للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تاريخ الجهمية والمعتزلة [*]
(٤)
مقتل الجهم والحارث وما أفضى من الوقائع إليه
في سنة ١٢٨ ولي ابن هبيرة العراق، فكتب إلى نصر بن سيار بعهده على
خراسان، وطلب البيعة لمروان بن محمد بن مروان، فأبى الحارث، وقال: إنما
أمنني يزيد بن الوليد ولم يؤمني مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد فلا آمنه،
فخالف نصرًا، فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وإطماع
العدو، فلم يجبه إلى ما أراد، وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر: اجعل الأمر
شورى [١] فأبى نصر، وأمر جهم بن صفوان أن يقرأ سيرته؛ وما يدعو إليه على
الناس، فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جمعه، وأرسل الحارث إلى نصر ليعزل سالم
بن أحوز عن شرطته ويغير عماله، ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالاً يسمون
لهم قومًا يعملون بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان،
واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن
يكتب ما يَرْضَى هؤلاء الأربعة من السنن، وما يختارونه من العمال، فيوليهم ثغر
سمرقند وطخارستان.
وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم
يقبل، ثم تراضيا بأن حكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان، فحكما بأن يعتزل
نصر وأن يكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر، فخالفه الحارث وقدم على نصر
جمع من أهل خراسان، حين سمعوا بالفتنة، وأمر الحارث أن تقرأ سيرته
بالأسواق والمساجد وعلى باب نصر، فقرئت فأتاه خلق كثير، وقرأها رجل على
باب نصر، فضربه غلمان نصر فنابذهم الحارث وتجهزوا للحرب.
ودل رجل من أهل مرو الحارث على نقب في سورها، فمضى الحارث إليها
ونقبه ودخل البلد وقتل من وقف في وجه جماعته، وانتهبوا منزل سلم بن أحوز،
وركب سلم حين أصبح وأمر مناديًا فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع
الشمس حتى انهزم الحارث وقاتلهم الليل كله، وأتى سلم عسكر الحارث فقتل كاتبه،
واسمه يزيد بن داود.
وأسر يومئذ جهم بن صفوان فقال لسلم: إن لي وليًّا من ابنك حارث، فقال:
ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب،
وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى
أقتلك، والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما قمت، فقتله.
ثم غلب الكرماني على مرو، وخطب الناس فأمنهم، وهدم الدور ونهب
الأموال فأنكر الحارث عليه ذلك، ثم أتى الحارث مسجد عياض وأرسل إلى
الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني فانتقل الحارث عنه،
ثم اقتتل معه حتى قتل الحارث وأخوه وعدة، وذلك سنة ١٢٨.
هذا مجمل ما رواه الثقات في سبب مقتل جهم ومخدومه الحارث، وبه يعلم ما
كانا عليه من الحرص على إقامة أحكام الكتاب والسنة، وجعل الأمر شورى، وإباء
الانغماس في إمرة الظالمين، ورفض أعطياتهم والعمل لهم.
ومن تأمل ما قص يعلم أن قتل جهم كان لأمر سياسي لا ديني، وقد صرح
بذلك سلم رئيس شرطة نصر قاتله بقوله: (والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما
قمت) فتفطن ولا تكن أسير التقليد.
* * *
(٥)
من وهم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك
قدمنا أن مقتل جهم كان عام ١٢٨ كما حكاه الطبري وغيره. وقال الحافظ
ابن حجر في فتح الباري: أسند أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة له أن قتل جهم
كان في سنة ١٣٢ قال: والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة ١٢٨، وذكر
ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم
كانت سنة ١٣٠ قال: وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم
تراخى عن قتل الحارث بن سريج ثم قال: وأما القول بأن قتل جهم كان في خلافة
هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد
ذلك.
ولعل مستند القول به ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن
حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان:
أما بعد فقد نجم قِبَلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله. قال
ابن حجر: ولا يلزم من ذلك أن يكون قتلُه وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور
مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم.
ولا يخفى أن نبز هشام لجهم بأنه من الدهرية، في كتابه هذا - إن صح -
إنما أراد به زيادة الإغراء بقتله، ليكون حجة له، وتمويهًا على العامة، ومن لا
يدري حقيقة الأمر في هدر دمه. وقد علمت أن الباعث على قتله أمر سياسي
محض؛ لأن جهمًا كان خطيب الحارث وقارئ كتبه في المجامع، والداعي إلى
رأيه وإلى الخروج معه على بني أمية وعمالهم، لسوء سيرتهم وقبح أعمالهم وشدة
بغيهم كما أثرناه قبل.
ولا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل أن الدهرية لا يقرون بألوهية ولا
نبوة. وجهم كان داعية للكتاب والسنة، ناقمًا على من انحرف عنهما مجتهدًا في
أبواب مسائل الصفات فكيف يستحل نبزه بالدهرية، وهي أكفر الكفر، ومن هنا
يعلم أن لا عبرة بنبز الأمراء والملوك من ينقم عليهم سيرتهم بالألقاب السوءى،
والتاريخ شاهد عدل؛ وليس القصد التحزب لجهم والدفاع عن مذهبه وآرائه، كلا،
فأنا أبعد الناس عن التحزب والتعصب والتقليد، ولكن الإنصاف يدعو أن يذكر
المرء بما له وما عليه إذا أريد درس حياته ومعرفة سيرته، وذلك ما توخيناه هنا.
* * *
(٦)
فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول
قد حَكَى مذهب جهم وفلسفته أربابُ المقالات والمصنفون في الملل والنحل،
وكذا في كتب الكلام المطولة، وفيما صنف للرد عليه وعلى أتباعه الجهمية.
مرجع فلسفته وخلاصة مذهبه: هو تأويل آيات الصفات كلها؛ والجنوح إلى
التنزيه البحت، وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته، وأن يكون مرئيًّا في
الآخرة، وأن يتكلم حقيقةً، وأثبت أن القرآن مخلوق.
هذه أشهر مسائل جهم التي يقال لها (مقالة الجهمية) وله من الآراء سوى
ذلك، كالقول بنفي جهة العلو، والقول بالقرب الذاتي، وأن له تعالى مع كل أحد ذاتًا
كما حكاه الرازي الحنفي في كتابه حجج القرآن عن الجهمية، وأورد أدلتهم من
الكتاب والسنة فانظره.
كان من أعظم شبههم في باب الصفات: اعتقاد أن ظاهرها يفيد التشبيه
بالمخلوق أي أن ما يفهم من نصوصها يماثل ما يفهم من صفات المخلوق، فظاهر
معناها التمثيل، وهو مستحيل فيجب التأويل.
وقد رد عليهم: بأن الظاهر المفهوم لو كان المراد به خصائص صفات
المخلوقين حتى يشبه المولى بخلقه، لما خالف أحد في رده ونفيه؛ لأن هذا ليس
مرادًا بالاتفاق، للقطع بأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في
أفعاله، إلا أن هذا ليس هو ظاهرها، وإنما ظاهرها ما يليق بالخالق تعالى. وليس
في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا، والصفة تتبع موصوفها، فكما أن ذاته
المقدسة ليست كذوات المخلوقين فكذلك صفاته.
بهذا يقرب الأمر من رفع الخلاف [٢] إذ الظاهر عند خصوم الجهمية غيره
عندهم، فانفكت الجهة وللإمام ابن دقيق العيد تقريب آخر قرره في ذلك حيث قال:
المنزهون لله عن سمات الحدوث ومشابهة المخلوقات بين رجلين: إما ساكت عن
التأويل وإما متأول؛ ثم قال: والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم
التنزيه، فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه، فيؤخذ كما يؤخذ سائر الأحكام.
إلا أن يدعي مدع أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع، أعني المنع من
التأويل، ثبوتًا قطعيًّا، فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح، وقد يتعدى بعض
خصومه إلى التكذيب القبيح بالمنع الصريح. اهـ.
قال العلامة المقبلي في العلم الشامخ، بعد نقله ذلك - ونعم ما قال -:
(وتقريب مسافة الخلف بين الفريقين كان يمكن بمثل هذين التقريبين وغيرهما، لولا
تعصب الحزبين كما سنبينه في آفة التعصب) .
وبالجملة فتأثير مذهب الجهمية في الأفكار، إنما كان تنبيها إلى التأويل،
وسلوك منهج المجاز في تلك المسائل، وكان هذا الباب موصدًا قبلها، لا يطرقه
أحد ولا يخطر له.
ثم درج المعتزلة على أثر الجهمية، قال الغزالي في الإحياء، مشيرًا إليهم،
فمن مسرف [٣] في رفع الظواهر، انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو
أكثرها، حتى حملوا قوله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} (يس: ٦٥)
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ
شَيْءٍ} (فصلت: ٢١) وكذلك في الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل
النار وأهل الجنة في قولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: ٥٠) زعموا أن ذلك كله بلسان الحال ثم قال الغزالي: وأولوا من
صفاته تعالى الرؤية، وأولوا كونه سميعًا بصيرًا، وأولوا المعراج وزعموا أنه لم
يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر [٤] ، وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر
الأجساد، والجنة واشتمالها على الملاذ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم
محسوس محرق يحرق الجلود. اهـ.
* * *
(٧)
... ... ... مناظرة الجهم مع بعض السمنية
... ... وإفحامه إياه، وما علق على هذه المناظرة
روي أن الجهم لقي بعض السمنية [٥] الخصمين، فقال له السمني: أريد
مناظرتك، فإن ظهرت حجتي عليك دخلت في ديني، وإن ظهرت حجتك دخلت في
دينك، فكان مما كلم به الجهم أن قال له: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم،
فقال له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه، قال: لا، قال:
فشممت له رائحة، قال: لا، قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا، قال: فوجدت
له مجسًّا؟ قال: لا، قال: فما يدريك أنه إله؟
فأخذ الجهم في حج السمني بمثل حجته، فقال له: ألست تزعم أن فيك روحًا؟
فقال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال لا،
قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يسمع له
صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون
مكان.
هذا ما حكاه الإمام أحمد في الرد على الجهمية آثرناه باختصار وقوفًا على
موضع الشاهد من فطنة جهم وبلاغته في إفحامه خصمه.
قال الإمام ابن تيمية في التسعينية، بعد حكاية ذلك: لما ناظر الجهم مَن
ناظره من المشركين السمنية من الهند الذين جحدوا الإله؛ لكون السمني لم يدركه
بشيء من حواسه، لا يبصره بسمعه، ولا بشمه، ولا بذوقه، ولا بحسه، كان
مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس، فإنه ينكره ولا يقر
به، فأجابهم الجهم أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه
الحواس وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا
الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين ثم قال ابن تيمية: والحجة التي ذكرها
مشركو الهند باطلة، والجواب الذي أجاب به الجهم باطل، وذلك أن قول القائل ما
لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره، إما أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر
إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس، أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما
أحس به العباد في الجملة، أو بما يمكن الإحساس به في الجملة. فإن كان أراد
الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية
أنهم ينكرون من العلم ما سوى الحسيات، فينكرون المتواترات والمجربات
والضروريات النقلية وغير ذلك، إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن
جمع من العقلاء في مدينة أو قرية.
وما ذكر من مناظرة الجهم لم يدل على إقرارهم بغير ذلك، وذلك أن حياة بني
آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير
أخبارها وفي الأعمال أيضا، فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود، وأن له أبا
وطئ أمه، وأُمًّا ولدته، وهو لم يحس بشيء من ذلك بحواسه الخمس، بل أخبر
بذلك ووجد في قلبه ميلاً إلى ما أخبر به، وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام
والأخوال والأجداد وغير ذلك، وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا، وكذلك لا
ينكر أحد من بني آدم أنه وُلِدَ صغيرًا، وأنه رُبِّيَ بالتغذية والحضانة ونحو ذلك حتى
كبر، وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا ينكر طائفة من بني
آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه، ولذته وألمه، ورضاه وغضبه،
وحبه وبغضه، وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة، بل يعلمون أن
غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك، وذلك مما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة،
وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما في غير مدينتهم من المدائن والسير
والمتاجر؛ وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به، وهم مضطرون إلى ذلك،
وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناءون، والطبيخ الذي يطبخونه
طبخه الطباخون، والثياب المنسوجة التي يلبسونها نسجها النساجون، وإن كان ما
يقرون به من ذلك لم يحسه أحد بشيء من حواسه الخمس وهذا باب واسع، فمن
قال: إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور، فقد قال الباطل.
وقول من يقول من المتكلمين: إن السوفسطائية قوم ينكرون حقائق الأمور،
وإنهم منتسبون إلى رئيس لهم يقال له سوفسطاء، وإن منهم من ينكر العلم بشيء
من الحقائق، ومنهم من ينكر الحقائق الموجودة أيضًا مع العلوم، ومنهم اللاأدرية
الذين يشكون فلا يجزمون بنفي ولا إثبات، ومنهم من لا يقر إلا بما أحسه، قد رد
هذا النقل والحكاية من عرف حقيقة الأمر، وقال: إن لفظ السوفسطائية في الأصل
كلمة يونانية معربة، أصلها سوفسطا: أي الحكومة المموهة، فإن لفظ (سو)
معناه في لغة اليونان الحكمة؛ ولهذا يقولون: فيلاسوفا أي محب الحكمة، ولفظ
فسطا معناه الحكومة المموهة، ومعلم المستأخرين المبتدعين أرسطو لما قسم حكمتهم
التي هي منتهى علمهم إلى برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة، وهي
المغاليط سماها سوفسطا؛ ثم ظن بعض المتكلمين أن ذلك اسم رجل؛ وإنما أصلها
ما ذكر.
وإن كان لفظ السفسطة قد صار في عرف المتكلمين عبارة عن جحد الحقائق،
فلا ريب أن هذا يكون في كثير من الأمور، فمن الأمم من ينكر كثيرًا من الحقائق
بعد معرفتها كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} (النمل:
١٤) وقد يشتبه كثير من الحقائق على كثير من الناس كما يقع الغلط للحس أو
العقل في أمور كثيرة، فهذا كله موجود كوجود الكذب عمدًا أو خطأ.
أما اتفاق الأمة على إنكار جميع العلوم والحقائق أو على إنكار كل منهم لما لم
يحسه، فهو كاتفاق أمة على الكذب في كل خبر، أو التكذيب لكل خبر، ومعلوم أن
هذا لم يوجد في العلماء، والعلم بعدم وجود أمة على هذا الوصف كالعلم بعدم وجود
أمة بلا ولادة ولا اغتذاء وأمة لا يتكلمون ويتحركون، ونحو ذلك مما يعلم أن البشر
لا يوجدون على هذا الوصف.
فالقول بوجود أمة لا تقر بشيء من المخبرات إلا أن تحس المخبر بعينه ينافي
ذلك، وإذا كان كذلك فأولئك المتكلمون من المشركين والسمنية الذين ناظروا الجهم
قد غالطوا الجهم ولبَّسوا عليه، حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر
به، فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم: ما لا يحسه الإنسان لا يقر به: هل المراد
به هذا أو هذا، فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة،
وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك، وإن أرادوا المعنى الثاني، وهو
أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به، فهذا لا يضر تسليمه لهم، بل يسلم لهم
ويقال لهم: فإن الله تعالى تمكن رؤيته وسمع كلامه، بل قد سمع بعض البشر
كلامه، وهو موسى عليه السلام وسوف يراه عباده في الآخرة، وليس من شرط
كون الشيء موجودًا أن يحس به كل أحد في كل وقت، أو أن يكون إحساس كل أحد
به في كل وقت، فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك، بل متى كان الإحساس به
ممكنًا ولو لبعض الناس في بعض الأوقات، صح القول بأنه يمكن الإحساس به،
وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ
يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (الشورى: ٥١) وهذا هو الأصل الذي
ضل به جهم وشيعته حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يُرى ولا يُحس به بشيء من
الحواس كما أجاب إمامهم الأول للسمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه،
ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم على نقض هذا الأصل الذي
بناه الجهمية، وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يُرى ويُسمع كلامه وغير
ذلك، وأثبتوا أيضا بالمقاييس العقلية أن الرؤية يجوز تعلقها بكل موجود فيجوز
إحساس كل موجود، فما لا يمكن إحساسه يكون معدومًا، ومنهم من طرد ذلك في
اللمس، ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من المتكلمة الصفاتية
الأشعرية وغيرهم.
والمقصود هنا أن أولئك المشركين المناظرين قالوا كلامًا مجملاً، فجعلوا
الخاص عامًّا والمقيد مطلقًا حيث قالوا: أنت لم تحسه، وما لم تحسه أنت لا يكون
موجودًا، والمقدمة الثانية باطلة لكن موهوها بالمعنى الصحيح، وهو أن ما لا يمكن
إحساسه بحال لا يكون موجودًا. اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
البقية تأتي
((يتبع بمقال تالٍ))