للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

سبب نقل الروايات الموضوعة
(س٩) من صاحب الإمضاء:
حضرة إمام المرشدين، وقدوة العلماء العاملين، من يتلقى سؤال كل سائل
بالقبول والرضا، الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا، أبقاه الله للمسلمين
يداوي كل مرض كان عارضًا، آمين.
ذكرتم في الجزء الثاني من منار هذه السنة تفسير قوله تعالى: {لَكِنِ
الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ
وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: ١٦٢) إلخ، ورأيتكم ذكرتم كما
ذكر غالب المفسرين بإزاء تفسير: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: ١٦٢)
الرواية الموضوعة المنسوبة لعثمان من أن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب
بألسنتها، وذكرتم أيضا أنها موضوعة، وأن السابقين الأولين بعيدون عن ذلك
إلخ. فإذا كانت الآية بريئةً من نسبة هذه الرواية الموضوعة، وكذلك باقي آيات
القرآن قطعًا، فما الداعي لذكر غالب المفسرين لهذه الرواية مع أن القرآن جميعه
بريءٌ منها، فهلا تركوا ذكرها بإزاء تفسير الآية حتى لا يتأتى تشويش فكر
لضعيف.
... ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم محمد عريقات ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... من برنبال غربية
(ج) ما من أمة من الأمم إلا وفيها الصادقون والكاذبون، وما من دين
من الأديان إلا وينتمي إليه المخلصون والمنافقون، وقد كذب الزنادقة وأهل الأهواء
على نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كما كذب أمثالهم على
المسيح وحوراييه وغيرهم من الأنبياء في الأمم السابقة، ولكن المسلمين
امتازوا على جميع الأمم بتمحيص كل ما روي عن نبيهم وعن أصحابه،
وإن لم يكن قول الصحابي برأيه حجة شرعية عندهم، ومن أظهر آيات صدق
أئمة المحدثين أصحاب الجرح والتعديل، وبيان علل الحديث أنهم لم يكتموا شيئًا
مما روي، ولم يُحكِّموا مذاهبهم وآراءهم وأهواءهم في ذلك، بل نظروا في
الرواية نظر المؤرخ العادل، فما ظهر لهم قوة سنده منها صحَّحوه أو حسَّنوه، وما
كان غير ذلك ضعَّفوه أو كذَّبوه، ولم تحملهم صحة المعنى على تصحيح الرواية، ولا
مجرد كون المتن موضعًا للطعن والنقد، على الحكم على سنده بالوضع، بل فصَّلوا
بين نقد المتون ونقد الأسانيد، فعني بهذا أناس وبذاك آخرون، ويقل من جمع
بينهما، فجمعوا لنا كل ما روي وقيل فينا، سواء كانت لنا أو علينا، فأما
المفسرون فمنهم من لا هم له إلا نقل ما يراه في كتب مَن قبله من غير بحث ولا
نقد، ولا تمييز بين ما يصح وما لا يصح لأجل نقده وبيان الحق، ومن هذا
الباب نقلهم لما روي عن عثمان، ومن كان همه النقل فقط لا يخطر بباله ما
يثيره نقله في نفوس القارئين ولا يحفل بذلك.
***
اختلاج الأعضاء
(س١٠) ومنه: ذكر الخوارزمي في كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم)
بابًا لاختلاج الأعضاء جميعها، وقال بأنه إذا اختلج عضو كذا يحصل من الخير
كذا، وإذا اختلج عضو كذا يحصل من الشر كذا، وهكذا إلى آخر الأعضاء ما بين
خير وشر، فهل لهذا الاختلاج من حكم وأصل؟ وإذا قيل بأنه لا أصل له نقول:
قد وجدنا غالب ما ذكره الخوارزمي في باب الاختلاج عند التجارب صحيحًا، فهل
ذلك من الأسباب العادية أم كيف؟ أفيدونا.
(ج) مسألة اختلاج الأعضاء وكونها سببًا للخير والشر ليست دينية ولا
عقلية، وأما التجربة فلا يثبت بها مثل هذا إلا بالاستقراء المطرد، وأنتم تنفون
ذلك بقولكم أنكم وجدتم غالب ما ذكره الخوارزمي في باب اختلاج الأعضاء صحيحًا،
وهذا إثبات لعدم صحة مقابل الغالب، ولا يكفي في الاستقراء تجربة واحد؛ إذ
يتفق أن يحدث له بعد الاختلاج ما لا يحدث لغيره، وما يدريكم لعل غيركم رأى
أكثر ما يقوله أهل هذا الزعم أو كله غير صحيح، ها أنا ذا رأيت في صغري
أرجوزة في دلالة اختلاج أعضاء البدن علق بذهني أبيات منها طالما خطرت
في بالي عند الاختلاج فظهر لي كذب الناظم، منها:
وجفنه الأعلى يرى ما يؤثر ... وفي شماله بكاء يكثر
وجفنه الأسفل صحة الجسد ... وفي شماله بكاء لا يحد
على أن رؤية ما يؤثر أو البكاء بعد الاختلاج قد يكون كثيرًا أو يقع نادرًا
ولا صلة بينه وبين الاختلاج بسببية ولا علية، وصفوة القول في الجواب أن
هذه المسألة وهمية، ومن ظهر له صدق شيء مما قيل كان واهمًا، وكثيرًا ما
يؤثر الاعتقاد في الإنسان تأثيرًا يكون سببًا في حدوث ما يعتقده، فإذا اعتقد
عقب اختلاج جفنه الأيسر أنه لا بد أن يحدث له ما يبكيه لا يلبث أن يبكي مما
لا يبكي منه لولا وهمه هذا.
وكثيرًا ما يرى الإنسان أمرًا حدث عقب أمر فيتوهم أنه سبب له وما هو
في الحقيقة بسبب طبيعي، ومن هنا نشأ التشاؤم والتطير؛ ولذلك جعل علماء
المنطق القضية الشرطية قسمين: حقيقية واتفاقية، فالحقيقية ما كان فيها
المقدم سببًا وعلة للتالي مثل: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود.
والاتفاقية مثل قولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. ومن البديهي أن
نطق الإنسان ليس سببًا لنهيق الحمار. فعليكم أن تتدبروا ذلك.
***
استحلال حكم المَحاكم المُخالف للشرع
والمانع من الحكم بالشرع
(س ١١ و١٢) ومنه: ما حكم المستحل لحكم المَحاكم المخالفة للشرع
المنزَّل، وذلك كمحاكم مصر الأهلية، وهل من مانع من رجوع جميع محاكم
الحكومات الإسلامية للحكم بالشريعة الحنيفية وإقامة الحدود خصوصًا الحكومة
المصرية؟ وإذا لم تتمكن الحكومة المصرية مثلاً من إقامة الحدود وغيرها من
الأحكام الشرعية المعطلة لأسباب ظاهرية أو وهمية، أفلا يمكنها وهي حكومة
إسلامية رسميًّا أن تمنع ولو أربعة أمور فقط، وأن تعكس قضاياها في قوانينها
من إيجاب إلى سلب؛ لأنها من أكبر أمهات فساد الأحوال وضياع الأموال في
هذا القطر الإسلامي ألا وهي: (الزنا والربا والخمر والقمار) .
(ج) الأحكام الشرعية منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة كالحدود
الثابتة بنص القرآن، وفي معناها كل ما هو مُجمَع عليه معلوم من الدين
بالضرورة فمن استحل حرامًا من هذا النوع كان كافرًا، ولا يعذر بجهله إلا
من كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن المسلمين منفردًا عنهم. وما
كان غير قطعي لا يكفر مستحله إلا إذا ثبت عنده وكان غير متأول في
استحلاله، وإنما يكفر جاحد هذا النوع بنحو استحلال حرامه؛ لأنه يكون
مكذبًا للشرع رادًّا له، فمن استحل حكم المحكمة المخالف للشرع المنزل أي
في القرآن يكفر إذا كانت الآية التي خالفها الحكم قطعية الدلالة، أي نصًّا لا
يحتمل التأويل، ومثله ما إذا كانت دلالتها ظنيةً، وكان المستحل يعتقد أن ذلك
هو المراد منها، وأما إذا اعتقد أن ما خالفه الحكم من ظاهرها ليس هو المراد
منها فلا يكفر، فالكفر يناط بتكذيب القرآن أو استحلال مخالفته، فمن خالف
غير مكذب ولا مستحل، ولو لما ترجح عنده أنه حكم الله من غير قطع - كان
عاصيًا يجب عليه التوبة والعمل الصالح الذي يُرجى أن يكون كفارةً لذنبه،
فإن أصر يخشى أن تحيط به خطيئته، ويرين عصيانه على قلبه فيكون من
الخاطئين؛ وأما مخالفة الناس أو المحاكم لآراء الفقهاء الاجتهادية، فالأمر فيه
أهون والعبرة باعتقاد المخالف، فإن كان يعتقد أنه من شرع الله كان عاصيًا.
وأما مسألة الحكم بالشرع فأئمة اليمن الزيدية لا يحكمون إلا بفقه الزيدية،
وأهل نجد لا يحكمون إلا بفقه الحنابلة، ولكن ترْك الحكم بالشرع في
الجنايات وبعض القضايا المدنية طرأ على البلاد الإسلامية التي قلدت المدنية
الأوروبية، وإنما يسأل السائل عنها، وإذا أردنا أن نشرح جواب هذا السؤال
شرحًا تامًّا لا يتم لنا ذلك إلا بتأليف كتاب يكون من أبوابه: استبداد ملوك المسلمين
وأمرائهم بالأحكام وأسباب ذلك، وباب خضوع الأمة لأحكامهم، وأسبابه التي
سهلت عليها قبول أحكامهم المخالفة للشرع، وباب فقه المسلمين ومآخذه، وكون
الفقيه عند سلف المسلمين هو المجتهد، وأسباب ترك الاجتهاد، ومقتضاه: فقدُ
الفقهاء العارفين بأحكام الشرع معرفةً صحيحةً، أي بالدليل، وسبب امتلاء كتب
الفقه بالخلاف والاضطراب في تصحيح الأقوال المنقولة عن أئمة الفقهاء،
وسبب جعل أقوالهم أصولاً للدين يستنبط منها المقلدون الذين ليسوا أهلاً للاستنباط،
وسبب ما فيها من التشديد وسوء التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي، وغير
ذلك من الأمور التي جعلت فهمها واستخراج الحكم الصحيح منها عسرًا.
وباب ما حدث للناس من شئون المعاش والاجتماع والفنون والأحوال
والعادات والعرف التي ترتبت عليها قضايا كثيرة لا نص عليها في أصل
الشريعة ولا تقبل الأمة ولا حكوماتها أن يكون فيها مجتهدون يضعون لها
أحكامًا تتفق مع الأصول المقررة، وباب تغلب الإفرنج على المسلمين
واستيلائهم على أكثر بلادهم استيلاءً رسميًّا تامًّا، ووضعهم الباقي تحت
نفوذهم واضطرارهم حكامه إلى الخضوع لهم فيما يريدونه منهم، ثم ضعف
العلم والدين في الحاكمين والمحكومين وافتتانهم بتقليد الإفرنج في قوانينهم.
واستخراج الجواب من مجموع تلك الأبواب.
فإذا تأمل السائل عناوين هذه الأبواب ولمح بعض ما يدخل فيها من
المسائل علم أن ترك الحكم بالشريعة له أسباب كثيرة، إثمها الأكبر على
الملوك والأمراء والعلماء، وسببها الأكبر: جهل الأمة وتركها لحقوقها بغش
رؤساء الدين والدنيا لها؛ ليتسنى لهم استخدامها واستغلالها، فمتى أرادت
الأمة أن تحكم بشريعتها التي تؤمن بها حكمت بها دون غيرها؛ لأن إرادة الأمة لا
ترد، ولكن متى تريد؟ إن من لا وجود له لا حياة له، ومن لا حياة له لا إرادة له،
فالمسلمون الآن ليسوا أمة فنطالبهم بالأعمال الإرادية التي هي من شأن الأمم
الحية، وإنما هم أفراد متفرقون {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر:
١٤) لهذا كنا نقول منذ أنشأنا المنار: إن الواجب قبل كل شيء هو تكوين
الأمة.
بل أقول: إن حكم مَحاكم البلاد الإسلامية بالعقاب على الزنا والسكر
والقمار وامتناعها من الحكم بالربا، لا يتوقف على جمع كلمة الأمة الإسلامية
ومطالبتها بذلك بلسان القال والحال، بل يمكن بما هو دون ذلك، أما في البلاد
العثمانية فلو طلب ذلك أكثر المبعوثين لكان قانونًا نافذًا، ولكن كان أكثر
المبعوثين ممن لا يرى ذلك، والذنب على الأمة التي تنتخب من لا تثق بدينه،
وأما في مصر فلو انتدب علماء مصر للمطالبة بذلك يتبعهم السواد الأعظم من
المسلمين، ولا يبقى للحكومة مندوحة من إجابتهم متى قاموا يطالبونها مع علمائهم في
كل مكان، ولكن النفوس ماتت فلا يتجرأ أحد على طلب شيء باسم الدين،
نعم إن الحكومة المصرية لا تقدر على منع الأجانب من بيع الخمر وشرائها،
ولا بغايا الأجانب من فتح مواخير الزنا ولا مصارفهم من الدين بالربا، ولا
المحكمة المختلطة من الحكم به، ومن ذا الذي يطالبها بذلك، وهي تقصر في تنفيذ
مواد القانون المصري التي وضعت للتشديد في أمور الفسق والقمار؛ لأن
الكثيرين من رجال القانون يحبون التساهل في ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك،
وكأن السائل لا يعرف من أمر بلاده شيئًا وإلا فسؤاله على غير ظاهره.
وإذا أراد العبرة بمسألة من المسائل المتعلقة بصعوبة الفقه الإسلامي
وجمود التقليد اللذين أشرنا إليهما فليقرأ الرسالة الآتية وتعليقنا عليها، ولو كان
ممن يقرأ المنار من أول صدوره لما احتاج إلى السؤال عن مثل هذا فما من
مسألة من المسائل التي يتوقف عليها فهم جواب هذا السؤال بالتفصيل إلا قد
كتبنا فيها مرارًا، ولكن الناس اتخذوا رؤساء جهالاً مفسدين فصار السواد
الأعظم من المسلمين في حيرة بين ألوف من دعاة الفتنة باسم المدنية أو
الوطنية أو التقاليد الخرافية، وما عساه يوجد من داعٍ إلى الهدى يُنفِّر الناسَ
عنه المضلون بالكذب والبهتان، ويعارضونه بإغراء بعض المنافقين بمثل
دعوته كالذين اتخذوا مسجد الضرار، فالنتيجة لهذه المقدمات أنه لا طمع في
الحكم بالشريعة إلا بتكوين أمة إسلامية تنصب لنفسها حكومة إسلامية، وكم
بيَّنا الوسيلة لهذا التكوين، وجاهدنا الذين لا يزالون يمزقون شمل المسلمين ويحاولون
تكوين أمم منهم، جامعتها الوطن، أو لغة غير لغة الإسلام كأحداث الوطنية بمصر،
والاتحاديين في المملكة العثمانية.