فأطلق مصطفى نجيب بك أحد ملازمي الجيش، وكان بثوب
ملكي النار على نافذ بك فلم يُرْدِهِ لأول طلق فأجابه نافذ بك بالمثل فأرداه، وسقط
الاثنان تضرجان بدمائهما فتصدى توفيق بك ياور الصدر وشقيق حرم أدهم بك
والى بيروت لممانعتهم فأردوه على الفور.
فلما سمع ناظم باشا إطلاق النار خرج ليرى الأمر فما فتح الباب حتى
كان قد عاجله أحد الفدائية برصاصتين ذهبتا بحياته حالاً فوقع إلى الأرض يتضرج
بدمه الذي ذهب ثمن غفلته وإهماله [٣] .
وعلى هذه الصورة، وفي هذا الشكل دخل هذا الجمع مجلس الوكلاء وكانت
في يد أنور بك عريضة الاستقالة، فقبض على المسدس بيد وبسط العريضة
بالأخرى لكامل باشا قائلاً: وقع على هذه العريضة حالاً فالأمة لا ترضى بوزارتكم.
ثم أشار إلى بعض رجاله بعدم السماح لأحد بالخروج ولا لأحد من الخارج بالدخول.
جرى كل ذلك، والناس في الخارج يهللون ويكبرون وهم لا يعلمون ما
جرى داخلاً فركب أنور بك سيارة كانت معدة له، وقصد السراي السلطانية -
وكان قد احتاط بها مئات من الناس أيضا - يحمل الأمر بتعيين محمود شوكت
باشا صدرًا أعظم.
(في السراي)
لا يعلم الناس ما الذي جرى في السراي إلا أنهم يعلمون أن أنور بك دخل
وخرج بالأمر موقعًا عليه، وقد اختلفوا كثيرًا في الرواية، فلندع للتاريخ التمحيص.
وعاد أنور بك بأمر تعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم، فاستلم على
الفور طلعت بك نظارة الداخلية.
ووقف الخطباء يعددون مساوئ كامل باشا وخيانته ويقولون عنه: إنه
باع طرابلس الغرب والروملي [٤] . أما الخطباء فبعض مشايخ الدين وأفراد من
مهاجري الروملي.
(شكل موظفي الدولة)
قبل أن خرج أنور بك من مكانه الذي كان فيه إلى الباب العالي أعطى
أمرًا إلى أحد أنفار البوليس من الاتحاديين إلى جعفر إلهامي بك مدير البوليس
العام بوجوب تسليم الإدارة إلى عزمي بك المدير السابق؛ فلما أخذ جعفر
إلهامي بك الأمر قبله ووضعه على رأسه، وسلم الإدارة إلى عزمي بك،
ووقف أمامه يسأله ما يريده، فأمر البوليس بأن يقبضوا عليه ويوقفوه ففعلوا.
(التوقيفات)
قبل أن يتلى الأمر بصدارة محمود شوكت باشا كانت التوقيفات قد بدأت
فقبض على أصحاب جريدة علمدار ومحرريها وعلى علي كمال بك المحرر
المعروف وإسماعيل بك مبعوث كوملجنه وعلى نور الدين بك مدير أقدام وغيرهم.
وفي الوقت الذي ذهب فيه أناس إلى الباب العالي وآخرون إلى نظارة
البوليس، ذهب فريق إلى مكان المحكمة العرفية، فأفهموا ضابطها أن الأمة في
غير حاجة إليهم وطردوهم من الدار التي كانوا فيها وأخذوا مفتاحها، فخرجوا
لا يبدون مقاومة ولا يفوهون بكلمة.
(الخط الهمايوني)
قلت لكم: إن أنور بك ذهب إلى السراي مساء يوم الخميس، ورجع
بالخط السلطاني القاضي بإسناد منصب الصدارة إلى محمود شوكت باشا
وإليكم تعريبه:
وزيري سمير المعالي محمود شوكت باشا:
بناء على استعفاء كامل باشا ولأهمية الموقع التي تستغني عن الإيضاح
رأينا توجيه مسند الصدارة إلى رجل مجرب الاقتدار؛ ولما كان اقتداركم
وكفاءتكم معلومين ومجربين لدينا؛ وجهنا إليكم منصب الصدارة مع رتبة
الوزارة والمشيرية السامية، ونحن متفكرون في انتخاب ذات لمسند المشيخة
الإسلامية، وقد صدرت لكم الإرادة بتشكيل الوزارة وعرضها علينا لتصديقها،
وفقكم الله للخير، آمين بحرمة سيد المرسلين.
١٥ صفر ٣٣١ و ١٠ كانون ثاني ٣٢٨ ... ... ... محمد رشاد
(نشرة الداخلية)
وما كاد يستلم طلعت بك نظارة الداخلية بالوكالة حتى طير النشرة الآتية
إلى الولايات والملحقات، وإليكم تعريبها:
(لما كانت وزارة كامل باشا قد تجاوزت على حقوق الأمة فتركت
للأعداء ولاية أدرنة كلها، وجزر بحر سفيد، وجمعت في السراي السلطانية
مجلس مشورة من أعضاء مجلس شورى الدولة ورؤساء الموظفين دعته
المجلس الملي - ثار الشعب وأصبح في حال الغليان فقام بمظاهرة أمام الباب
العالي أدت إلى استعفاء الوزارة، فصدرت إليَّ الإدارة السنية بإدارة أمور
نظارة الداخلية بالوكالة إلى أن تعين الوزارة، وباشرت الأمر مستعينًا بقوته
تعالى، ولما كنا سندافع بكمال العزم عن حقوق السلطنة المقدسة، وبناء على
احتمال رجوع الحرب نوصيكم بتشويق الأهالي بمساعدة الحكومة ماديًّا
ومعنويًّا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طلعت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(المنشورات الأخرى)
ولقد نشرت الجمعية منشورات أخرى وزعتها على أفراد الشعب يضيق
نطاق هذه الرسالة عن تعريبها؛ سأعود إليها في رسالة أخرى بإذن الله.
(العزل والنصب)
ما كادت الوزارة الجديدة تصل إلى مقام السلطة حتى أخذت في عزل بعض
القواد كمحافظ موقع الآستانة وغيره ومتصرف بك أوغلي واستخلافهم بغيرهم.
(الضباط)
حالة الضباط اليوم غير معلومة، في الآستانة ثلاثة أحزاب: حزب
محمود شوكت، وحزب ناظم باشا، وحزب الخلاصكاران الذي عمل الانقلاب
السابق، ويقولون: إن الخلاصكاريين وجماعة ناظم باشا اتفقوا على الاتحاديين،
فحال الجيش المعنوية الآن ضعيفة جدًّا، وانظر بمزيد الخوف والقلق إلى المستقبل.
(عدد القتلى)
يبلغ عدد القتلى المعروفين أربعة: هم ناظر باشا، ونافذ بك، وتوفيق
بك، ومصطفى نجيب بك، ويوجد عدد من القتلى والجرحى من أنفار الجند لم
تعلم أسماؤهم إلى الآن.
(جنازة ناظم باشا)
حمل رفات ناظم باشا إلى مستشفى كلخانه فبقيت فيها إلى يوم الجمعة
حيث خرجت جنازتها ودفنت في تربة السليمانية، وقد مشى في الجنازة بلوك
من الجند احترامًا لملحقي الدول العسكريين الذين خفروا الجنازة، ومشى
وراءها محمود شوكت وهادي باشا باكيًا يمسح دموعه وعزت باشا وأنور
بك.
(مصطفى نجيب بك)
خرجت جنازته من كلوب نور عثمانية الاتحادي ودفن بإرادة سنية في
الفاتح إلى جانب السلطان محمد الفاتح وجرى له احتفال عظيم جدًّا.
***
الوزارة الجديدة وصفات رجالها [٥]
محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية، معروف
شيخ الإسلام محمد أسعد أفندي - كان أمينًا للفتوى، وهو من أعظم رهطهم.
الحاج عادل بك ناظر الداخلية - معروف.
بساريا أفندي ناظر النافعة - فلاخي من الأعيان كان رئيس تحرير
جون تورك، ومراقبًا على ما يكتب فيها من قبل الجمعية، وجون تورك
جريدة صهيونية. وقد ذهب كل الفلاخ من يد الدولة مع ولاية يانبا والروملي
وإنما بقي لنا منهم بحمد الله هذا الناظر.
رفعت بك ناظر المالية - منتظر قدوم جاويد بك يوم الإثنين؛ ليفرغ له
المنصب فهو وكيل مسخر.
شكري بك ناظر المعارف - فدائي للجمعية وهو المتهم بقتل أول قتيل قتل
بأمرها في سرس.
البرنس سعيد حليم باشا ناظر الخارجية - معروف [٦] .
إبراهيم بك ناظر العدلية - والي الآستانة سابقًا.
نسيم مازلياح ناظر التجارة والزراعة - مبعوث أزمير الإسرائيلي
سابقًا، ومفوض الجمعية الصهيونية.
محمود جوروك صول ناظر البحرية - من أركانهم، يقال: إنه كان خلف
عبد الله باشا في قيادة الجيش.
أوسقان أفندي - كان منذ ٥ سنوات كاتبًا في البالفخانة دار بيع السمك
من قِبل نظارة الديون العمومية، براتب ١٤٠٠ قرش، ثم أرسل مفتشًا ماليًّا
إلى الروملي، وأصبح ناظر البوسته اليوم.
ففي الوزارة ٣ وكلاء من قبل الجمعية الصهيونية: نسيم مازلياح، وجاويد
بك، وبساريا أفندي؛ أما العرب فلا يوجد لهم فيها ولا رجل واحد. وهذا
معقول مفهوم؛ لأنه لا يوجد عرب في البلاد العثمانية.
في سوريا عين علي ضيف بك واليًا لحلب وعارف بك المارديني واليًا
لسوريا، وستعلن الأحكام العرفية في كل البلاد السورية؛ وسيقال عند سفرهما:
إنهما مأموران بإجراء الإصلاح كي لا يلقيا مقاومة عند وصولهما وسيسافران يوم
الجمعة القادم في الفرنسوي إلى بيروت.
(رأي المنار في هذه الكارثة)
يرى القراء أن رواية رسالتنا وروايتي المؤيد والأهرام يؤيد بعضها
بعضًا.
وكتب إلى المقطم من لندن ومن الآستانة ما يؤيد ذلك كما أيدته الجرائد
الأوربية في جملته، ولا خلاف إلا في بعض التفصيلات الجزئية كالخلاف في
قاتل ناظم باشا، وسمعنا من بعض من غادروا الآستانة بعد الانقلاب أن الذي
قتل ناظم باشا هو أنور نفسه، وهو لم ينكث عهد العرب في درنه ويجيء
الآستانة إلا لأجل هذه المكيدة، وكنا سمعنا من أهل الخبرة بدخائل السياسة أن
الاتحاديين لا يرون لهم خصمًا قويًّا يعارضهم في جعل الضباط آلة سياسية
ثوروية بأيديهم إلا ناظم باشا وصادق بك (أمير الألاي الذي قام بالانقلاب
الأول) وأن قتل هذين الرجلين مقرر عندهم.
وقد حاولوا قتل صادق بك عقب هذه الثورة فتوارى، وكانوا يريدون قتل
جميع خصومهم المشهورين؛ فلما علم سفراء الدول بعزمهم هددوا وزارتهم
هذه بأنهم ينزلون جيشًا أجنبيًّا يتولى حفظ الأمن في العاصمة؛ فكفوا عما
كانوا شرعوا فيه.
وزارة كامل باشا:
أما كامل باشا وهو الرجل السياسي المحنك المنفرد بخبرته وقدرته
ونزاهته وشجاعته فكان من رأيه أولاً عدم الحرب، وكان رأي الاتحاديين
وجوب الحرب؛ ثم لما وقع الخذلان والانكسار في الجيش، واستقالت وزارة
أحمد مختار باشا قَبِلَ الوزارة مروءة منه في ذلك الوقت الحرج، وأي حرج
وخطر أكبر من انكسار الجيش ووصول العدو إلى ضواحي العاصمة في وقت
فرغت فيه الخزينة من المال وأعرضت عنها جميع الدول، بل صارت تتحدث
بقسمة سائر بلادها، وهل كان يمكن إنقاذ الدولة من السقوط في الهاوية في
هذه الحال إلا اقتراح الهدنة لأجل الصلح، واستمالة الدول لكف عدوانها
والتماس مساعدتها المالية والأدبية بقدر الإمكان، كلا إن هذا هو أقصى ما
كان يمكن أن يناله الحاذق الماهر في السياسة، وهو ما عني بالوصول إليه
كامل باشا، على أنه لم يقصر في أثناء الهدنة فيما يجب من الاستعداد الحربي
فهو قد فوَّض ذلك إلى ناظم باشا الذي هو أعلم قواد الدولة بالفنون العسكرية
وأقدرهم على العمل، نعم إن هذه الوزارة قد قصرت تقصيرًا داخليًّا صدق
عليها قول خصومها: إنها ضعيفة، وكذب قولهم: إنها منتقمة، وهو التقصير
في تربية زعماء الثورات والفتن والقتلة، وقد لقيت جزاءها على ذلك، والظالم
سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه.
لما بيَّن البلقانيون مطالبهم، وكان منها أدرنة وجزائر البحر الأبيض
قاوم كامل باشا في ذلك، وكبَّر أمر أدرنة وعظَّمه حتى جعلها كأنها حياة
الدولة الصورية والمعنوية وسياج المملكة كلها؛ لعلها تسلم للدولة. فلما قدمت
له الدول الكبرى ذلك الإنذار بوجوب جعلها للبلغار لم يقبل أن يستقل بذلك دون
استشارة أهل الحل والعقد في العاصمة فجمع الجمعية الملية في حضرة
السلطان، فكانت مؤلفة من أفراد الأسرة المالكة ووزراء الدولة الحاليين
والسابقين وأعضاء مجلس الأعيان وكبار العلماء وأمراء العسكرية، وهذه هي
الاستشارة الشرعية التي يوجبها الشرع الإسلامي، ويهزأ بها الاتحاديون
ويعدونها من الجرائم.
ولما قررت هذه الجمعية في القصر السلطاني ترجيح الصلح وتفويض
الأمر فيه إلى الوزارة، ولم تبالِ بالإصرار على أدرنة في سبيل مغاضبة
الدول الكبرى في هذه الأزمة السياسية والعسرة المالية، اجتمعت وزارة كامل
باشا لوضع جواب للدول تشترط فيه شروطًا تتعلق بأمن الدولة على باقي
بلادها ومساعدة الدول الملية والأدبية لها لتلم شعثها. وهذا كل ما يدخل في
الإمكان، ولكن عاجلها الاتحاديون بالثورة لإسقاطها بشبهة واهية كما ظهر
ذلك للعيان.
(مخادعة الاتحاديين للأمة)
لا يزال الاتحاديون وكتابهم الأجراء والمنافقون يوهمون الأمة العثمانية
بل الإسلامية أن الاتحاديين لم يقوموا بهذه الثورة إلا لأجل إعادة الحرب؛ لإعادة
شرف الجيش وإظهار قوته واستعادة أدرنة، سياج الدولة والحافظة لها من
الزوال.
كذب المنافقون؛ فإن سادتهم زعماء جمعية الأحمرين ومدبري الثورات
والفتن قد صرحوا في أوربة بأنهم يريدون السلم لا الحرب، وصرح محمود
شوكت باشا بمثل ذلك رسميًّا، ولم يستطع أن يبرر الثورة التي جاءت
بوزارته إلا بطلب شِق من مدينة أدرنة لدولته وإعطاء الشق الآخر للبلغار،
وهو خير الشقين عمرانًا، فهل هذا هو الذي يعود به شرف الجيش ومجده
وتحفظ به المملكة من الزوال؟
إن وجود أدرنة بحصونها التي عني بها السلطان عبد الحميد وزادها ناظم
باشا تحصينًا، لم يدفع جيش البلغار عن الوصول إلى ضواحي الآستانة، فهل يحفظ
لنا نصفها الآهل بالقبور ولايات الأناضول والعراق وسورية وجزيرة العرب بعد
أن ذهبت ولايات أوربة كلها من أيدينا، بجهل المفتاتين على الدولة وخيانتهم
وفسادهم؟
(مقصد الاتحاديين من الثورة)
قد عرف الخاص والعام أن الاتحاديين قد دبروا ثورتهم لأجل أن
يستعيدوا السلطة لأنفسهم، فكان من دسائسهم التحريض على الحرب قبل
وقوعها، والدولة غير مستعدة لها، ليجدوا من ذلك منفذًا لاستعادة السلطة،
ثم إن بعض زعمائهم كطلعت بك وجاويد بك نظموا أنفسهم في سلك
المتطوعين؛ ليبثوا دسائسهم في الجيش ويخذلوه وقد فعلوا، ثم لما عقدت
الهدنة صاروا يظهرون المعارضة في الصلح ويهيجوا الناس لطلب ذلك، فلما
صار الأمر إليهم صرحوا بأنهم يريدون الصلح والسلم دون القتال، فما هو
غرضهم إذًا؟ إن اعتقادنا الذي ما كاشفنا به عثمانيًّا عارفًا إلا ووافقنا فيه هو
أنهم لم يفعلوا فعلتهم ويكيدوا مكيدتهم إلا لأجل الذهب، وكنت منذ شهور
أصرح بتوقع ذلك، وأقول: إنهم إذا عادوا يبيعون بلادنا، ويسلبوننا هذه البقية
التي في أيدينا بتدبير اليهود الصهيونيين الذين يدبرون جمعيتهم كما يريدون،
وكيف ذلك؟
طرق استنزاف المال من الدولة لا تزال كثيرة، فمنها الإعانات
والضرائب الحربية والملية سواء سميت اختيارية أو إجبارية، ومنها
القرض الداخلي وهو من الضرائب، ولكن تختلف الأسماء، ومنها القراطيس
المالية يسلبون بها الذهب والفضة من البلاد، فلا يبقى في أيدي الناس إلا
أوراق لا يمكن أن ينال أحد رغيفًا واحدًا بورقة منها، وإن كان ثمنها مائة
ليرة، ومنها ذخائر السلاطين وجواريهم، وقد بلغنا أنهم مدوا أيديهم إليها
عندما هاجمت إيطالية الدردنيل فوضعوها في صناديق لأجل تهريبها:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيًرا ولا تسأل عن الخبر
ومنها بيع مزارع السلطان عبد الحميد لليهود الصهيونيين، ومنها
الامتيازات الزراعية والصناعية والتجارية، وما فيها من السمسرة وغير
السمسرة.
ولم تكد الوزارة الجديدة تتبوأ مقعدها من الباب العالي حتى أعطت شركة
ألمانية امتيازًا بخط ترام واسع من الآستانة إلى البوسفور.
ومما جاء مصدقا لسوء ظننا في الجمعية أنها جعلت في وزارتها الجديدة
ثلاثة وزراء من حزب اليهود الصهيونيين، وجعلت في أيديهم نظارة النافعة
ونظارة الزراعة والتجارة أي ينابيع الثروة في البلاد، وسيكون هذا مبدأ
عداوة بين اليهود والعرب، ربما أدى إلى سفك الدماء وتخريب كل ما يملك
اليهود بهذه الوسائل الاتحادية غير الشرعية.
فالواجب على الأمة أن تتفكر وتتدبر في الهاوية التي أمامها، وأن تحافظ
على هذا الذماء القليل الذي بقي لها من ثروتها، وأن تعلم أن النقدين الذهب
والفضة إن ذهبا من يدها فإنها ستقع في مجاعة عامة، تفضي إلى ثورة طامة،
تهلك الحرث والنسل، فلا تخدعنها وعود المحتالين، ولا زخرف كتابها
المنافقين، التي يموهونها باسم الدولة والدين، وليعلم أهل كل ولاية أنهم على
خطر احتلال الأجانب لبلادهم، وأن أدرنة إن بقيت للاتحاديين - وهي وطن
زعيمهم الثوري طلعت - فإنها لا تغني في الدفاع عن بلادنا شيئًا، وإذا أصبحت
البلاد خاوية من المال، فلا تقدر على الدفاع بالرجال، بل تقع في خزي ونكال
وسوء مآل، لا ينفع معهما احتيال، والعياذ بالله.