للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية
الحقوق التي أعطتها اللائحة للمستشارين الأجانب

(١) جاء في المادة الرابعة أن اعتراض الوالي على قرارات المجلس
العمومي مقيد بمصادقة مجلس المستشارين، وهو قيد لا حاجة إليه؛ لأن مجرد
اعتراض الوالي على قرار ما لا يقتضي إلغاءه حتى يقيد فيه بما يمنع استبداده به،
ومن شأن الاعتراض أن يبنى على أحد أمرين: إما مخالفة القوانين، أو مخالفة
المصلحة، ولو قيدوه بهما لكان أولى حتى لا يكثر الاعتراض من الولاة البلداء
فيضيع بها الوقت، وما دام القول الفصل في الاعتراض للمجلس، فالاعتراض إما
أن ينفع وإما ألا يضر.
(٢) في المادة الخامسة أن لجنة المجلس العمومي تجتمع بإرادة مستشار هذا
المجلس، ومن حقوقها دعوة المجلس لاجتماع فوق العادة باتفاق ثلثي أعضائها
ومصادقة مستشار المجلس. فهذا القيد لا حاجة إليه أيضًا، وفيه هضم لحقوق
اللجنة عظيم، فإذا سوغنا أن يكون اجتماعها بإرادة المستشار لاتخاذه إمامًا ومرشدًا
لها فيما هو أعلم به منها من وظائفها كلها أو بعضها، فلمَ يجوز لها الاستقلال بطلب
عقد المجلس إذا رأى ثلثا أعضائها الحاجة إلى ذلك لأمور تتعلق بمصلحة بلادهم
يجوز أن لا يعرفها المستشار؟ ألا يجوز أن تكون المسألة التي يدعونه لأجلها مهمة
جدًّا في نظرهم وأن يكون للمستشار هوًى في عدم اجتماع المجلس لها؛ لأن فيها
تعارضًا بين مصلحة الوطن ومصلحة أبناء جنسه الأوربيين؟ بلى فالمصلحة أن لا
نجعل له حقًّا يمكن أن يضر؛ ولا حاجة تدعو إليه، أي ليس لنا فيه نفع. على أن
القاعدة الأصولية أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
(٣) في الكلام على تعيين الموظفين من المادة السادسة: أن طالب الوظيفة
يمتحن أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي يطلب الدخول لها.
والظاهر أن الامتحان يكون باللغة العربية ولا تشترط اللائحة أن يكون المستشار
عارفًا بها؛ لأنه معرفته للتركية أو الفرنسية تقوم مقامها، ثم ما هي مواد الامتحان؟
ولم يشترط في كل مستشار أن يعرف قوانين الدولة، فنقول: إن الامتحان يكون
بموادها.
(٤) في الكلام على عزل الموظفين من المادة السادسة أيضا: أن رؤساء
العدلية تكف أيديهم عن العمل بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس
المستشارين، وأن سائر الموظفين المعينين من قِبل الولاية تكف أيديهم بناء على
طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها فقط، وأن موظفي الحكومة المركزية
يكون عزلهم بطلب من مجلس المستشارين وبحكم من هذا المجلس. وقد جعلت
اللائحة للقسمين الأولين من الموظفين الذين تكف يدهم حق مراجعة الوالي في مدة
معينة؛ ولكنها أوجبت على الوالي أن يحيل دعوى من يراجعه إلى مجلس
المستشارين الذين كان كف اليد من قبلهم ليحكم فيها، فهذه حقوق تجعل أمر العزل
كله بأيدي المستشارين الذين لا يعرفون لغة البلاد ولا قوانينها ولا يشترط فيهم
ذلك، ولم يقيدوا بقانون آخر يحكمون به في العزل والإيقاف، وهذه سلطة
استبدادية خطرة قد تقع على بعض الناس بالقوة القاهرة، وأغرب الغرائب أن
يطلبها بعض الناس لأنفسهم ويسمونها إصلاحًا؛ وإنما طلبها مبني على قاعدة عدم
وجود الأكفاء لإدارة الحكومة في البلاد، فكيف يكون حال هؤلاء الموظفين الذين
يقل فيهم الكفؤ مع المستشارين الذين بأيديهم أمر رزقهم؛ وهم يذلون الآن لرؤسائهم
من الترك؛ خوفًا من العزل الذي لا يقطع الأمل من العودة إلى الوظيفة، أو نيل
خير منها، فكيف يكون ذلهم لمن إذا عزلوهم يحرمون بعزلهم من خدمة حكومتهم
طول حياتهم؟
(٥) أغرب كل ما في هذه اللائحة على الإطلاق أنها بعد أن جعلت أمر
عزل الوطنيين في أيدي الأجانب ناطت بهم عزل أنفسهم أيضًا، كأن واضعيها
يحسبون أنهم سيجدون في أوربة من المستشارين والمفتشين، من يجري على سنة
الخلفاء الراشدين، ونسوا أنه لا يُعرف في أوربة كلها رجل سياسي رفع صوته
بالرضاء بإلغاء امتياز الأوربي على الشرقي في الحقوق والعقوبات، بل المعروف
عن الكثيرين منهم أنهم لا يرون أمة من أمم الشرق توازي صعلوكًا أوربيًّا، والذي
يزيد هذا الأمر غرابة أن هؤلاء المستشارين الذين يعدون في تكافلهم واتحادهم في
الشرق، كأنهم رجل واحد قد جعلت اللائحة أمر مذنبهم مفوضًا إلى آرائهم وأهوائهم
لا إلى قانون يوجب عليهم الحكم بمواد معينة في كل ذنب، على حين أنهم إذا قيدوا
بقانون ونيط أمرهم بمجلس تأديب وطني أو مختلط لا تسهل معاقبتهم بما يوجبه ذلك
القانون. (هذا وما فكيف لو) .
* * *
اقترحت اللائحة في المادة السابعة أن تعين الحكومة المركزية المستشارين من
الأجانب للشرطة (الجندرمه) والمالية والبوسطة والتلغراف والجمرك في مركز
الولاية ومفتشًا عامًّا منهم لكل لواء، وأن يعين المجلس العمومي من الدول التي
ترضاها الحكومة المركزية مستشارين للمجلس العمومي والعدلية والنافعة والمعارف
والبلدية والبوليس؛ ولكنها لم تبين أعمالهم ووظائفهم في هذه المصالح، وإنما بينت
في المادة الثالثة عشرة فنذكرها واحدة واحدة في سلسلة انتقادنا هذا وهي أربعة.
(٦) أول وظائف هذا المجلس تفسير مواد النظام الذي تضعه الحكومة
المركزية على أن يكون دستورًا لحكومة الولاية ومجلسها العمومي، ولست أرى
لإعطاء المستشارين هذا الحق وجهًا إلا أنه حكم بين الولاية والعاصمة وإلا فمجلس
إدارة الولاية أجدر من المستشارين بفهم هذه القوانين، ولعل حكومة العاصمة ترى
حكمه أقرب إلى مصلحتها إذا كان مؤلفًا من الأعضاء المنتخبين ورؤساء المصالح
الذين يعين بعضهم من قبلها، وبعضهم من قبل الولاية، على أن إعطاءهم حق هذا
التفسير مطلق عام؛ ولهم بذلك مجال واسع للحكم بالرأي والهوى.
(٧) الوظيفة الثانية لهذا المجلس تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها
المجلس العمومي، ولست أرى لهذه الوظيفة وجهًا ألبتة، فإذا اشتبه الوالي أو غيره
فيما يضعه المجلس فينبغي أن يراجع المجلس فيه؛ لأنه أعلم بما يضع، ويترتب
على إعطاء المستشارين هذا الحق: وجوب نقل كل ما يضعه المجلس بلغة البلاد
إلى اللغة الفرنسية؛ لأنها ستكون هي اللغة التي يعرفها جميع المستشارين حتمًا،
وقد يكون هذا من مقدمات احتلال فرنسة للبلاد.
(٨) الوظيفة الثالثة له النظر والحكم في وجوب عزل الموظف أو عدمه،
وقد أشرنا إلى انتقاده من قبل ونقول هنا: إن الواجب المتعين أن يكون لكل مصلحة
مجلس تأديب يتألف من رئيسها وبعض كبار الموظفين فيها، ويجوز أن يكون
مستشارها عضوًا فيه.
(٩) الوظيفة الرابعة: له النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد
المستشارين في كل خلاف يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى
لجانه أو أي دائرة مصلحة كانت، ويكون حكمه مبرمًا، وقد انتقدنا مثل هذه الوظيفة
من قبل؛ ونريد هنا انتقاد جعل حكمه مبرمًا انتقادًا شديدًا مؤكدًا، فإن هذا الحكم
المبرم الذي لا يقبل النقض ولا المعارضة، ولا يجوز فيه الاستئناف لا يصح أن
يعطى إلا للمعصوم من الخطأ والمنزه عن الهوى، ولا يعقل أحد وجه الحاجة إليه،
ولا كيف يمنحه الناس للحاكم من تلقاء أنفسهم.
تلك إشارة وجيزة إلى ما رأيناه من خطأ هذه اللائحة في موضوع المستشارين؛
ولنا عليها انتقادات أخرى لا حاجة إلى بسطها، ولما كنا جازمين بأن الحكومة
المركزية يستحيل أن تقبل هذه اللائحة، ولا سيما الوزارة الاتحادية منها التي لا
يرضيها إلا استبداد العاصمة في المملكة - فالواجب على طلاب الإصلاح المخلصين
من أهل بيروت أن ينضموا إلى حزب اللامركزية الإدارية؛ لتكون يد الجميع
واحدة ويد الله على الجماعة - كما ورد - والله الموفق.