للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


نظرة في الحرمين الشريفين
ومشروع جماعة خدام الكعبة

إن السبب الذي دعا مؤسسي مشروع جماعة خدام الكعبة إلى تأسيسه هو
اعتقادهم أن الحكومة العثمانية لم تعد قادرة على حماية الحرمين الشريفين، وقد
دعي الشيخ الجليل النواب وقار الملك الشهير إلى الانتظام في سلك جماعة خدام
الكعبة فقبل ذلك مع الفخر والشكر، ولكنه اعتذر عن حضور جلسات لجنة الجماعة
لضعفه وكتب مقالة في بعض الصحف قال في أوائلها ما ترجمته:
الأصل أن كل دين إذا لم تكن له قوة شديدة تحافظ عليه فبقاؤه وثباته وحفظ
آثاره في منتهى العسر والصعوبة، وقد يخرج أحيانًا عن الإمكان، وإن ما فعله
نصارى البلقان المغيرون من إكراه مئات الألوف من المسلمين على التنصر بقوة
السيف لا وجه له إلا أن الترك ما كانوا يقدرون على كفهم ومنعهم لتلك الأسباب
التي نعلمها كلها، والثاني عدم وجود قوة شديدة في هذا الوقت تحتفظ بها حرية
المسلمين.
ثم قال النواب الجليل: إن الاتكال على مشروع خدام الكعبة يخالف الفتوة
والعزم، وإن من رأيه أنه يجب على المسلمين أن يوقنوا - مع التمسك القوي بهذا
المشروع - أن الترك هم العنصر الإسلامي الوحيد في الدنيا الذين إذا تطهروا من
النقائص الداخلية والخارجية يمكنهم أن يقوموا على أحسن وجه في المستقبل - إن
شاء الله - بما كانوا قائمين به إلى الآن من المحافظة على تلك الأماكن والقيام بخدمة
الكعبة المعظمة.
ثم أورد آراء ونظريات وتمنيات في حال الترك وما يترتب على ميلهم إلى
التجارة والحرفة والصناعة إذا هم مالوا، وبنى على تلك الآراء والنظريات أنهم
يمكنهم حماية إخوانهم وجيرانهم الإيرانيين فوق حماية البلاد المقدسة وغيرها،
وكانت نتيجة آرائه دعوة مسلمي الهند إلى مساعدة الدولة العثمانية بالمال، لتحقيق
هذه الآمال، وذلك بشراء قراطيس الدَّيْن الذي أصدرته نظارة المالية العثمانية.
نتيجة حسنة لا نناقشه في مقدماتها من هذه الجهة بل نشكر له هذه الدعوة فإن
أقل فائدتنا من إمداد إخواننا مسلمي الهند لدولتنا بالمال أنه ربما استغنى بذلك عن
بيع أراضي بلادنا للأجانب وقد عرضتها للبيع رسميًّا، وهذا أكبر المصائب علينا
وعلى حرمنا، ولكنه قال في سياق كلامه كلمة عن العرب لا بد لي من ذكر
ترجمتها هنا، وبناء البحث في خدمة الكعبة المعظمة بل الحرمين الشريفين عليها
وعلى الكلمة الأولى التي قالها في إخواننا الترك، وذكرناها في فاتحة كلامنا هنا،
وهي:
(إن شجعانا أقوياء مثل العرب عشاق الإسلام إذا مزجوا دمهم بعرقهم في
المحافظة على الكعبة وروضة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية الأماكن المقدسة مع
الأتراك فلا يمكن لأي قوم في الدنيا مقابلتهم في جبالهم ورمالهم، ومتى ما عرف
العرب ومهروا في العلوم والفنون الجديدة التي بدأ الترك بسلسلتها من إنشاء
الجامعات في البلاد العربية، فاعلموا أن هؤلاء العرب هم أولاد أولئك العرب الذين
نشروا إلى مدة من الزمن أنوار العلوم في جميع الدنيا) اهـ.
أقول: يا ليت صديقنا النواب الجليل الصادق النية كان واقفًا على حقيقة حال
العرب والترك ليؤلف بعقله المنطقي الكبير أقيسة مقدماتها صحيحة فتأتي بالنتائج
الصحيحة التي نحتاج إليها من مثله، وإنني مضطر بسائق المصلحة الإسلامية إلى
أن أقول له:
(١) إن إخواننا الترك ليسوا هم الحماة للحرمين الشريفين إلى الآن.
(٢) وإنهم ليسوا أرقى من إخوانهم العرب في العلوم والفنون والعمران.
(٣) وإنهم دونهم في التجارة والزراعة والكسب.
(٤) وإنه لا يوجد أحد في الدنيا يقدر على حماية الحرمين من العدو الأجنبي
إلا عرب الجزيرة من الحجازيين واليمانيين والنجديين والعراقيين والشآميين.
(٥) وإن دولة الترك هضمت حقوق العرب، وتعمدت إضعافهم وجعل
الحرمين وما حولهما أبعد بلاد الدنيا عن العلوم والفنون والعمران.
(٦) وإننا قمنا بعد الدستور نطالبها بحقوق العرب كافة على قاعدة
اللامركزية لتقوى وتعمر كل بقعة بحسب حالها المناسب لها في طبيعة الاجتماع
البشري.
(٧) وإنها كانت تقابل مطالبنا بالاحتقار والسخرية والسعي في تفريق الكلمة
حتى علمت أن عاقبة هذا خسر وخطر فجنحت للوفاق. وسيتم إن الله تعالى على
الوجه النافع المرضي، فإن نازعني في مقدمة من هذه المقدمات؛ فأنا مستعد لبيانها
له بالتفصيل.
بقيت المسألة الحربية والشجاعة: إن العرب قسمان: بدو وحضر، فالحضر
من القطرين الشآمي والعراقي مشاركون لإخوانهم الترك في علم الفنون العسكرية
الأوربية وفيهم مئات من الضباط أركان الحرب، وغير أركان الحرب متخرجون
في أوربة وفي الآستانة، والعسكر يؤخذ من عرب ولايات القطرين وما بينهما
كالموصل وديار بكر بالنظام الذي يؤخذ به من الولايات التركية، وكل منهما آية في
الشجاعة ولكن ضباط الترك أكثر.
وقد ظهر لنا بالعيان أن الحرب النظامية التي يدير حركتها هؤلاء الضباط هي
التي أذلتنا وأسقطت قيمة شجاعة جنودنا في الحرب البلقانية الأخيرة وفي الحرب
الروسية التي كانت قبلها، وكانت مقدمة لاستقلال هؤلاء البلقانيين بعد أن كان
أكثرهم تابعًا لدولتنا، ونُسِبَ فيهما لقواد الترك من الخيانة ما لم يتلوث بمثله العرب،
ولا يشك أحد في أن سلانيك عاصمة أحرار الترك والمركز العام لجمعية الاتحاد
والترقي قد أخذها اليونان غنيمة باردة بخيانة حسني باشا ورجاله.
ونحن لا نحب المفاضلة بين العرب والترك في أمر مشترك بينهم كالجندية
وإنما ذمنا هنا خاص ببعض القواد والرؤساء الذين كانوا سبب كل بلاء حل بدولتنا
لا للعنصر التركي. على أنه قد كان للعرب في هذه الحرب البلقانية حملات خصهم
العالم بالثناء عليها. لا أفضل شعبًا على شعب في الشجاعة والحرب ولكنني أقول:
إن المدرسة الحربية وغيرها من مدارس الآستانة لم تفسد من دين العرب وأخلاقهم
كما فسدت من غيرهم.
وأما البدو من العرب ومن على شاكلتهم من سكان المدن والقرى في عقر
الجزيرة فهم أشجع قلبًا وأشد بأسًا من حضر العرب والترك الموصوفين بالمدنية
حتى إن عرب اليمن ونجد يصفون الجندي العثماني بالجبن والضعف، ولو كان
هؤلاء القوم يعرفون من النظام العسكري ما يعرفه الجند العثماني ويحملون من
السلاح ما يحمله لكان التابور منهم يغلب عشرة توابير من غيرهم.
قد أصبح من البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان أن الجيش العثماني لا يقدر
على صد أية دولة من الدول الكبرى إذا أرادت الاستيلاء على الحجاز وإنما يقدر
على ذلك عرب الحجاز واليمن ونجد والشآم والعراق، لا يحتاجون فيه إلا إلى
القوت الضروري والسلاح والذخيرة، واتفاق الكلمة، فإن هؤلاء كانوا مستعدين بما
ذكرنا للدفاع عن حرمهم وبلادهم لا يمكن أن تتجرأ دولة أوربية على الاصطلاء
بنارهم؛ لأسباب متعددة منها: شجاعتهم وصبرهم وعدم مبالاتهم بالموت، ومنها
أنهم لا يقفون في وجه عدوهم ويحاربونه حربًا نظامية يقضى بها على معسكرهم إذا
غلب، بل يتألفون عصابات تهاجم مكان الضعف منه عند إصابة الغرة، فإن لقيتْ
ما لا قِبَل لها به فرتْ من وجهه في صحاريها واعتصمتْ بجبالها حتى تصيب غرة
أخرى، ومنها طبيعة البلاد وتعذر معيشة الأوربي فيها، ومنها أن الخسارة الكبيرة
فيها ليس وراءها ربح مادي يكون عوضًا منها. وقد انقرض التاريخ الذي كان
الأوربيون يسفكون فيه أنهار الدماء لأجل الانتقام الديني أو عظمة الملوك وقهر
أعدائهم.
كل ما يمكن أن تفعله دولة أوربية بحرية في هذه السبيل هو أن تستولي على
سواحل جزيرة العرب فتبدأ منها بما عدا الحجاز كاليمن وحضرموت والعراق
وسورية ثم تجعل سواحل الحجاز تحت مراقبتها البحرية فتمنع عنه السلاح، وتلقي
العداوة والبغضاء بين أمراء الجزية، فتغري بعضهم ببعض، وتساعد من يستجيب
لها على خصمه بالمال حتى إذا ما فل الحديدُ الحديدَ، وبأس القوم بينهم شديد،
وضبطت موارد الرزق ومنع السلاح تعقد الدولة التي تفعل ذلك مع كل أمير وزعيم
في جهة من جهات الجزيرة اتفاقًا على حرية التجارة وتأمين التجار وغيرهم،
ويدخل وراء ذلك الخمر وتجاره والبغاء وفجاره، والمبشرون وكتبهم، كما وقع في
مسقط والكويت وجميع بلاد الدولة، فيقع العداء الشديد بين الشعب ورؤسائه ويتم
لأعدائهم ما يريدون منهم. وكم أظهر دعاة النصرانية من الإفرنج الشغف والميل
والرجاء والأمل بأن ينشروا دعوتهم في جوار الكعبة وعرفات ومسجد المصطفى
عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وكم أظهر متعصبو السياسة ما يتمنونه من نقل الكعبة
والقبر الشريف ووضعهما في اللوفر أو غير اللوفر من دور التحف والعاديات في
أوربة؛ لتكون أثرا تاريخيا يفتخرون به: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا
تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: ١١٨) .
فالواجب على الدولة العثمانية أولا وبالذات أن تعترف بالاستقلال الإداري
والدفاعي لجميع إمارات البلاد العربية ومنها الحجاز وعسير واليمن بشرط أن لا
تنفرد إمارة منها بعقد اتفاق ولا معاهدة مع الأجانب لا سياسة ولا اقتصاد، وأن
تساعدها على تنظيم إدارتها، وقوى الدفاع فيها وعمرانها بالوسائل المقنعة المرضية
عند أهلها، وجمع كلمة أمرائها، وأن يكون الجند الذي ينظم فيها عونًا للدولة على
أية دولة أجنبية تحاربها بقدر الاستطاعة وبهذا تربح الدولة قوة كبيرة لا تنفق عليها
شيئا من المال، وتستفيد إخلاص العرب في هذه الإمارات وفي ولاياتها السورية
والعراقية، ولا تخسر في مقابلة هذا الربح شيئًا فإنها منذ أعلنت امتلاكها لتلك
الإمارات في جزيرة العرب إلى هذا اليوم لم تربح خزينتها منها شيئًا بل خسرت
الملايين من الأموال ومئات الألوف من الرجال وتخريب البلاد وإفساد العمران.
فبهذا يحفظ الحرمان الشريفان من عدوان الأجانب، فإن الشيء لا يحفظ إلا بحفظ
سياجه.
فإن قيل: إن الدولة ما تعمدت إضعاف العرب وحرمت بلادهم حتى الحرمين
الشريفين من العلم إلا خوفًا أن يعتزوا ويقووا فيستقلوا دونها ويستعيدوا الخلافة
الإسلامية فكيف تسعى هي إلى تقويتهم؟ فالجواب أن هذا اللقب قد جنى على
الإسلام والمسلمين أكبر الخطوب والمصائب وكان أشد أسباب ضعفهم من حيث لم
ينفعهم شيئًا؛ وأنا أضمن أن أولئك الأمراء يرضون بأن يعترفوا لسلطان الدولة
بالخلافة إذا هي رضيت بما ذكرنا.
والواجب على المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يساعدوا أهل تلك البلاد
المقدسة على كل ما به حفظها وحياتها الدينية والمدنية سواء وفقت الدولة للقيام بما
يجب عليها لها أم لم تقم بذلك، وإنما تطلب المساعدة منهم بالمال ثم بالرجال الذين
يصرفون ذلك المال في إنشاء المدارس والملاجئ وأسباب القوة والعمران، وتحسين
معيشة العربان، وإذا نجحت جمعية خدام الكعبة وأصلحت قانونها فإنها تستطيع أن
تؤدي خدمة جليلة يشكرها لها الله تعالى من فوق عرشه ويثيبها عليها ويشكرها لها
جميع المسلمين، ومتى رأوا باكورة ثمرتها يدخلون فيها أفواجًا والله الموفق
والمستعان.