للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


نظرة
في كتب العهد الجديد
وفي عقائد النصرانية
تابع ما قبله
لهذا كله كان اليهود معاصروه يرون أنفسهم أرقى منه علمًا ونفسًا وأخلاقًا
وتدينًا [١] وما كانت تعجبهم أحواله وأعماله حتى كانوا يعيرونه بكثرة شرب الخمر
وحب الخطاة كما سبق (لو ٧: ٣٤) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم ير فيه
معاصروه أدنى عيب ولم يطمع أحد منهم في مسابقته في العلم والفضل، والكمال
والعقل والصدق والإخلاص، والصلاح والتقوى، حتى عرف بين مشركيهم من
صغره بالأمين المأمون، وكان لهم نبراس الهدى ومثال الكمال بينهم في كل شيء
ففاقهم بمراحل واسعة، وأما المسيح بحسب هذه الأناجيل فلم يفق الوسط الذي كان
فيه.
هذا مع ملاحظة أنه لم ينقل لنا عنه إلا القليل من أخبار حياته، وأن مدة بعثته
كانت قصيرة جدًّا، وأن الناقلين لأخباره هذه هم صفوة أتباعه وأخلص تلاميذه الذين
كانوا كما تقول النصارى ملهمين من الله، معصومين من الكذب والخطأ والنسيان
في كل ما كتبوه عنه. فكيف بعد ذلك يليق بعاقل منصف أن يفضل عيسى على
محمد وآداب المسيحية وتعاليمها على آداب الإسلام وتعاليمه؟ وهو الذي لم ينشر
إلا التقوى والفضيلة بين الناس، ونص كتابه صريحًا ببراءة بعض أنبيائهم مما
رموهم به من الكبائر (راجع القرآن ٢: ١٠٢و ٢٠: ٨٧ - ٩٣) ولم يذكر من
تاريخ الآخرين إلا ما فيه عبرة وما به تغذية النفوس بالصلاح والاستقامة وتحصين
الأخلاق والآداب بسياج الفضائل، فلم ينسب لهم شرب الخمر ولا السكر به، ولا
الخيانة ولا الزنا ولا الغش ولا الكذب، ولا التعدي على بناتهم بالفسق فيهن، ولا
عمل الأصنام لأممهم ولا الشرك بالله وعبادة غيره، إلى غير ذلك مما لا فائدة في
نشره عن الأنبياء إلا إشاعة الفاحشة بين الناس والاستخفاف بالدين ومخالفة أوامره
ونواهيه والكفر بالله أو الشرك به؛ وخصوصا لأن كتبهم ذكرت بعض هذه الجرائم
ولم تذكر معها ما يُنَفِّر منها كما ترى في سفر التكوين مثلا، فللناس أن يقولوا: إذا
كانت الأنبياء لم تقو على الاستقامة فكيف نقوى عليها، ونحن أقل منهم في كل
شيء، وإذا كان الله لم ينبذهم مع أننا نرى أن بعضهم لم يتب من ذنبه أو كفره فَلِمَ
نخافه أو نخشاه؟ ومن ذلك يعلم أن القرآن قد امتاز عن كتبهم بالفضائل وبالآداب
العالية وبالحث الكثير على الصلاح والتقوى والتوبة حتى إنه لم يذكر عنهم مثل ما
ذكرته كتبهم عن نوح مثلا (تك ٩: ٢٠ ٢٧) [٢] ولوط (تك١٩: ٣٠ - ٣٨) [٣]
وإسحاق (تك ٢٦: ٧) ، ويعقوب (تك ٢٧: ١٩) ، وهارون (خر٣٢:
١٦ [٤] ) [٥] وداود (٢ صم: ٢ ٢٧) وسليمان (امل ١١: ٥ و٦) وغيرهم من
أنبياء الله الأمناء الطاهرين أقامهم الله ليكونوا قدوة حسنة ومثالاً صالحًا للناس، فهل
قدرة الشيطان عندهم وصلت إلى حد أن قلب على الله غرضه أيضًا في ذلك كما
قلبه عليه مرارًا في غير ذلك مما بينا آنفًا (راجع ص ١٢٣ من هذه الرسالة وص
١٠٩ و ١١٠ من رسالة الصلب) حتى جعل الذين أراد الله أن يكونوا مثالاً حسنًا
للناس وهداية لهم وقدوة صالحة جعلهم شر الأشرار فأتوا من الشرور ما تنفر منه
طباع أحط البشر أخلاقًا كزنا الإنسان ببناته وكيف يقبل الناس على تعاليمهم بعد
فعالهم هذه؟ وكيف سردت كتبهم أكثرها كما قلنا بطريقة لا تشعر بشناعتها ولا
ببشاعتها ولا بالإنكار على فاعلها، ونبذه كنبذ النواة؟ راجع كتاب دين الله (ص
٦٧ -٧١) ثم راجع أيضًا قصة داود وسليمان مع شمعي بن جبرا (في ١مل ٢:
٨ و ٩ و ٣٦ ٤٦) وفيها ترى أن داود وهو على سرير الموت يوصي ابنه سليمان
بقتل هذا الرجل (شمعي بن جبرا) بعد أن أقسم له بالله أنه لا يقتله فسلط ابنه عليه
وهو محتضر. وسيرة داود عندهم معروفة مشهورة وقساوته وظلمه لا مثيل لهما
(حاشاه) حتى إنه نشر أسرى بني عمون بالمناشير ونوارج الحديد والفؤوس (٢
صم ١٢: ٣١ و ١ أي ٢٠: ٣) وسيرهم في أتون الآجر أي أحرقهم بالنيران
(راجع كتاب دين الله ص ١٢٥ و١٢٦) وداود هذا هو الرجل الذي نصت كتبهم
على أنه كان بارًّا ولم يعص الله قط إلا في مسألة أوريا وزناه بزوجته وتعريضه
للقتل بكتاب أرسله معه وهو لا يعلم ما فيه، فقال سفر الملوك الأول (١٥: ٥)
عنه (لأن داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما أوصاه
به كل أيام حياته إلا في قضية أوريا الحثي [٦] ) [٧] وهو صريح في أن الله راض عن
داود في كل أعماله السيئة الشنيعة القاسية إلا مسألة أوريا وهم لا يزالون يرتلون
مزاميره ويعبدون الله بها! ! فما بالهم الآن يطعنون على محمد لجهاده الأعداء الذين
آذوه وآذوا أمته وفعلوا بهم من الاضطهاد والقتل ما فعلوا.
أما اغتياله لبعض أعدائه المحاربين له ولأمته فقد تكلمنا عليه في كتاب
(الإسلام) ص ٥٨ ٦٠ (راجع أيضا كتاب (صدق المسيحية) في الإنكليزية ص
٢٥١ و٢٥٢ ففيه كلمة في هذا الموضوع دفاعًا عن كتبهم الآمرة بإبادة الكنعانيين [٨]
يصح أن تكون أيضا دفاعًا عن الجهاد وقتل الأعداء ولو غيلة) وكان لداود أيضا
نساء عديدة وامتن الله عليه بإعطائهن إياه (٢صم ١٢: ٨) فما بال النصارى لا
يرون الخشبة في أعينهم ويرون القذى (إن سلم أنه قذى) في أعين غيرهم؟
فتراهم يستحسنون كل ذلك ويجعلون المسيح المثال الأكمل للبشر على ما وصفته
كتبهم به مما سبق ذكره، وأما محمد فينبذونه ويستقبحون أعماله، وهو الذي أصلح
العالم كله وخلصه من الشرك والوثنية وعبادة البشر والصور والصلبان والأصنام
ودعا بوحي الله إلى كل خير وحرم الخمر بتاتًا وأمر باجتناب كل شر وضرر وأتى
بمكارم الأخلاق الصحيحة قاطبة، وفرض على أتباعه الصلوات الخمس وحث على
قيام الليل وعبادة الرحمن وأوجب الصوم والزكاة وفعل كل خير بالأيتام والفقراء
وأبناء السبيل والأسرى والرقيق وغير ذلك مما فصَّلناه في كتبنا (الدين في نظر
العقل الصحيح) و (الإسلام) و (دين الله في كتب أنبيائه) وغيرها وأصلح حال
المرأة إصلاحًا لم يسبقه به أحد، ودعا للعمل للدنيا والآخرة كقول القرآن:
] وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [وغيره مما ذكرناه سابقًا.
ثم إنك ترى أن جميع تعاليمه عملية وصالحة لخير هذا المجتمع ولا تزيده إلا
عزًّا ورفعة وعلمًا وتقدما ومدنية وهي بعيدة عن كل عيب أو غلو أو استحالة ولا
يرد علينا بحال المسلمين اليوم فإن الإسلام (كما في القرآن والسنة النبوية) غير
مسلمي هذا الزمان وفقهم الله لمعرفة حقيقة دينهم التي أخفاها عنهم الجهل والتقليد.
ومن تمسك بحال مسلمي اليوم فهو كالمتمسك بحال نصارى القرون الوسطى
أو نصارى الحبشة ونحوهم الآن مستدلاًّ على قبح المسيحية وانحطاطها، فهل هذا
من الإنصاف والعقل في شيء؟ !
... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي
((يتبع بمقال تالٍ))