للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي


الفهم والتفاهم
كنا نود أن لا يأتي الزمان شاهدًا بليغًا بصحة ما كنا نقول ونصف من
مضارِّ الابتعاد عن الفهم والتفاهم، أمَا وقد أتى الزمان بهذه الشهادة التي
سمعتها كل أذن، فنحن غير ضانِّين بإعادة التذكير علَّ الحياة التي يرجى
شيء منها لقومنا في الأيام الآتية تكون في تقويم أحسن وشكل أمتن.
عهِدنا القومَ يقولون: نحن نؤمن أن البارئ عز وجل قد أكرمنا بهداية
عظيمة، ولكنا لا نفهمها إلا بواسطة فلان وفلان، ولتعدد الذين هم أئمة
ومقتدَون لهم رأيناهم متباغضين أشد التباغض، ومتنافرين أشد التنافر، وما
ذلك إلا لأن فهم الإمام فلان قد خالف فهم الإمام فلان؛ ولكل منهم إمام معلوم،
وأعظم هذا الافتراق قد وقع بين الذين يسمون الشيعة وبين الذين يسمون
السُّنية، ولم ينمُ ويترعرع ذلك بين هاتين الفئتين الكبيرتين إلا بسبب عدم
التفاهم، ولم يبعدهم عن التفاهم إلا قول كل واحد من كل فريق منهم: نحن لا
نفهم. فلست أدري اليوم - من بعد أن رأوا ما نزل بساحتهم - أيبقى باب
الفهم والتفاهم مسدودًا فيما بينهم، أم يتشاءمون بذلك السد ويرجون ما ترجوه
الأمم الفاهمة من فوائد الفهم والتفاهم.
نعم لست أدري أيبقون مصرين على سد ذلك الباب، وإن أصبح البيت
خرابًا أم يلهمهم الله معرفة أن الفهم والتفاهم ليسا بمحالين كما ظنوا؟ وكذلك
لست أدري ما هي الفوائد التي ينتظرونها من ذلك السد بعد أن أدى الافتراق
والابتعاد عن الفهم إلى ما صار إليه هؤلاء المفترقون الذين يقولون: نحن أهل
ملة واحدة؛ وما أدراك ما صار إليه هؤلاء أجمعون؟ إنهم صاروا إلى أسوأ
ما تصير إليه الأمم.
نحن لا نقصد بهذا تقريعًا، ولا نرمي به إلى وقيعة، غفرانك اللهم إن
علق شيء من هذا بنيتنا، أو مر بخاطرنا، كلا بل ليس قصدنا إلا التذكير وما
نحن بناسين ولله الحمد ما للناس من العذر في ذلك الموقف الذي وقفوه قرونًا
متطاولة، نعني به موقف الاقتداء بالآباء والجدود فيما تعلقوا به من تقديس
فُهُومِ بعض المتقدمين، والتبرؤ من فهومهم أنفسهم، فإن استعداد أكثر الناس
آخِذٌ بهم إلى مثل هذا.
إي والله إنما نقصد التذكير لا التقريع، ولكي نزيد هذا تأكيدًا نصف ههنا
كيف يخلص التقليد إلى أكثر النفوس، وكيف يخلص منه بعضها، فاقرأه أيها
الأخ وأنت ذاكر سنن ربك عز وجل، تخرج منه إلى ثمرة عظيمة النفع إن شاء
الله تعالى.
كان الناس أمة واحدة في أوائل أمرهم فما لبثوا أن أتت عليهم المفرقات
فأصبحوا أممًا في الأوطار والأفكار، كما صاروا أمما في الأوطان والديار،
وأعظم ما طرأ عليهم من المفرقات هو الفضل الذي يوجد في علوم بعضهم
على علوم الآخرين، ولو شاء الله تعالى أن يكونوا جماعة واحدة فحسب
لفطرهم على نحو ما فطر سائر أنواع الحيوان من تساوي أفراد كل نوع منها
في المدارك تقريبًا، أمَا وقد جعل الفاطر عز وجل بين أفراد النوع الإنساني
هذا التباين العظيم في الإدراك والإجادة؛ فإننا نفهم حينئذ أنه سبحانه قد قضى
أن لا يكون الناس أمة واحدة، فكانوا على ما نراهم عليه أممًا وجماعات؛ ولله
سبحانه الحكمة البالغة، على أنه قد لطف بعباده فخلق لهم مع أسباب التفريق
أسباب الجمع، وكما جعل في تفاوت الإدراك شيئًا من الضرر قد جعل فيه
ذروا من النفع، فمن كانت شهوته من فلاسفة الإنسانية أن يكون البشر على
عقل واحد فإنما يتيسر له ذلك بإعدام كل من يخلق في مداركه شيء من
الفضل على مدارك غيره.
أما الذين عافاهم الله تعالى من تلك الشهوة فأولئك يعلمون أن هذا النوع
لم تتمزق أوصاله بتفرعه إلى أمم معدودة محدودة معهودة، كلا، بل بسقت
بذلك دوحته وعظم أصلها، وازدادت قوتها، وأصبحت بحيث لا يضيرها أن
تذبل بعض فروعها.
نعم نعم، قد خلق الفاطر سبحانه أسباب الجمع كما خلق أسباب التفريق
ومن جملة أسباب الاثنين معًا ذلك الاقتداء الذي جعله غريزة في البشر عامة
شديدة الالتصاق، فبما توحيه هذه الغريزة يمشي الملايين من الأبناء والبنات،
على ما عليه مشت الملايين من الآباء والأمهات، ويظلون على ذلك عصورًا
كثيرة من غير ما تغيير ولا تبديل إلا قليلاً لا يكاد يعد مفرقا لشمل هذا الجمع
العظيم، وهكذا يكون شأن سائر الجموع والأمم كما هو مشاهد، وبما خص
به العقل الإنساني الذي جعله الله جوّالاً ولم يوزعه على الأفراد بالسوية، نرى
أنه مهما وقف الاقتداء بملايين من بني آدم عند الحد الذي وقف فيه آباؤهم
يقوم أحيانًا فرد من بين تلك الملايين تتقد فيه جذوة من ذلك المشرق العقلي
وتدفعه إلى التماس ما هو أحسن مما وقفت عنده أمته، وحينئذ يجدهم
معارضين له، فإن نجحوا أخمدوا جذوته، وإن نجح دخل بأمته في خلق
جديد، أو خرج منها بأمة حديثة في الوجود، ولذا لا يمدح الاقتداء من حيث
هو مطلقًا؛ لأنه قد يوقف الأمم وقفة واحدة، ولا يذم مطلقًا؛ لأنه به تتكون
أمم وبه تنتقل في أطوارها، وأنت تراه تارة صديق النوابغ؛ إذ لولاه لما
وجدوا تابعًا ومُظاهرًا، ولولاه لما ظهرت مقادير هممهم عند مقاومة الأجيال
لهم، وطورًا تراه عدوهم؛ إذ لولاه لما وجدوا تلك العقبات الهائلة في سبيل
الإصلاح؛ ولأجل هذا ترى الذين ينظرون إلى الأمور من جهة واحدة منهم
من يحسب فيه كل الفوائد ومنهم من يخال كل المضار فيه.
أما الذين يمعنون النظر في الأشياء ويسلم نظرهم من شوائب الهوى
الخاص، فأولئك يعرفون انقسام أكثر الأشياء إلى أجزاء أو جهات بعضها نافع
وبعضها ضار، ويعرفون المقادير والحدود التي بينها فيعطون كل شيء حقه،
ويذكرون له حدَّه، فإذا مر هؤلاء باقتداء ضارّ ذكّروا بالعقل، وقالوا: إن
الإنسان لا يليق به الجمود، وإذا مروا باقتداء نافع ذكّروا بالفضل الذي جرت
سنة الفاطر أن يمنحه بعض الأفراد ونفّروا من الجحود، ألا ترى القرآن
المجيد كيف يقص من مناقب الأنبياء لأكرم رسله محمد صلى الله عليه وسلم
ثم يقول له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: ٩٠) أََوَلا تراه
كيف عاب على الذين صدفهم اقتداؤهم بآبائهم عن الإيمان بفضل الله تعالى
الذي خص به الأنبياء عليهم السلام؟ وكيف هزَّ عقولهم هزة قوية بقوله:
{َأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: ١٧٠) ؟
هذا وإذ كان المقتدَى الأعظم في الملة الإسلامية هو ذلك الوحي الذي
نزل على محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، كان من شأن الذين يتخذون
مقتدَين آخرين سواه أن يكون ضرر اقتدائهم ذلك أكثر من نفعه؛ لأن
المتمذهب بمذهب رجل من الذين يقال لهم أئمة السنة، إن قال: إن مقتداي رجل
من علماء السلف الأبرار، يجد تجاهه مخالفًا من الذين يقال لهم الشيعة يقول
له: إن مقتداي أيضًا رجل من علماء السلف الأبرار، ولا يستطيع الذي يسمي
نفسه سنيًّا مثلاً أن يقول: إن الإمام جعفر أو الإمام زيدًا رضي الله تعالى
عنهما ليسا من علماء السلف الأبرار، وإنما قصاراه أن يقول: إن هؤلاء
الذين يقال لهم الشيعة ليسوا في الحقيقة على مذهب جعفر أو زيد، وهذا لا
يلتفت إليه الجعفري أو الزيدي، وليس هو من المناظرة القانونية في شيء.
ومن أعجب ما في مضار هذا الافتراق الذي جاء به هذا التقليد أنك
أصبحت ترى جميع أقطاب الأمة وكبار علمائها مرنوا بسببه على اليأس من
الصلح بين هاتين الفئتين الكبيرتين في الأمة حتى كأن هذا الأمر - أي الصلح
بينهما - ليس مما يعني الأمة وليت شعري كيف يتيسر الصلح ما دام باب
التفاهم مسدوداً، وكيف يفتح باب التفاهم ما دام الجماهير جيلاً خلف جيل لا
تجول أفكارهم في مسألة من المسائل ولا يقولون فيها بقول من الأقوال إلا
قول رجل من أولئك الرجال القليلين الذين اتخذوهم مقتدَين، هذا على تسليم
بأن فلانًا وفلانًا الذين يعنونهم لم يُحصِّلوا في فهومهم تلك إلا ظنًّا، وعلى
تسليمهم أن الحق ليس في ظنونهم تلك على وجه اليقين والجزم والتعيين، فإلى
متى يا قوم هذا؟ ومتى تأذنون بفتح باب الفهم والتفاهم؟
عبد الحميد الزهراوي
حاشية للكاتب: إني ألهمت تحرير هذه المقالة على إثر اطلاعي على
كتاب (العلم الشامخ) الذي نشر في هذه الأيام، وإني رأيت أن مطالعته تفيد
كثيرًا في زحزحة مُطَالِعه عما ألفه من التقليد الضار الذي يحول بينه وبين
الفهم والتفاهم ويشوش عليه الإخاء الذي يوجبه الدين، فمن أحب أن ينال حظًّا
من العلم الصحيح فليمر به مرور تدبر واستقلال.