للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: جمال الدين القاسمي


تاريخ الجهمية والمعتزلة
(١٧)
بيان أن انقسام الناس إلى التجهم يشبه انقسامهم إلى التشيع
وذلك ثلاث درجات:
قال الإمام ابن تيمية: ليس الناس في التجهم على مرتبة واحدة، بل انقسامهم
في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من
أعظم البدع التي أُحْدِثَتْ في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من
القرامطة ونحوهم إنما يستترون بهذين بالتجهم والتشيع، وقد كان أمرهم إذ ذاك لم
ينتشر ويتفرع ويظهر فساده كما ظهر فيما بعد ذلك.
فإن الرافضة القدماء لم يكونوا جهمية، بل كانوا مثبتة للصفات، وغالبهم
يصرح بلفظ الجسم وغير ذلك، كما قد ذَكَرَ الناسُ مقالاتهم، كما ذكر أبو الحسن
الأشعري وغيره في كتب المقالات.
والجهمية لم يكونوا رافضة بل كان الاعتزال فاشيًا فيهم، والمعتزلة كانوا
ضد الرافضة، وهم إلى النصب أقرب، فإن الاعتزال حدث من البصرة،
والرفض حدث من الكوفيين، والتشيع كثر في الكوفة، وأهل البصرة كانوا بالضد،
فلما كان بعد عهد زمن البخاري من عهد بني بُويه، فشا في الرافضة التجهم
وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورًا كثيرًا، وجرى حوادث عظيمة.
والقرامطة بنوا أمرهم على شيء من دين المجوس وشيء من دين الصابئة،
فأخذوا عن هؤلاء الأصلين: النور والظلمة، وعن هؤلاء العقل والنفس، ورتبوا
لهم دينًا آخر ليس هو هذا ولا هذا، وجعلوا على ظاهره من سيما الرافضة ما يظن
الجهال به أنهم رافضة، وإنما هم زنادقة منافقون، اختاروا ذلك؛ لأن الجهل
والهوى في الرافضة أكثر منه في سائر أهل الأهواء.
والشيعة هم ثلاث درجات:
شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئًا من الإلهية أو يصفونه بالنبوة وكفر
هؤلاء بيِّنٌ لكل مسلم يعرف الإسلام وكفرهم من جنس كفر النصارى من هذا الوجه.
والدرجة الثانية وهم الرافضة المعروفون كالإمامية وغيرهم الذين يعتقدون أن
عليًّا هو الإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنص جلي أو خفي، أو أنه ظلم
ومنع حقه، ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما، وهذا هو عند الأئمة سِيَّما
الرافضة وهو بغض أبي بكر وعمر وسبهما.
والدرجة الثالثة المفضلة: من الزيدية وغيرهم الذين يفضلون عليًّا على أبي
بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما، فهذه الدرجة وإن كانت
باطلة فقد نسب إليها طوائف من أهل الفقه والعبادة وليس أهلها قريبًا ممن قبلهم،
بل هم إلى أهل السنة أقرب منهم إلى الرافضة؛ لأنهم ينازعون الرافضة في إمامة
الشيخين وعدلهما وموالاتهما، وينازعون أهل السنة في فضلهما على علي،
والنزاع الأول أعظم، ولكن هم المرقاة التي تصعد منه الرافضة، فهم لهم باب.
وكذلك الجهمية على ثلاث درجات: فشرها الغالية: الذين ينفون أسماء الله
وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا هو مجاز، فهو في الحقيقة
عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم،
وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما ذكره في الرد على
الزنادقة والجهمية، قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا، ولكنهم يدفعون
عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد
من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف
بصفة، قالوا: نعم، قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا، إنما تدفعون
عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى،
قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منتفية
، وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله، ولا يعلم
أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلال.
وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات والإبانة: الذين نفوا صفات رب
العالمين، وقالوا: إنه لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر، إنما أخذوه عن
إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا
سميع ولا بصير، غير أن هؤلاء لم يستطيعوا أن يظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره
فأظهروا معناه، وقالوا: إن الله عز وجل عالم قادر سميع بصير من طريق التسمية
من غير أن نثبت له علمًا أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا، وقد أفصح بذلك رجل يعرف
بابن الأباري كان ينتحل قولهم، فزعم أن البارئ تعالى عالم قادر سميع
بصير في المجاز لا في الحقيقة.
وهذا القول وهو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة هو قول القرامطة الباطنية،
ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة الفلاسفة.
والدرجة الثانية من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله
الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته، وهم أيضا لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها
على الحقيقة، بل يجعلون كثيرًا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون.
والدرجة الثالثة هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من
التجهم كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه
وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها، كما تأول الأولون صفاته كلها. ومن
هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من
أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث ومنهم من يقر بالصفات الواردة في
الأخبار أيضًا في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص
وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه.
وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام
والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية
والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم
إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه
من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه.
وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر، وقدموهم على أهل السنة
والإثبات وخالفوا أوليهم ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر الناس يقولون: إن
هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات. اهـ. [١]
***
البحث الثاني في المعتزلة وفيه مطالب:
(١)
التعريف بالمعتزلة
هذه الفرقة، كفرقة أهل السنة والجماعة، من أعظم الفرق رجالاً، وأكثرها
تابعًا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية
والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في
الأصول، كما قاله العلامة المقبلي في العلم الشامخ، وهؤلاء يعدون في المسلمين
بالملايين، بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلاً عن أن يظن أنهم
انقرضوا، وأن لا فائدة للمناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان
ومذاهب أهلها.
أما البلاد المنتشر فيها مذهب السلف الأثرية خاصة في العقائد، فهي بلاد نجد
بتهامها، فإنها سلفية الاعتقاد، لكن يغلب عليهم الجفاء، والغلو، وفي بلاد الهند
طوائف سلفية داعية إلى مذاهب السلف بنشر كتبه ودرسها. وفي العراق والحجاز
والشام ومصر جماعات قليلة منهم يغلب عليهم الاعتدال.
وأما السواد الأعظم من معظم البلاد الإسلامية فعلى مذهب الأشعري أعني ما
يدعي أنه مذهبه من تلك العقائد المبثوثة في كتب المتأخرين المتداولة، وإلا
فالأشعري قد صرح في كتابه الإبانة [*] بأنه على مذهب الإمام أحمد في الاعتقاد
تصريحًا لا شبهة فيه. ولا أدل على مذهب المرء وعقده من كلامه أو ما خطته
يمينه، وسنذكر في آخر البحث ما دعا إلى انتشار مذهب الأشعري، فانتظر.
* * *
(٢)
سبب تلقيبهم بالمعتزلة
قال الإمام عبد القادر البغدادي في كتابه الفَرْق بين الفِرَق: كان واصل بن
عطاء من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة، وكان الناس
يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق:
- فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك بالله، وهو قول
الأزارقة.
- وفرقة تزعم أن صاحب الذنب المجمع على تحريمه كافر مشرك.
- وفرقة تقول: إنه منافق.
وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب
الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل وبالكتب المنزلة من الله
تعالى؛ ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا
ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام؛ فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز،
واختلف الناس في أصحاب الذنوب على ما ذكرنا خرج واصل بن عطاء عن قول
جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل
الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، فلما سمع الحسن البصري من واصل
بدعته هذه طرده عن مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة وانضم
إليه صديقه عمرو بن عبيد، فقال الناس يومئذ فيهما: إنهما قد اعتزلا قول الأمة،
وسمي أتباعهما من يومئذ معتزلة، ثم إنهما أظهرا أقوالهما في المنزلة بين المنزلتين،
وضما إليها دعوة الناس إلى قول القدرية على رأي معبد الجهني. اهـ. ملخصًا.
وذكر ابن خلكان في ترجمة قتادة البصري، أحد كبار علماء التابعين، أن
قتادة دخل مرة مسجد البصرة فإذا بعمرو بن عبيد ونفر معه قد اعتزلوا من حلقة
الحسن البصري، وحلقوا وارتفعت أصواتهم، فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن،
فلما صار معهم عرف أنها ليست هي فقال: إنما هؤلاء المعتزلة ثم قام عنها. اهـ.
* * *
(٣)
تلقيب المعتزلة بالجهمية
عُلم مما أسلفنا من حياة جهم وفلسفته أن انتشار آراء جهم وشيوع مسائله بين
أولي العلم ولهج الناس بها كما سبق العصر الذي ظهرت فيه المعتزلة، إلا أنه سبق
قريب، فإن هذه الفرق والنِّحَل الإسلامية كانت تترى يأتي بعضها إثر بعض،
وربما تعاصرت، وقد يخمل بعضها بنباهة بعض، أو تندغم إحداها في الأخرى؛
لما يجمعهما من القول بمسائل تتفقان عليها، ومن ذلك المعتزلة مع الجهمية، فإن
المعتزلة أخذت عن الجهمية القول بنفي الرؤية والصفات وخلق الكلام ووافقتها
عليها، وإن كان لكل فروع واختيارات غير ما للأخرى، إلا أن ما توافقوا فيه من
هذه المسائل الكبيرة جعلهم كأهل المذهب الواحد، فلذلك أطلق أئمة الأثر لفظ
الجهمية على المعتزلة، فالإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية، والبخاري في
الرد على الجهمية ومن بعدهم، إنما يعنون بالجهمية فيه المعتزلة؛ لأنهم كانوا في
المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية، ولكن كان غرض المتقدمين بالرد
والمناقشة الجهمية؛ لأنها الأم لغيرها، والسابقة على سواها في الظهور، بل هي
أول فئة ظهرت في الإسلام بمذهب التأويل، وقام حزبها بالدعوة إلى مذهبها في
ريعان الدولة الأموية كما تقدم، فلذا غلب عند السلف اسمها على غيرها ممن قاربها
وتلقى عنها.
بما ذكرناه يزول الإشكال والاشتباه الذي يراه بعضهم من ذكر الجهمية في تلك
المسائل، مع أنها في عرفهم وما يدرسونه في كتب الكلام المتأخرة، مضافة إلى
المعتزلة، وحاصل دفع الإشكال، أن تلقيبهم بالجهمية كان لما وجد من موافقتهم
للجهمية في تلك المسائل مع مراعاة سبقهم فيها على المعتزلة، وتمهيدهم السبيل
للتوسع فيها فاحفظه.
قال الإمام ابن تيمية في منهاج السنة [٢] : لما وقعت محنة الجهمية نفاة
الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا
الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، وطلبوا أهل السنة للمناظرة، لم تكن
المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية
والضرارية وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي، وليس كل جهمي معتزليًّا، لكن
جهم أشد تعطيلاً؛ لأنه ينفي الأسماء والصفات، وبشر المريسي كان من المرجئة
ولم يكن من المعتزلة، بل كان من كبار الجهمية. اهـ.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))