للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

أسئلة من بلدة العطف في القطر المصري
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن
والاه إلى جناب ينبوع الفضائل، ومتبوع الأفاضل، الأستاذ الجليل السيد محمد
رشيد رضا، مد الله في مدته، السلام عليكم ورحمة الله.
أما بعد فإني سائلكم - لا عدمكم المسلمون - عن أمور اشتدت الحاجة إليها
نلتمس إجابتنا عنها بمناركم الأنور، ولكم من الله تعالى الجزاء الأوفر.
(س٢٢) فنسألكم عن آلات الملاهي من طبول ومزامير وذوات أوتار
وفونوغراف هل فيها قول يجوز تقليده؟ فإنا نجد في بعض كتب المالكية وبعض
رسائل كرسالة الشيخ النابلسي وكرسالة للأمير المالكي ذِكْر قولٍ بالجواز مع إيراد
ما يشعر بجواز العمل به؟
(س ٢٣) وهل يعول على ما يذكره الأئمة من أن من قال كذا شعرًا نال كذا
أجرًا كقول الشعراني من قال عقب كل صلاة جمعة:
إلهي لست للفردوس أهلاً ... ولا أقوى على نار الجحيم
فهب لي توبة واغفر ذنوبي ... فإنك غافر الذنب العظيم
خمس مرات توفي مؤمنًا بلا شك. نقله عنه الباجوري في حاشيته على أبي شجاع
الشافعي؟ فإن قلتم: نعم، فما مستند ذلك، ومثله إنما يؤخذ عن الشارع ولم ينقل
عنه - فيما أعلم - أنه وعد على شعر بأجر خاص؟ وإن قلتم: لا، فكيف استجاز
الأئمة ذكر ذلك مع أن منهم المجمع على جلالته كالسيوطي فقد أورد من هذا شيئا
في كتاب الأرج في الفرج؟
(س ٢٤) هل يجوز لبس شيء شك في أنه حرير دودة أو حرير زراعة؟
وهل من علامة تميز بينهما أو يرجع في ذلك لذوي الخبرة بهذا الشأن؟
(س ٢٥ و٢٦) هل يحرم شرب الدخان في مجلس القرآن؟ إن قلتم: نعم
فهل هو إجماعي أو ثم قول يجوز تقليده بالحل؟ وهل ضابط المجلس العرف أو ما
هو؟ فإن القراء قد يختصون بنحو دكة، والسامعون معهم في نحو خيمة واحدة
على دكك أخرى فيشرب البعض تعللا بأن المجلس إنما هو محل القارئين والعرف
يأبى ذلك، وما دليل تحريم الشرب المذكور مع حدوث الدخان بعد زمن النبوة؟
نلتمس الإجابة عن ذلك، لا برحتم ملجأ للسائلين المبتغين سواء السبيل آمين.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد علي الطباخ
... ... ... ... ... ... ... ... ... بالعطف البحيرة
* * *
سماع آلات الطرب
بينا في الجزء الأول والثاني من مجلد المنار العاشر خلاف العلماء في سماع
آلات الطرب وأدلة من حظرها وأدلة من أباحها والترجيح بينها؛ فعلم من ذلك أن
سماعها مباح لذاته، وقد يعرض له الحظر إذا ترتب على السماع معصية، فليرجع
السائل إلى ما نشرناه هنالك عسى أن يعرف الحق في المسألة بدليله.
* * *
الثواب المعين على إنشاد شعر معين
ما ذكر في السؤال شيء لا دليل له من أدلة الشرع، فلا يعول عليه، ولا
يُلتفت إلى ناقله كائنًا من كان، ولا يقبل كلام أحد في ثواب الآخرة وعقابها إلا
بدليل عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الشعراني الذين نقل عنه
الباجوري ذلك القول في البيتين ليس من الأئمة المجتهدين، ومن اتفق الناس على
إمامتهم في فقه الدين ليس كلامهم حجة ولا شرعًا بالإجماع، وإنما معنى إمامتهم أن
لهم مسالك في فهم النصوص والاستنباط منها وترجيح متعارضها قد استفاد منها
الناس وتبعوهم فيها وهي التي سميت مذاهب.
* * *
لبس المشكوك فيه هل هو حرير أم لا
من شك في ثوب هل هو حرير محرم أم لا؟ يجوز له أن يلبسه لأن الحرمة
لا تثبت بالشك والاحتياط أن لا يلبسه حتى يراجع أهل المعرفة ويخرج من الشك
إلى اليقين. والعبرة في مثل هذا بأهل الخبرة الذين يوثق بمعرفتهم.
* * *
شرب الدخان في مجلس القرآن وحكم شربه
قد سبق لنا إفتاء عن هذا السؤال، ونقول الآن بالإيجاز: تعظيم القرآن
واحترامه واجب قطعًا وإهانته محرمة قطعًا بل يكفر متعمدها، والعمدة في ذلك
القصدُ ويجب فيه مراعاة العرف، والأصل في الدخان الحل إلا إذا كان ضارًّا؛ إذ
يحرم تناول كل ضار بالإجماع.
***
الحلف بالرسول والحلف بغير الله
(س٢٧ و٢٨) من صاحب الإمضاء بمصر (ورد من عدة سنين ونُسِيَ)
حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار:
سأل سائل عن الحلف بغير الله تعالى فقال قوم: يجوز الحلف برسوله صلى
الله عليه وسلم فأنكرتُ ذلك لعدم مشروعيته، فنسب آخرُ للمنار تقرير جواز الحلف
بغير الله تعالى من نبي وولي، فأسأل من فضيلتكم بيان الحق بهذه المسألة على
صفحات المنار بدون إحالة على أعداد سابقة خدمة للدين المبين واقبلوا في الختام
سلامًا واحترامًا.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي يوسف
... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بمصر
حاشية: وأرجو بيان حكم الحلف بغير الله تعالى.
(ج) صح في الأحاديث المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن الحلف بغير الله، ونقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على عدم جوازه قال
بعضهم: أراد بعدم الجواز ما يشمل التحريم والكراهة؛ فإن بعض العلماء قال: إن
النهي للتحريم وبعضهم قال: إنه للكراهة. وبعضهم فصَّل فقالوا: إذا تضمن
الحلف تعظيم المحلوف به كما يعظم الله تعالى كان حرامًا، وإلا كان مكروهًا.
أقول: وكان الأظهر أن يقال: إن المحرم أن يحلف بغير الله تعالى حلفًا يلتزم
به فعل ما حلف عليه والبر به؛ لأن الشرع جعل هذا الالتزام خاصًّا بالحلف به أي
بأسمائه وصفاته، فمن خالفه كان شارعًا لشيء لم يأذن به الله. وبهذا يفرق بين
اليمين الحقيقي وبين ما يجيء بصيغة القسم من تأكيد الكلام وهو من أساليب اللغة،
وقد قالوا بمثل هذه التفرقة في الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
للأعرابي: (أفلح وأبيه إن صدق) فقد ذكروا له عدة أجوبة منها نحو ما ذكرناه،
قال البيهقي: إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم،
والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف.
قال النووي في هذا الجواب: إنه هو الجواب المرضي. وأجاب بعضهم
بقوله: إن القسم كان يجري في كلامهم على وجهين للتعظيم وللتأكيد، والنهيُ إنما
وقع عن الأول. وأقول: إن هذا عندي بمعنى قول البيهقي. وقيل: إنه نسخ وقيل:
إنه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ردوهما.
والظاهر أن ما كان من حلف قريش بآبائها كان يقصد به التعظيم والالتزام ما
حلف عليه، ولذلك كان من أسباب النهي وإلا فلأنهم مشركون غالبًا.
روى أحمد والشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان
حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وفي لفظ (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله)
فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: (لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم والنسائي.
وروى الشيخان عنه أيضًا (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله) رفعه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وهو حصر، وفي معناه حديث أبي هريرة عند أبي داود
والنسائي وابن حبان والبيهقي مرفوعًا (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم
صادقون) .
فهذه الأحاديث الصحيحة، ولا سيما ما ورد بصيغة الحصر منها، صريحة
في حظر الحلف بغير الله تعالى، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم
(غير الله تعالى) والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا تعظيمًا يليق به؛ ولا يجوز أن
يعظم شيء كما يعظم الله عز وجل ولا سيما التعظيم الذي يترتب عليه أحكام شرعية،
ولقد كان غلو الناس في أنبيائهم والصالحين منهم سببًا لهدم الدين من أساسه
واستبدال الوثنية به، ونسأل الله الاعتدال في جميع الأقوال والأفعال.
***
ترك العمل يوم الجمعة
(س٢٩) من صاحب الإمضاء بمصر:
سيدي العلامة المفضال السيد محمد رشيد أفندي رضا حفظه الله.
ربما علمتم بحركة تجار دمشق واتفاقهم على إغلاق حوانيتهم ومحلاتهم في
كل يوم جمعة، ولكن هذا لم يرق لبعض المشاغبين كالشيخ عبد القادر الخطيب
المعلوم عند سيادتكم وأمثاله فتكلموا مع الوالي بعدم صلاحية ذلك وإجبار التجار على
الشغل في ذاك اليوم فطلب الوالي بعضًا من التجار وخاطبهم بهذا الشأن استحسانًا لا
جبرًا، فما قبلوا فلما رأى الشيخ عبد القادر الخطيب المومأ إليه أن سعيه لدى الوالي
لم يفده بشيء خطب في الجامع الأموي وقال: إنه لا يجوز الإغلاق في يوم الجمعة
واستدل بقول الخفاجي على أنه تشبه باليهود والنصارى وأورد الآية الكريمة الواردة
بحق يوم الجمعة، وأنه لطلب الرزق إلى آخر ما أملاه عليه ضميره.
فالمسألة أخذت دورًا مهمًّا في دمشق لذلك كتب إليَّ جماعة من التجار يطلبون
أن أعرض هذا الأمر لفضيلتكم وتقدم لهم النصوص الواردة في يوم الجمعة، ومن
علماء المذاهب الأربع في الأزهر، وترد إليهم ذلك حالاً فلذا لكوني اعتبرت
واعتادت الأمة الإسلامية الاستنارة بعميم فضلكم أرجوكم التفضل بكتابة ما ورد بحق
يوم الجمعة وسبق منذ ثلاث سنين سألت فضيلتكم مثل هذا السؤال من السودان
وأجبتم عليه في المنار وبه عمل فأدام الباري فضيلتكم سيدي.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حمدي النجار
(ج) سبق للمنار بيان هذه المسألة وفصلنا القول فيما ورد في يوم الجمعة
في مقالات المسلمين والقبط، التي جردت من المنار وطبعت في رسالة على حدتها
فيمكنكم إرسال نسخة منها أو أكثر إلى من كفلوكم أن تسألونا عن النصوص الواردة
في يوم الجمعة. هذا وإن قول الشيخ عبد القادر الخطيب: إنه لا يجوز إغلاق
المحلات التجارية يوم الجمعة - إن صح - غريب جدًّا، لا من حيث إنه اجتهاد
منه وهو يحرم الاجتهاد في هذا العصر، فإن هذا ديدن جميع الذين يغلطون بالإنكار
على المصلحين الذين يدعون الناس إلى الاهتداء بالكتاب والسنة يزعمون أن هذا
الاهتداء يستلزم الاجتهاد الذي أغلق أمثالهم بابه بالقول، فهم ينكرون الاجتهاد قولاً
ثم تراهم يحرمون على الناس بأهوائهم ما أحله الله لهم ويستدلون على ذلك بما لا
يدل عليه من الآيات والأحاديث وهو عين ما ينكرون من الاجتهاد.
والاهتداء بالكتاب والسنة الذي يدعو إليه المصلحون لا يستلزم مثل ذلك فإنه
قد يكون مع الاستعانة على فهمهما بكلام ثقات المفسرين والمحدثين.
فإذا كان من يدعي تحريم إغلاق المحلات التجارية يوم الجمعة أو كراهته
شرعًا مقلدًا لأحد الأئمة فليأتنا بنص من كلامه أو نقل ثقات أصحابه المدونين
لمذهبه في ذلك؛ وإن كان مجتهدًا فلكل أحد أن يسأله عن دليله، وفي السؤال أنه
استدل على ذلك بقول الخفاجي: (إنه تشبه باليهود والنصارى) وهذا غير صحيح
بل هو مخالفة لهم؛ لأن اليهود يتركون العمل يوم السبت وخالفهم النصارى فتركوا
العمل يوم الأحد، فلو قال فيمن يتركون العمل يوم الأحد من المسلمين في بلاد
مصر وبيروت إنهم تشبهوا بالنصارى لكان له وجه، وأما من يتركون العمل يوم
الجمعة فلا وجه لدعوى أنهم متشبهون بهم إلا إذا صح الاستدلال بالشيء على ضده،
فإن تشبه الإنسان بقوم إنما هو أن يفعل مثل فعلهم بحيث يشتبه حاله بحالهم فيظن
من لا يعرفه أنه منهم. ولا يقول عالم ولا عاقل: إن التشبه بأجناس العمل العامة
يكون محل بحث، وإلا لكان من مقتضى عموم التشبه أن تترك كل أعمال العمران
التي سبقونا إليها من فنون وضروب الصناعة والزراعة والتجارة، وقد فصلنا
مسألة تشبه المسلمين بغيرهم غير مرة، ومن أوسعها بيانًا الفتوى ٦٩ من المجلد
الرابع عشر (ص٩٠٧ - ٩١١) فليراجعها من شاء.