للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد بن علي الإدريسي


كتاب سياسي
للعبرة والتاريخ

عثرنا على صورة هذا الكتاب الذي أرسله السيد محمد الإدريسي إلى الإمام
يحيى حميد الدين بتاريخ ١٦ ربيع الأول الأنور سنة ١٣٣٠.
بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن علي الإدريسي إلى جناب المولى، الذي هو بالمحامد أولى [١] ،
الإمام يحيى حميد الدين أشرق الله شموس سعده، وأعلى مراتبه على سنن جده،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تقديم تحيات بين يدي نجوى هذه السطور،
تهديها إليكم نسمات الوداد ونفحات الإخلاص على أطباق النور، فقد وردت كتبكم
الكرام، آخرها ما هو بصحبة السادة الأجلاء العلماء الأعلام، السيد العلامة صفي
الإسلام الصنو أحمد بن يحيى بن قاسم عامر، والصنو العلامة العزي محمد بن
علي بن أحمد بن حسين الذاري، والصنو العلامة الوجيه عبد العزيز بن يحيى بن
المتوكل، والصنو العلامة العزي محمد بن محمد الشرعي الحولي، وقد سرَّنا
وصولهم وشريف قدومهم، وانشرح البال من لطائف علومهم، وظرائف فهومهم،
وتذاكرنا في أبحاث شتى.
أما مادة الصلح بيننا وبين الحكومة، فمن أول يوم وما ندعو إليه هو الوفاق،
وكلما أرادوا عقد ذلك نقضوه، وكفى بما كان في هذه المدة الأخيرة فإن المذاكرة
حصلت بيننا وبينهم في هذا الموضوع ثلاث مرات، بل أربع مرات بعد وصول
رسلهم إلينا، فإذا أجبنا بما فيه الوفاق أعرضوا تيهًا وكبرًا واحتقارًا لنا.
فأولى المرات بواسطة محمد توفيق [٢] في مجيئه الأخير فأجبناهم ذاكرين مواد
بسيطة؛ لأن في ذلك الوقت لم يكن قد وقع بيننا وبينهم سفك دماء.
وتلك المواد هي أن نكون في جهاتنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر،
ضابطين للبلاد من الفساد، مع بقاء مراكزهم، وإليهم تساق الحاصلات، وعليهم
القيام بما يلزم من معاش القضاة والمترددين في مصالح البريات، وأن يبقوا
(جازان) برتبة المعتاد، وأن لا يحدثوا زيادة من القوة في البلاد، وأن يفك أمير
مكة صالح ابن حسن وصاحبه من الحجاج، وأن نتوسط بينكم وبينهم من الصلح.
وهذه المواد مما يضحك منها؛ لأنها لبساطتها لا تكاد أن تكون مطالب، ولكن أدَّانا
إلى ذلك حب الراحة للبلاد والعباد.
فما كان الجواب إلا بنقيض ذلك فساقوا تلك القوة التي يقدمها محمد راغب بك
ومحمد علي باشا في جازان، وملأوه بالآلاف، وازدادوا عدوانًا على طلب
الحجاج لحبسهم كما وقع في حبس بعض رجال (المعّ) في حج هذا العام.
وأشعروا أن العسيري تابع لإمارة حسين بن عون [٣] وأرسلوا إلينا بطريق مصر
في حين وصول القوة العامة برفق عزت [٤] ، إني إن أردت السلامة أفتح لهم
الطريق إلى الإمام التي تمر على طرف البلاد التي بيدنا، ففوضنا الأمور إلى الله،
واستعنا به في مدافعتهم، وبحمد الله قد كان ما كان.
ثاني المرات بواسطتكم عندما وصل إليكم عزيز [٥] ووافقناكم فكان منهم
الجواب بالتعليق على ما هو في حكم المستحيل، وهو إجابتنا لحضور الآستانة.
وقد تحقق لكم من هذا نهاية الإعراض، مع أنكم قد بذلتم الجهد كما أخبر عزيز عند
وصوله مصر لبعض أصدقائنا بذلك، وبما كررتموه من المراجعة فيما هنالك،
ومنع عزت وأخذ في تجهيز نحو تسعة وثلاثين طابورًا إلى أن حال بيننا وبينهم الله
بما تداركنا به من رحمته فكشف عنا الغمة ونجانا، كما هو سنته مع عباده
المؤمنين، وعكس عليهم القضية وسلط عليهم عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا
خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً.
ثالثها: كان بواسطة السيد الشراعي مع بعض إخواننا فأجبنا، فكان الجواب
منهم بالسكوت.
رابعها: مع سليمان متصرف عسير؛ لما أتانا جوابه [٦]- بعد أن قامت عليهم
فتنة الطليان - يدعونا فيه إلى الوفاق، وأن نكون إخوانًا ونهجر الشقاق، فأجبنا عليه
بالترحيب والتسهيل، فأرسلنا بعض خُلَّص أصحابنا إلى أن وصل بقرب معسكرهم
وخاطبه بحضوره لأجل المذاكرة فيما يجمع الشأن فكان يساجل إلى أن تمكن من
أرزاق ومعاش؛ لأنه في ذلك الوقت كان عادمًا فلما رأى أنه استغنى تكبر، وأجاب
بالغلظة وإعداد الطوابير الجملة للمخالفين فرجع صاحبنا بذلك.
ثم في هذه المدة مع ما رأيناه من فتك الطليان بهم أخذنا العطف فأمسكنا كل
حركة، وكتبنا لمن في مفرزة ميدي [٧] : إن دهمكم شيء فلكم مانعون، فكان منهم
أن محمد علي [٨] مر بطريق القنفدة وليته لما مر قصر اشتغاله بمصلحة العسكر؛
بل أخذ يحرق ما وجد في طريقه من بيوت السادات العلماء؛ لأن هذا الرجل أكبر
عداوته لأهل الدين؛ لأن ما ناله من الشرف في الآستانة كان بأسباب شنقه لعالم في
أطنه أيام تنازع وقع بين المسلمين والنصارى هناك. ولما قدم جازان بالعساكر لم
يختر لهم (خسته خانه) إلا جامع تلك البلدة، ولا يهمه أن تلوث بالنجاسة وتعطلت
إقامة الجمعة فيه.
وكأنه يظن أن هذه هي الأسباب في ارتزاقه النياشين والرتب من باب: (من
رزق من شيء فليلزمه) وهذا هو السبب في تجهيز ما وجهناه من الجند إلى جهة
الشام [٩] لأجل مدافعة هذا الطغيان والمحافظة على مراكز أهل الدين والإيمان.
وقد حصلت المذاكرة بيننا وبين هؤلاء الإخوان في هذه الأحوال إلى أن ساق
بنا الكلام إلى مفرزة ميدي، وأخبرناهم أن الطليان قد ضربوا قلاع الدولة ومراكزها
من باب المندب إلى جدة، وهد تلك الحصون بمدافعه المسلطة، ولم يبق إلا هذه
القلعة مع أن شيخ البلدة التي فيها قد سبقت له جناية مع الطليان بواسطة شهادة
سبنوك، طال الخلاف بين الترك والطليان فيه، وتوقف الأمر على شهادة هذا الشيخ،
وتهددته الدولة بالشهادة لها فشهد، فإذا قصد الطليان هذه المفرزة لا يقتصر عليها،
بل يتعداها إلى تلك البلد، لما جناه شيخها عليهم، وسابقًا قد ضربوا هذه البلد كما
قد عرفته.
ومن المشاهد أن هذه العساكر كجملة من في كل موضع إذا ضرب الطليان
المواقع هربوا من مواقعهم تلك إلى محلات العامة ولم يدافعوا ولا يضرب مدفع
واحد، وقد ضربت هذه القلعة من نحو شهر، وخرجوا منها كما ذكرنا، وهذا مما
أوقع الناس في العجب، فإن الدولة لما عجزت عن إصلاح الداخلية كان يرجى منها
حفظ الخارجية والقيام بالمدافعة عن الرعايا ممن قصدهم بسوء، فعجزت الدولة
الآن عن هذا وهذا، فما بقي لهم إلا أن يسعوا الناس بحسن الخلق؛ لو كانوا
يعقلون.
ثم إنه قد اشتد الخطب من الطليان بمحاصرتهم للحديدة إلى حالة يخشى معها
أن تحتل الحديدة، فتكلمنا مع العسكر الذين في القلعة بأن بقاءهم بها ضرره على
الإسلام والمسلمين؛ لأن الحديدة إذا احتلت يتبعها ملحقاتها ومن ذلك هذه القلعة،
ومن المعلوم حسب أصولهم أنه إذا احتلت الحديدة، وجاء المحتلون ببوابيرهم
لاستلام هذه النقطة تبعًا للمركز، ومعهم الإذن بالتسليم من كبراء الترك، فإن من
هذه النقطة لا يلتفت إلى الإسلام ولا إلى المسلمين ولا يهتمون بأمر الوطن بل حالاً
يعملون الترتيب اللازم في التسليم إلى المحتلين، ولو بطريق الحرب مع أهل
الوطن بأن يضربوا من القلاع وتضرب البوابير من الساحل حتى يتصلوا بالمحتلين،
ويدفعوا لهم موقع الحرب، ويسلموا أهل الوطن إلى الأسر، كما فعلوا في بني
غازي إحدى متصرفيات طرابلس، فإن أهلها عشية احتلال الطليان؛ لما رأوا
بوابير الطليان بالساحل أسرعوا إلى مركز الحكومة ليستعدوا للقتال ويودعوا أهاليهم
وأموالهم في محل مكين، فمنعهم الأتراك وألزموهم الطمأنينة فرجعوا إلى بيوتهم،
فلما جن الليل لم يشعروا إلا والمتصرفية بأجمعها صارت عساكر طليانية فقاموا
للدفاع ولم يمكن الخروج من المنازل إلا للرجال دون النساء والذرية، وهم الآن
تحت قبضة الطليان، واشتهر أن هذه المعاملة من العساكر بأسباب ما أخذه كبراؤهم
من الطليان خفية. وبأسباب ذلك استقال الصدر فتبين أن بقاءهم حينئذ في المواقع
الحربية لا للدفاع وحماية الثغور كما هو اللازم لمن يتولى إمارة المسلمين بل
للأغراض الفانية، وبيع البلاد للمصلحة الشخصية، فمن ينعَ الإسلام فلينعه من
الترك، ومن يندب الدين فليندبه مما لهم من اختلاق الإفك، فلما خاطبناهم في
النزول معنا ليبقوا مع العساكر العربية جنبًا بجنب حتى إذا احتلت الحديدة يكون
موقع المفرزة الميدية بأيدي المسلمين يؤدون فيه ما أوجب الله عليهم، وإن امتنعوا
فلا إلزام. وإن أرادوا اللحاق بكبرائهم فلهم ذلك، فأبوا هذا وهذا، ولا يحيق المكر
السييء إلا بأهله.
والعجب من هؤلاء الناس يذكرون أننا السبب في تركهم للمدافعة كما روى
عنهم السادة الواصلون! فليت شعري من أي وجه؟ وأيّ قرب بيننا وبينهم في المسافة
أن يقولوا نخشى أن نصلى بنارين؛ إذ في الأقل بيننا وبين الحديدة ثمانية أيام؛ ولو
سلم هذا فما يكون جوابهم في احتلال الطليان لطرابلس؟ وما المانع من المدافعة
هناك مع أن أهل تلك الجهة من المخلصين للحكومة بل هم قائمون بالقتال للمحتلين
من الآن، ومن العجاب أن الحكومة قبل أن يحتل المحتلون رفعت الأسلحة والوالي
والعسكر إلا شيئًا قليلاً، وبعد ذلك لم تمد المجاهدين ولا بدرهم أو نفر.
وفي عهدي أنا عرَّفناكم سابقًا أن في صبح ليلة خروج الأتراك من جازان وفي
اليوم الذي بعده جاءت بوسطة بطريق البحر فوقعت بيد المجاهدين، فإذا بعض
رسائلها يحتوي ترجمتها على إعلان حرب إيطاليا لهم وأنه يلزم مآميرهم هنا العناية
برعايا الإيطاليين وحفظهم، فتعجبنا من حسن معاملتهم، هذا لمن ناوأوهم بالعداء
الأكبر، وإذا حصل منا معاشر المسلمين أدنى شيء معهم قامت القيامة. وبينما نحن
في هذا الموضوع إذ ورد منكم كتاب كريم، فتلقيناه بالترحيب والتكريم، وسنوفي
كل بحث مما أشرتم إليه حقه، إن شاء الله.
فأما ما أشرتم إليه من قولكم: والدولة العثمانية، وإن كان أمراؤها كما عرفتم
فإنه عند الشدائد تذهب الأحقاد - إلى أن قلتم: أما ما كان سابقًا مما ذكرتم من
تباعد العثمانية عن الصلاح فإنه لا يغرنا الآن الإنصاف.
وقد أنصف الغارات من راماها. فلا يخفاكم أي حقد عندنا! ولما جاءني
كتاب سليمان باشا يجنح إلى السلم في وقت قيام الطليان وافقت، وأجبت بما
صدرت إليكم صورته، وأرسلتُ مِن أخِصاء إخواننا مَن يقوم بحل هذه المشاكل كما
قد أشرنا لكم في أول الجواب، ولم نلتفت إلى ما سبق منهم من الإيعاد بأنواع
المهالك حتى بشق بطون الحوامل، فلما جاء جواب سليمان لذلك الأخ يعني مندوبه
بالتهديد وإعداد الطوابير للتربية تعجبنا من ذلك، وما زلنا نتوقف عن عمل أي
حركة رجاء أن يهتدوا إلى الصواب، فما كان بعد ذلك إلا مرور محمد علي باشا
في شهر ذي الحجة يحرق بيوت السادات والعلماء وأفاضل الناس، كما قد ذكرنا
لكم أول الكتاب.
فيا ليت شعري ما نصنع بعد هذا؟ وهل فيه إنصاف أعظم من هذا الإنصاف
حتى من كان لنا بالأمس عدوًّا لدودًا أصبحنا نتقرب إليه بالمودة لا لشيء بل كان
حبًّا للصلاح مزيدًا، وهل من العقل بعد ذلك لنا أن نرمي بأنفسنا إليه ولو على
المهالك؟ وهل هذا من الدين؟ كلا، وأصدق القائلين يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ
تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: ١٣٩) .
ثم إن ما أشرتم إليه هو لم يزد عن كونه من قبلكم، ولم ندر ما هم عليه؛ إذ
لم يرد من كبرائهم وأعيانهم من تحسن المخاطبة معه في ذلك وفي كيفية مواصلة
الخطاب إلى الآستانة؛ لأن ولاية اليمن صارت الآن منقطعة عن الولاية العثمانية
للحيلولة بالقوة الإيطالية.
وأما ما أشرتم إليه أن لو اقترن ما بيننا وبينهم بصلح ما بينكم وبينهم. فاعلم
أيها الإمام أني عندما أتلو ذلك، أجد خاطري ينكسر مما هنالك؛ لأنه حين أرادوا
أن يغتنموا الفرصة فيَّ، وإن كنتم - جزاكم الله خيرا - كررتم التوسط في الصلح
لكن لا على طريق الشرطية؛ بخلاف الآن لما كان الصلح لمصلحتهم أوفق فآثرتموهم
عليَّ مع أني الصاحب القديم، والخل الذي هو على العهد إلى الممات مقيم:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
ومنازل في الأرض يألفها الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل
وأما ما ذكرتموه (أن الملل الكفرية كما عرفنا فوقت سهام انتقامها على الدين
القويم وفعلت بالمسلمين أقبح الأفاعيل إلى آخر ما شرحتموه) . فلا يَخْفَاكم أن هذه
الأمة قد أخذت هذه الأزمان الطويلة وهي في اطمئنان بال وسكون الأحوال، لما
كان سلاطين آل عثمان قائمين بحماية الشرع الشريف، ولا مظهر لهم إلا أنهم
نواب الأمة الإسلامية في حقوق دينهم الحنيف، ولا شك أن أهل الملل المختلفة لا
يتجاسرون على هدم هذه السياسة؛ لأنها تستدعي الثورة العامة بين المسلمين
وغيرهم في جميع الأقطار الشاسعة، ولا أضر على الأجانب من هذه الحرب الدينية،
وبها كان يتهددهم السلطان السابق عند المشاكل الدولية، فيجنحون إلى الموافقة،
فلهذا عشنا وعشتم طول النشأة لم نسمع في الخارج بمشاقة، بل كان في آخر المدة
الأخيرة ما رفع الدولة لأعلى مكان حيث ظفرت باليونان واحتلت عاصمة ملكهم
بقوة عظيمة القدر والشان، فلما جاءت هذه النشأة الأخيرة من الأتراك تظاهروا
بالحرية ليرضوا أهل الملل الأخرى وأن الاختصاص بدين الإسلام هم منه على
فكاكٍ؛ ولهذا سموا أنفسهم بالجامعة العثمانية، ليوحدوا الملل؛ هربًا من الجامعة
الإسلامية، وقد أرسل جنابكم إلينا تلك الرسالة المؤلفة لشيخ الإسلام سري زاده
محمد صاحب ونبهتم - عافاكم الله - وعلى ما فيها من الإلحاد، وجزاكم الله خيرا
بتلك الإفادة.
فحينئذ حدث أمران: ضج أهل الإسلام من رغبة الأتراك عنهم، وطمع أهل
الملل في الأتراك لنفور الجمعية الإسلامية منهم، فأخذوا في انتهاب البلاد منهم،
فاستقلت ولاية البلغار، بعد أن كان ملكهم في زمن السلطان السابق برتبة ياوران،
وبيعت ولايتا البوسنة والهرسك علنًا، وطرابلس خفية، وصدق لفرنسا على تبعية
تونس، وحينئذ قامت الأجانب يغار بعضهم على بعض فمدوا أيديهم إلى احتلال
البلاد العثمانية - لهذه الأسباب - ولغير العثمانية بطريق أولى، كتبريز وفاس كما
ذكرتم، مع أن فاس هذه من أعوام قريبة سعى السلطان السابق في استقلالها
بواسطة ملك ألمانيا لتحفظ من غوائل الأجانب، فتغيرت في هذه الأيام السياسة
الإسلامية من أهلها، فكان ما كان في مسافة ثلاث سنوات، وهذه الرابعة أقبلت فيها
تتداعى الشدائد من كل الجهات، وكل فريق يمد يده إلى ما شاء من النواحي
المختلفات.
وقد عرفناكم بمنشأ هذه الأحوال؛ لتعرفوا من هم السبب في محاق البلاد
الإسلامية والاضمحلال، فهم الأحق بالملامة والتقريع والتوبيخ وسلب الكرامة،
ويا ليت شعري ما المراد منا في الرابطة التي أشرتم إليها؟ فإن كان لقصد التسكين
المجرد إلى أن توافق معهم الأمور ثم يثبوا كأن لم يكن بيننا وبينهم صداقة كما كان
بالعام الماضي؛ إذ قدمنا لهم عشرة آلاف عود للسلك، وأمنَّا لهم الطرق، وتعهدنا
لهم بالإصلاح حتى صاروا دولة حقيقة يروحون ويغدون بكل شرف، فما كان منهم
إلا تدبير الحيلة في الهجوم للقبض علينا؛ فنجانا الله وآل الأمر إلى ما هم فيه من
الإهانة والحيرة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أولا، توافق الأمور - كما هو المنتظر - إن لم يستعطفوا خواطر المؤمنين،
واشتد الحال أن آل إلى سقوط البلاد بأيدي الغير يسلمها الأتراك لهم، ولا يلزمنا إلا
قبول ما حلوه، وأبرموه فما في هذه إلا إقامة الحجة علينا من الله، وما المعذرة في
ذلك المقام الإلهي؟ . وإن كان القصد أن نكون نحن وهم شركاء في المواقع بدون
خداع في الحال والاستقبال: شركاء في الدفاع عن الدين، شركاء في الرأي حتى
نعلم ما يراد بنا، ونؤدي ما أوجب علينا ربنا، ولا نكون ألعوبة للأتراك يسلموننا إلى
الغير متى شاءوا، والعياذ بوجه الله، بل نكون على أمن من ذلك كله - فأهلاً بالوفاق
وسهلاً.
وفي الحقيقة إن هو إلا رجل قام بتأييد الله في هذه البرية القفراء للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإقامة الشريعة التي لا حرز لنا دونها ولا عصمة،
إن كنا ممن يحتفلون بتعاليمها الإلهية ويخدمونها.
فقامت هذه النشأة الجديدة من الأتراك وحشدوا العساكر المصحوبة بالمدمرات
والسيوف البواتر، وشاع وذاع أنه صدرت إرادة سلطانية، وإشارة من لدن الجمعية
باستئصالنا، ولا يعلمون أن الأمر بيد الله، وهو أكرم الأكرمين، لا يضيع مَن مَنَّ
عليه من بريته، وكساه من الإيمان بحلل كرامته، بل ينصره وينتقم ممن عاداه كما
وعد في كتابه العزيز: {وَعْدَ اللَّهِ حَقاًّ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} (النساء:
١٢٢) . فقال عز وجل: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: ٥١) وقال عز وجل: {فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: ٤٧) وإني والله عند هذه الآيات أعلم
من أين أخذت هذه الدولة فتداعت عليها الأهوال من كل جانب جملة واحدة على
غير أسلوب معروف، ولا تقدير في الحساب مألوف {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ
مَرَدَّ لَهُ} (الرعد: ١١) .
فاجأها القهر الإلهي بغتة، وانقطعت في مدافعته كل حيلة فسبحان القائل
{وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: ١١) وإني والله لأعلم بدواء تلك العلة فهل
من سبيل إلى أن أكون الطبيب الرباني؟ ولا تكاد تلبث هذه الدولة ساعة حتى
يشفيها الله في جميع الأنحاء ولكن إن رجعت سياستها إلى الصراط المستقيم
الرحماني. وقد ذكرنا للسادة الواصلين تفاصيل الأمور وأبدينا لهم ما يصلح في
المقام، واكتفينا ببيانهم عن شرح ذلك هنا؛ لأن للكلام مقامات طويلة ومباحث
مختلفة، كما سيوضحون لكم، وهم من أفضل عباد الله، وله الحمد أن جعل بيننا
وبينهم التآلف وخالص الوداد في الله، ومثلهم يقوم بالبيان وكونوا على يقين أن ما
فيه صلاح المسلمين والإسلام وحفظ البلاد بدون خداع فإنا فيه على وفاق، وكذلك
اكتفينا ببيانهم في مادة الحدود من الشرف إلى بني جماعة وقد تحررت بذلك ورقة
بخط العلامة المفضال بدر اللآلي السيد أحمد بن يحيى عامر، هذا، وشريف السلام
وأسناه يعمكم ومن بالمقام ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء