للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: سليمان باشا


كتاب متصرف عسير
وقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*]
(يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح)

... ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى سبل السلام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وعلى
آله وصحبه الكرام، من سليمان شفيق علي كمال، متصرف وقومندان عسير، إلى السيد محمد علي الإدريسي، أرشدنا الله وإياه لما فيه رضاه وألهمنا تقواه،
وتولى هدانا وهداه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فإن الانقطاع الحاصل والتنازع الواقع هو مخالف لما أمر الله تعالى
بقوله: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: ٤٦) ولكن كل هذا
بقضاء الله وقدره، ولسنا الآن بصدد البحث عما مضى، وعسى الله أن يجمع
القلوب ويكون الإسلام يدًا واحدة على أعداء الدين، ونذب عن حقوق المسلمين،
كما قال سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم: (الإسلام كالبنيان يشد بعضه
بعضا [١] ) إلى كثير من الآيات والأحاديث الواردة بوجوب الاتحاد والتناصر بالدين،
ولا نزيدكم علمًا بهذه العجالة فأنتم لستم كغيركم بل أنتم بدرجة من العلم. فهلم يا
أخي في الدين نسعى بما فيه صلاح المسلمين، فهذه دول الأجانب من النصارى
أعداء الدين قد تعاونوا وتناصروا واتفقوا على محو الإسلام وهدم قواعد الإيمان،
وأن يجعلوا البلاد الإسلامية مضغة في أفواههم، وقسمة باردة في أطماعهم، وقد
بلغنا ما حل بإخواننا المسلمين في الجهات فواجب علينا معشر الإسلام الذب عن
الوطن، الذب عن العرض، عن النفس، عن الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(قاتل دون مالك [٢] ) فما بالك دون نفسك، دون عرضك، دون دينك. ويعفو
الله عما سلف، فبادر لندفع عن الوطن، عن الدين، عن المسلمين هذه البلية،
ونكون يدًا واحدة على حفظ حقوق المسلمين. هذا زمن الحمية الإسلامية والجهاد،
هذا وقت الإخلاص وأوان الخلاص، إن الأمة الإسلامية في أقطار الدنيا ناظرة إلينا
وعندها الظن الجميل بتعاوننا وتناصرنا، وها أنا أنتظر منك الجواب الشافي الذي
يكون فيه حفظ شرف الإسلام، فإن أجدادك الكرام قد أسسوا مجدًا أخرويًّا فهدوا
وأرشدوا وحفظوا كيان الإسلام، وشادوا أركان الإيمان، وهذه نزغات قلم مسطور
باح لك به النصح الواجب، فإن أجبت فأرسل لنا بسرعة هيئة تعتمدون عليها
لنتخابر معها بما يصلح ويحفظ شأن الإسلام والمسلمين على شرط بالوجه والأمان،
وإن شئت بين لنا معالمكم لدفع أعداء الدين فيجتمع الرأي المصيب بما فيه الصلاح،
إن شاء الله. وإني عازم بحول الله على مدافعة أعداء الدين والجهاد أمام المسلمين،
مع ما لدي من قوة هي تزيد عن عشرين ألفًا، ونحن بهذا العزم، ولو فني منا
الصغير والكبير، وعلى الله توكلنا وإليه المصير، فأسرعوا إلينا بالجواب، وفقنا
الله وإياكم للصواب، والسلام. ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... في ٢١ شوال سنة ١٣٢٩
* * *
... ... كتاب السيد الإدريسي في جواب سليمان باشا
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وهو حسبي وكفى، وأتم
الصلاة والسلام المقترنين بالتحيات القدسية على أشرف الخلائق المصطفى،
وصحبه معادن الصدق والوفا.
من محمد بن علي الإدريسي إلى أخينا في الدين صاحب السعادة سليمان
شفيق بن علي كمال متصرف وقمندان لواء عسير، سلك الله بنا وبه مسالك أهل
البصائر المبصرة، وأخذ بيدنا وبيده إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبينما النفس في قلق، والأنفاس تتصاعد
بنيران الأرق، مما فعل المسلمون بأنفسهم، بينما أسلافهم قد رفعوا لهم أعلام العز،
وشادوا على قوائم الدين دعائم العصمة والحرز، أولئك الذين استمسكوا بعروة الله
الوثقى التي ليس لها انفصام، وكان لهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل
عمران: ١٠٢-١٠٣) وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم أعظم اعتصام - إذ خلف
من بعدهم خلف أضاعوا الحقوق، واستبدلوا بإخاء الدين - الذي به ملاك الأمر-
القطيعة والعقوق، ليستعد أحدهم لأخيه بالمدمرات، ويعد أعظم المفاخر إذا صرعه
فمات، مع أن مجرد الإشارة بحديدة ورد فيها (من أشار إلى أخيه بحديدة لم تزل
الملائكة تلعنه حتى يشيمها [٣] ) هذا، وأعداء الملة من وراء هذه الأستار ينظرون
نظر المفترس إلينا، ويترقبون كلَّ آنٍ الفرصةَ لمحونا، ومن الحمق أن نخرب
بيوتنا بأيدينا، فأعنَّاهم بنا علينا، كأننا لم نتلُ في القول الصحيح أن التنازع يوجب
الفشل ويذهب الريح {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ} (الأنفال: ٤٦) فلا عجب من هذه الغمة، إذا حلت بنا معاشر هذه
الأمة، وانطوى على الهوان يومهم وأمسهم؛ لأنهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: ١٩) {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} (الأحقاف: ٣٥) {إنَّ الَّذِينَ
يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} (المجادلة: ٢٠) ولو أنهم اعتصموا
بحبل الله مولاهم، لكان لهم نعم المولى ونعم النصير وكفاهم، ولكان لهم ما كان
لأسلافهم؛ إذ دانت لهم المشارق والمغارب، وما قاومهم أحد إلا خذل؛ لأنهم حزب
الله وحزب الله كما كتب على نفسه هو الغالب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ
* إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: ١٧١-١٧٣)
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: ١١)
{وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: ٤٠)
ومهما هال العدو بما في يده من الآلات الشنيعة، فإنه والله ستنكشف عما هو
كسراب بقيعة {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: ٨١-٨٢) وأعداء الدين في
كل وقت أعظم عددًا، وأكثر استعدادًا وأقوى مددًا وجندًا ليحق الله قوله: {وَلَن
تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} (الأنفال: ١٩) {وَاللَّهُ
غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف: ٢١) {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} (الجن: ٢٤) ولا يزال الحق هذه صفاته وفي كل آن
ومكان هذه نعوته {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
العَلِيمُ} (الأنعام: ١١٥) .
فبينما الخاطر في هذه المهامه، والفكر في هذه المفاوز حيران وواله، وهل
من مستبصر مستهدٍ يأخذ في هذه المضايق بالأيدي - إذ ورد كتابكم الكريم المستحق
للاحترام والتعظيم والتفخيم، مسفرًا عما تحدو إليه الرغائب من الدعوة للاتحاد
ونبذ ما هو بجانب، فانشرح البال وأسرعت إلى داعيك وحمدت الله؛ إذ كانت
نسائم التوفيق تهب بناديك، متوكلين على الملك الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل،
وهل يرضى الله ورسوله إلا إذا كان المسلمون إخوانًا، يجاهدون في سبيله وعلى
الحق أعوانًا، ولقد أخذنا وأخذتم بذلك، حتى حالت أمور قد ذكرتم لا حاجة إلى
ذكر ما هنالك، وما ذكرتم من الهيئة فقد أرسلنا إليكم أخانا محمد يحيى ومعه جماعة
يتوجهون إلى رجال (المع) [٤] ولا تطمئن نفسه بالدخول إلى (أبها) فيتفق
بجانبكم بأطراف (المع) الشام وتحصل المذاكرة، وإن شرفتم بالقدوم فحيهلا
وسهلاً، وغيرنا وغيركم لا يكاد بهذه المقاصد أن يقوم، ولعلنا أن نكون السبب
في كشف هذه المشاكل من جميع الوجوه في أقرب وقت عاجل، فترتاح الدولة في
هذه الديار، بل في جميع الأقطار والأمصار، والأمور وإن تشعبت فإن مرجعها
إلى الله، وبيده الحركة والسكون وهو أهل الكرم، حاشاه أن يخيب من وفقه
للالتجاء إليه ودعاه، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والسلام عليكم (ورحمة
الله) وعلى من حواه المقام، ورحمة الله وبركاته في البدء والختام.
... ... ... ... ... ... غاية شوال سنة ١٣٢٩.
((يتبع بمقال تالٍ))