للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة العربية عند الاتحاديين

من لم تفده عِبرًا أيامُه ... كان العمى أولى به من الهدى
كنا نقول: إن مصيبتنا بهؤلاء الاتحاديين الذين ورثوا ملك عبد الحميد أنهم
أصحاب نظريات في السياسة والإدارة يجربونها في هذه الدولة التي يجب الجري
فيها على قواعد ثابتة؛ لأنها لم تعد تحتمل التجارب، وكنا نظن أنها إذا لم تفاجئها
الدواهي الخارجية في أثناء هذه التجارب فربما ظهر لهؤلاء العاملين خطأهم فرجعوا
عنه، وقد رأينا القوم خابوا وفشلوا في كل شيء، واعترف بعضهم ببعض خطأهم
وادعوا أنهم رجعوا عن بعضه، وأنهم سيرجعون عن بعض آخر، ولكنهم لم يفوا
بوعد، ولا رجعوا عن سوء قصد، ولا اعتبروا بالحوادث، ولا تأدبوا بالكوارث،
بل ازدادوا كذبًا وخداعًا، وهذا من الغرور الذي قلما يوجد في البشر له نظير،
والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، بل أعمالهم اليوم هي عنوان أعمالهم بالأمس، لا
فرق بين ما كنت تراه منها في أول عهد وزارتهم (الحقية) إذ كانوا يدلون ببأسهم
وقوتهم وجيوشهم، وبين ما تراه على عهد وزارتهم (الشوكية) بعد أن أضاعوا ثلثي
المملكة بإضاعة طرابلس الغرب وبرقة وجميع الولايات الأوربية، ومعظم الجزر
البحرية، وبعد إفساد الجيش والتفريق بين العناصر وإضاعة الأموال، فهم بعد هذا
كله لم يتحولوا عن سياستهم السوءى في المسألة العربية التي أحدثوها في هذه
المملكة وقطبها عندهم الضغط والإرهاب بالقوة من جهة والغش والمخادعة من جهة
أخرى، وغرضنا من هذا أن نقول كلمة في هذه المخادعة:
زرت الآستانة في أوخر سنة ١٣٢٧ وبقيت فيها إلى آخر ما بعدها وكان
مما اجتهدت في تلافيه سد ثغرة التنافر بين الترك والعرب. ولما حدثت طلعت بك
الزعيم الاتحادي في ذلك وكان ناظرًا للداخلية وقابضًا على زمام الإدارة والسياسة
في الدولة - أظهر لي قبول رأيي وكان مما قاله: إنهم عازمون على إنشاء جريدة
عربية في الآستانة؛ لأجل استمالة العرب ومودتهم، فسألته عمن يقوم بإدارة هذه
الجريدة وتحريرها فقال: عبيد الله أفندي مبعوث آيدين.
قلت: إن الرجل معروف ببغض العرب والعربية، فلا أراه يزيد مسافة الخلف
إلا انفراجًا أو اتساعًا إلخ ما دار بيننا في ذلك، ثم ظهرت جريدة باسم العرب؛
وكان ما كان من أمر قيامة الجرائد العربية عليها في سورية والعراق ومصر
وأمريكة وغيرها من البلاد، واشتهر عند الخاص والعام في هذه الأقطار أن هذه
الجريدة أسست للتفريق بين العرب وغشهم ومخادعتهم وتحقير مصلحيهم، وإيقاع
الشقاق بين مسلمي سورية ونصاراهم منهم، وبهذا بطل الغرض من إنشائها
فاضطروا إلى إبطالها.
شاويش خلف عبيد الله:
ثم بدا لهم أن ينيطوا هذه المفسدة برجل يعده بعض العرب منهم؛ فلم يروا
أحدًا أهلاً لذلك إلا الشيخ عبد العزيز شاويش؛ لأنه كان قد مهَّد السبيل إلى ثقتهم بما
كان ينصر جمعيتهم ويطري زعماءهم في جريدة العلم، وبمقاومته لمشروع الدعوة
والإرشاد ثم بطعنه في مسلمي العرب وزعمه أنهم أضر على الدولة من نصارى
البلغار والروم وغيرهم.
بمثل هذا تقرب شاويش إلى جمعية الاتحاد والترقي عدوة العرب والإسلام
ونال الحظوة عندها؛ فأسست له جريدة في الآستانة كانت تنشرها في البلاد العربية
بقوة الحكومة، وهي الهلال العثماني، ولكن نفوذ الحكومة قد عجز عن جعل الناس
يتلقونها بالقبول، ثم سقطت هذه الجريدة المنافقة بسقوط وزارتهم (السعيدية) فلما
عادت لهم الكَرة بفتنة أنور بك وألفوا الوزارة (الشوكية) أنشأوا لشاويش جريدة
أخرى باسم (الحق يعلو) وسمي أحد شبان المصريين المتصلين به مديرًا لها؛ ليكون
مدح شاويش وإطراؤه فيها لنفسه سائغًا مقبولاً؛ ولئلا يكون إذا حالت الأحوال
مسئولاً.
لم أقرأ في هذه الجريدة إلا عددًا واحدًا وجدت فيه دسيسة من شر دسائسهم في
التفريق بين العرب وإغراء العداوة والبغضاء بينهم الذي يراه الاتحاديون الوسيلة
إلى إضعافهم وأخذ منافذ الترقي والإصلاح عليه في سورية، وهو أنه زعم أن أهل
الذمة الذين بيننا يتربصون بنا الدوائر فإذا أمكنتهم الفرصة منا فعلوا بنا أقبح مما
فعل البلقانيون بمسلمي بلادهم من القتل والسلب والنهب والفضائح. . . فما الذي
حمل الاتحاديين على دفع الشيخ عبد العزيز شاويش على كتابة مثل هذا الكلام في
مثل هذا الوقت؟ أليس المعقول أن مصلحة الدولة الآن تقتضي الألفة أو السكون في
الولايات الآسيوية، وهي مرتبكة في الحرب البلقانية؛ لئلا تفتح على نفسها أبوابًا
جديدة من المشاكل؟ ألم يكن الواجب على الشيخ عبد العزيز شاويش أن يكتم علمه
بما قاله، إن كان في ذلك على علم، وما هو علم ولا ظن بل هي فتنة؛ لئلا يكون
سببًا لثورة في سورية تفضي إلى خروجها من ملك الدولة كما خرج غيرها؟ بلى،
ولكن الاتحاديين علموا أن أواخي الوفاق قد شدت بين المسلمين والنصارى في
بيروت، وأجمعوا على أن يكونوا يدًا واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم، وهذا ما
لا يطيقه الاتحاديون.
والظاهر أن تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوربة عليها أخف على قلوبهم
وأدنى إلي سياستهم من اتفاق أهلها وإصلاح حالهم؛ فلهذا أوعزوا إلى محضاء
مفاسدهم بهذا من غير أن يحسبوا لعاقبته حسابًا، وربما كان هذا الغلو في الإفساد
إلى هذه الدرجة من سوء اجتهاد الشيخ شاويش وجريًا منه على ما تعود بمصر من
إطلاق العنان لقلمه في مثل هذا حتى زجَّه في السجن غير مرة ثم أخرجه من القطر
المصري كله، وإذا كان شأنه في التفريق بين المسلمين والقبط ما علمه الناس،
وفيها حكومة منظمة ومحاكم تقيم القانون، فكيف لا يكون شأنه في ذلك ما رأينا وأشد
مما رأينا منه في الآستانة؟ وهو يرمي عن قوس جمعية الاتحاد والترقي صاحبة
السلطة في المملكة العثمانية، وينضح بسهامها ويكافَأ على ذلك بمال العثمانيين
المنكوبين بجميع أنواع المصائب بشؤم هذه الجمعية.
الشيخ عبد العزيز شاويش مفتون بحب الشهرة والزعامة، وهو يحاول أن
ينال بجاه الاتحاديين ما أعياه نيله بغلوه في الحزب الوطني المصري، والاتحاديون
يرون من مصلحتهم إيجاد زعيم عربي يخدعون به العرب، وليس الشيخ شاويش
بأهل لهذه الزعامة ولا الاتحاديون قادرين على ما يبغون منه، حتى إنهم لو قربوا
منهم بعض الأفراد الذين نالوا الثقة بحق بين العرب لكان قربه منهم وثقتهم به مما
يسرع بالتهمة إليه ويفيده الظنة، فإذا بدرت منه بادرة تنافي مصلحة قومه عدت
دليلاً قاطعًا على نفاقه وبيع ذمته للاتحاديين، فكيف إذًا يستطيعون جعل الشيخ
شاويش زعيمًا عربيًّا ويرجون أن يؤثر كلامه في السوريين؛ وهو قد اشتهر بالنفاق
للترك والحط على العرب وفَاقَ زعماء الحزب الوطني وكُتَّابه في بغض السوريين
منهم خاصة، وهل ينسى السوريون - من هؤلاء - مطاعن جريدتهم اللواء فيهم،
وقولها في طائفة من جنودهم ما قاله مالك في الخمر؛ إذ كانت باخرة تحمل بعض
العسكر العثماني إلى اليمن ففر بعضهم من بورسعيد أو السويس وقيل: إنهم من
السوريين، فافترصت ذلك جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني وعدوة السوريين
كافة، وشنَّعت على السوريين وعللت هربهم بخسة منبتهم، ثم تبين أنهم غير
سوريين.
سيعلم الاتحاديون أنهم مخطئون في نظريتهم هذه كما ظهر لهم مثل ذلك في
استخدام عبيد الله بمثل ما يستخدمون له شاويشًا، وفي غير ذلك من أعمالهم المبنية
على نظرياتهم الباطلة، بل سيعلمون أن خداعهم هذا سيعود عليهم بضد ما يرون
كما وقع لهم غير مرة ولم يعتبروا.
ألا فليعلموا أن جميع من يفهم ويعقل من العرب يعتقد أن جمعية الاتحاد
والترقي لا تريد بالعرب إلا شرًّا، ولا تستخدم لشيء يتعلق بمصالحهم إلا من يكون
عونًا لها عليهم، والسوريون منهم خاصة يعرفون أن كتاب الحزب الوطني كفريد
وشاويش كانوا يبغضون جميع السوريين قبل أن يستخدمهم الاتحاديون في أهوائهم
وأن شاويشا قد غلا في ذلك وأفرط، فلا قيمة لكلامه عند أحد منهم إلا قيمة العدو
المستأجَر لإيذاء عدوه، فإذا كانوا يريدون إرضاء العرب فلا طريقة لذلك إلا ترك
الجمعية لمقصدها الأول، وهو العصبية التركية، وجعل العرب والترك كالأخوين
الشقيقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر في شيء؛ وإلا خسروا العرب أو خسروا
أنفسهم، وإنه ليستحيل في اعتقادي الجمع بين بقاء الدولة وبقاء سلطة الجمعية فيها
وهي على طريقتها الأولى.
لولا أن هذه الجريدة مُنْشَأة بأموالنا لإفساد ذات بيننا بإغواء المفتاتين على
حكومتنا لما كتبت في شأنها كلمة واحدة؛ إذ ليس الشيخ عبد العزيز شاويش أحق
بأن يُلتفت إلى قوله من صبية الحزب الوطني الذين يخلقون كل يوم من الكذب
والبهتان ويخترعون من الغش والتمويه ما نعرض عنه ونمر به كرامًا كما أرشدنا
الله تعالى في كتابه، فنحن نحذر قومنا من دسائس جمعية الاتحاد والترقي لا من
شاويش.
فالذي ينبغي لكل محب لقومه محترم لنفسه من العرب أن لا يُعنى بقراءة هذه
الجريدة المستأجَرة بمال السحت، ولا يبالي بما يسمعه عنها، وعلى أصحاب
الجرائد العربية الصادقة المحترمة أن لا تردد صوتها، ولا تنقل عنها ولا ترد عليها،
ولكن يجب عليهم أن يحيطوا بكل ما فيها، فإن رأوا فيها مفسدة لا بد من درئها
وتفنيد باطلها؛ فليكن ردهم على المستأجِرين دون الأجير، وعلى الكلام دون
المتكلِّم؛ ولا يغتروا بما عساه يكتب فيها من مدح العرب أو دعوى السعي لخيرهم،
فقد رأوا مثل ذلك في جريدة العرب وعلموا أنه خداع وتغرير؛ ولا يلدغ المؤمن
من جحر مرتين وهل رأوا شرًّا من أفاعي جحر الاتحاديين؟ فجريدة (الباطل
يسفل) التي سميت بضد معناها شرّ خلف للجريدة التي سميت العرب.
الوفاق بين المسلمين والنصارى:
وعلى عقلاء البلاد السورية أن يعتبروا بهذا الإفساد فيزدادوا استمساكًا بحبل
الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له، وأن يُعنى كُتَّاب المسلمين منهم خاصة برد كل
كلام يكتب لإفساد ذات بينهم باسم الإسلام وبتحريك نعرة العصبية الدينية؛ فإن هذا
الإفساد مخالف لهدي الإسلام، ولا تغرنهم سفسطة بعض أجراء الاتحاديين وزعمهم
أنه يجب احترام شاويش بكونه من علماء الدين، لا لأن شاويشًا ليس من صنف
علماء الدين ولا زيه زيهم، ولا سمته سمتهم؛ إذ هو يحلق لحيته ويعفي شاربه
خلافًا للسنة؛ بل لأن كلامه باطل يراد به ما هو شر منه؛ والعبرة عندنا بالحقائق
والمقاصد، لا بالرسوم والظواهر، وحسب العامي الذي يشتبه عليه الكلام، أن يعلم
أنه صادر عمن جاهروا بعداوة العرب بالقول والعمل، فهذه آية لا تخفى على أحد.