للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد توفيق صدقي


تذييل للفصل السابق
في النبيذ عند العرب

ننقل هنا ما يأتي بحروفه عن كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) لأحد علماء
الشيعة المحققين بالعراق، قال حفظه الله (في صفحة ٦٨ - ٧١ من الجزء الأول) :
إن المتكلف (يريد صاحب كتاب الهداية) كان شاعرًا بما في كتب العهدين من
تلويث قدس الأنبياء وخصوصًا المسيح بشرب الخمر فحاول أن يموه على البسطاء
المغفلين ويلوث قدس خاتم المرسلين بشربها فتشبث لذلك بأخبار آحاد لم يتحقق
سندها ولم يفهم مدلولها، ولو أنها صحت وكانت لها مداخلة في أصول الدين لكانت
أجنبية عن مقصوده الممتنع عليه.
فقال في الهداية (١ج ص ١٣) : إن محمدًا شرب الخمر، وذكر عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى السقاية في مكة وقال اسقوني من هذا
فقال العباس ألا نسقيك مما في بيوتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا ولكن اسقوني
مما يشرب منه الناس، فأُتِيَ بقدح من نبيذ فذاقه فقطب ثم قال هلموا وصبوا فيه
الماء ثم قال زد فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ثم قال: إذا صنع أحد منكم هكذا
فاصنعوا به هكذا.
وذكر ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله عطش وهو يطوف
بالبيت فأتِيَ بنبيذ من السقاية فشمه ثم دعا بذَنُوب (أي: دلو) من ماء زمزم فصب
عليه ثم شربه فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال: لا.
وقد غفل المتكلف أو تغافل عن أن اسم النبيذ مأخوذ من النبذ وهو الطرح،
وقد كان النبيذ على قسمين:
أحدهما: أن يطرح التمر أو الزبيب في الماء في الأواني التي تصبر على
التمادي إلى أن يبلغ حد الإسكار كأواني الدباء وهو القرع اليابس، والمزفت وهي
أو أن تطلى بالزفت، والحنتمة وهي أوان خزفية تدهن بالقلي ونحوها، فيترك
زمنًا طويلاً إلى أن يبلغ حد الإسكار.
وثانيهما: أن ماء الحجاز كان مرًّا مضرًّا فيطرح فيه لمداواة طعمه وطبعه ما
يتمكن الأعرابي منه في ذلك الزمان وهو قليل من التمر فإن ترقى فالزبيب بمقدار
الكف أو أقل يطرحونه في السقاء غدوة فيشربونه عشيًّا ويطرحونه عشيًّا فيشربونه
غدوة حينما يؤثر طعم التمر أو الزبيب في الماء حلاوة ما.
وقد تضافرت الأخبار الكثيرة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان
ينهى عن نبيذ الدباء والمزفت والحنتمة بسبب أنه يصبر عليه حتى يبلغ حد الإسكار
ويرخص في نبيذ الأسقية وهو أن يطرح في السقاء كف ونحوه من التمر أو الزبيب
فيشرب في يومه أو صبيحة ليلته حينما يطيب طعم الماء بحلاوة التمر أو الزبيب؛
لأن أسقية البيوت لا تحتمل أن تشغل زمنًا طويلا بالنبيذ، ولا تقوى على بقائه [١]
إلى أن يختمر ويتعفن ويبلغ حد الإسكار.
انظر إلى مسند أحمد وغيره من كتب الحديث. فعلى المتكلف في تشبثه بما
ذكر من الحديثين إن صحا في الجامعة الإسلامية (يعني إجماع المسلمين) أن يعين
دلالتهما على أن النبيذ المذكور فيهما كان من القسم المسكر المخمر لا الذي ذكرنا أنه
يطرح فيه قليل من التمر أو الزبيب لمحض تطييب طعم الماء على عادة أهل
الحجاز، ونحن نقول: إن المتعين كون النبيذ فيهما من هذا القسم لا القسم المسكر
لوجوه:
(أولها) أنه لو كانت في مكة مصانع للنبيذ المسكر كمصانع أوربا لما
وسعت كفاية الألوف العديدة من الحجيج في الأيام الكثيرة وهو يُعْطَى مجانًا لهم،
وكيف يقوى العباس على ذلك؟
(وثانيها) أن السقاية في مكة كانت لإرواء الحجيج من العطش لا أنها
حانوت خمار.
(وثالثها) أن هذه الواقعة إن كانت فإنما تكون بعد فتح مكة في أواخر أيام
النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتضى الأخبار التي يذكرها المتكلف (الهداية ١ ج
ص ٢٣ و ٢٤) أن الخمر حرمت في أوائل الهجرة. وفي ما ذكره عن ابن مسعود
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما شربه: إنه ليس بحرام، مع أن حرمة
النبيذ المسكر كانت حينئذ مقررة معلومة في الإسلام.
(ورابعها) الذي يكشف الحجاب ما صح نقله عن جعفر الصادق وهو الإمام
السادس من أهل البيت حيث قال في نبيذ السقاية: إن العباس كانت له حبلة وهي
الكرم فكان ينقع الزبيب غدوة فيشربونه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربونه غدوة يريد
أن يكسر به غلظ الماء على الناس.
وأما سر تقطيبه صلوات الله عليه في رواية ابن عباس فليس لأن النبيذ الذي
أُعْطِيَ له كان من القسم المسكر، بل لأن حلاوة التمر والزبيب كانت زائدة على
المتعارف من نبيذ الأسقية، فإن الحلاوة إذا ظهر أثرها مع مرارة الماء كانت من
المهوعات، فزاد عليها من الماء إلى أن ردها إلى النحو المتعارف، وأرشدهم إلى
أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه هذا النحو من المشروب لإصلاح طعم الماء.
ولو تنزلنا وفرضنا أن النبيذ المذكور في الروايتين كان من القسم المسكر لكانتا
دليلاً على أنه صلوات الله عليه كان يعاف المسكر ويشمئز ويقطب وجهه الشريف
منه، ولم يشربه حتى أخرجه عن موضوعه وصورته بإراقة الماء الكثير عليه [٢]
أفبهذا يتشبث الكاتب ويقول بملء فمه ومهوى قلمه: إن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم شرب الخمر [٣] ؟ ! وقد فات المتكلف المتشبث أن في أخبار الآحاد التي
لا تقيم لها الجامعة الإسلامية وزنًا ما يساعفه على مقصوده بعض المساعفة، فقد
روي في مسند أحمد أن رجلا كان إذا قدم المدينة أهدى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم خمرًا فقدم مرة ومعه زق خمر ليهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقيل له: إن الخمر قد حرمت. ولكن ماذا يعمل الوهم من هذا الخبر في مقابلة
متواترات الآثار ومعلومات السير بأن قدس رسول الله لا تحوم حوله هذه الأوهام،
وقد جاء عنه صلوات الله عليه في مستفيض الحديث من طريق أهل البيت قوله
صلى الله عليه وسلم: أول ما نهاني عنه ربي شرب الخمر وعبادة الأوثان،
وكفاك أن مشركي قريش، والعرب قد تمحلوا في تكذيب رسول الله وكابروا
الوجدان وغالطوا العيان بدعواهم أنه صلوات الله عليه مجنون، ولو أنه صلوات الله
عليه كان يمكن أن يُرْمَي بشرب الخمر والمسكر ليتيسر لهم أن يقولوا بلا
مكابرة للوجدان أن ادعائه صلى الله عليه وسلم للرسالة والوحي إنما هو من
صورة الخمر وعربدة السكر وخيالات الخمر. ولكنه كان صلوات الله عليه ولم يكن
لقائل فيه مغمز. فياذا الرشد والفكر الحر الذي لم يستأثر للعصبية والتقليد سألتك
بفضيلة الصدق وشرف النفس هل كان من الرشد وأدب الكاتب أن يتغاضى هذا
المتكلف عما لوثت به الكتب الإلهامية في نحلته قدس الأنبياء، وخصوصا المسيح
بشرب الخمر وحضور مجلس السكر صريحًا، ويتشبث لتلويث قدس رسول الله بهذه
الأوهام. اهـ.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))